مرور أربعة أشهر على وفاة الروائي والأكاديمي والباحث والناقد المغربي محمد أنقار عن سن يناهز 72 عاماً ليس بالمدة الكافية التي يمكن أن تنسي عشاق الراحل، الذي جمع بين أكثر من فن في مجال الثقافة والأدب والنقد... نظرا لتألقه بعطاءاته طيلة عقود عديدة بسطت شعاعها على مساحات واسعة من مساراته وتجاربه الإبداعية، سواء داخل المغرب أو خارجه؛ فقد ظل عنوانا بارزا طيلة عمله وإبداعه، في الساحة الإبداعية المغربية والعربية: رواية وقصة ونقدا وسينما وسيرة... وتجمع مؤسسات ثقافية وجمعوية عديدة، من أهمها اتحاد كتاب المغرب ورابطة أدباء الشمال المغرب، وعدة شخصيات أدبية وثقافية وازنة من المغرب وخارجه، على الحضور القوي للراحل أنقار في مسيرته الأدبية والإبداعية والنقدية، بعد أن فرضت إيقاعاتها، وحضرت بثقلها في العديد من المناسبات والملتقيات والعلمية والفكرية، كما يرى الناقد محمد البغوري في مقال له بصحيفة "قاب قوسين" الموسوم ب "محمد أنقار التطواني كاتب المصري وشيخ الرماية".. مبدعاً وناقداً. نشر محمد أنقار عددا من القصص والمقالات النقدية في العديد من الجرائد والمجلات المغربية والعربية، وشارك في العديد من ندوات النقد الأدبي ومهرجانات المسرح المدرس، وأغنى المكتبة المغربية ببحوث ودراسات وأعمال إبداعية في شتى مجلات المعرفة، وترك دراسات في السرد والمسرح وأدب الأطفال... واضعا بصماته في مجال القصة والرواية. ولعل أبرز ما أنجزه في مجال القصة "زمن عبد الحليم"، و"مؤنس العليل"، و"الأخرس"، كما اشتهر برواياته "المصري"، و"باريو مالقة". في هذه الرواية يسترجع محمد أنقار بداية حياته بمدينة تطوان وبحي "باريو مالقة" تحديدا، مستلهماً عذوبة ماضيه المزدحم بالذكريات الجميلة، والرموز المشفرة وغير المشفرة، تتوقف بين الحين والآخر، بشريط العمر الواضح والصريح على ضفافه التي لم يغادرها أنقار، بعدما اجتاز بحواسه الروائي إلى الآفاق البعيدة في سماء الإبداع الذي يخترق كل الحدود والمسافات. ويرى بعض النقاد أن تطوان استهوت محمد أنقار وسكنته بقوة الانتماء والحنين والعشق. ففي أكثر من محطة روائية إبداعية، تحضر بقوة الذاكرة والواقع والخيال الجميل الباذخ، بأمكنتها وحواريها وتخومها، بكل ما تنطوي عليه من تنوع وألوان ومذاقات. هكذا ينهل محمد أنقار كما يؤكد الناقد محمد البغوري ويتغذى منها ليولد سروده وحكاياه، وصناعته الأدبية والتاريخية اللذيذة والساحرة. تنكشف تطوان بأسماء رجالها ونسائها وعيالها، بأسويائها وبلهائها، بمشرديها ومقهوريها، تفيض في شتى التجليات والمظاهر، من أمكنة وفضاءات، وشخوص وأحداث وتاريخ، وقيم المجتمع التطواني، وخصوصية تطبع عادات وأنماط عيش هذه المدينة، وتقاليد لها وصل بالأكل، وفن المائدة، وبطقوس الأفراح والأتراح، وعناوين كثيرة، كما يقول الناقد ذاته. كثيرا ما أعجبت تطوان بأنقار وإبداعاته، ففي لقاء مفتوح حول رواية أنقار "باريو مالقه"، بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل في 2008، احتفت المؤسسة الأكاديمية بالرواية التي احتفت بدورها بأمكنة تطوان العتيقة وتصويرها روائيا في زوايا متعددة. فرواية "الباريو"، كما جاء في اللقاء، تعيد الحياة إلى حارة مألوفة لجميع التطوانيين، إنها رواية الأحاسيس الإنسانية بامتياز، فرواية "باريو مالقه"، بحسب الناقد عبد السلام دخان، تأتي تتمة لتجربة أنقار الروائية "رواية المصري" الصادرة عن دار الهلال المصرية. ويقر أنقار، في حوار صحافي أجراه معه الناقد محمد العناز بجريدة الاتحاد الاشتراكي، بأن رواية "باريو مالقة" تمثل تقاطعاً إبداعياً لاهتماماته بالرواية الاستعمارية على مستوى الأعلام وأسماء الأماكن والشواهد المكتوبة باللغة الإسبانية. وهذا راجع إلى اشتغاله الطويل برصد صورة المغرب في الرواية الاستعمارية التي جعلته يفكر باستمرار في الرد الكتابي. وسبق له أن عالج ذلك نقدا في كتابه "بناء الصورة"، ثم قارب الموضوع إبداعا "باريو مالقه". لكنه يعترف بأن نموذجاً روائياً واحداً لن يستطيع الرد على ركام من الروايات الاستعمارية. وبالانتقال إلى رواية "المصري" الصادرة في طبعتها الأولى، عن روايات الهلال سنة 2003، يتماهى سردها مع روائية المصري نجيب محفوظ، ويقع في أسر جاذبيته وسحره، ويحاول أن يحذو حذوه ويقفو خطوه، بكتابة رواية عن مدينته الأثيرة تطوان، كما كتب نجيب محفوظ رواياته عن مدينته القاهرة، يقول الناقد نجيب العوفي. فرواية المصري، كما ينقل العوفي عن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، مرثية للعمر الجميل، وقصيد سردي شجي وحفي في مديح وعشق تطوان وتمسح بأركانها. ويرى أن أنقار يجول بالقارئ في شوارع وأزقة تطوان العتيقة العريقة. فهو يجول بالزمن التطواني العتيق الآيل للغروب والمعرض لرياح التحول والتبدل، كما جال نجيب محفوظ بقرائه في أمكنة وأزمنة القاهرة العتيقة الآيلة للغروب والمعرّضة لرياح التغيير. فرواية المصري لها وجهان متماهيان، يقر العوفي، وجه مصري مرجعي مهيمن هو نجيب محفوظ، ووجه مغربي إرجاعي هو أحمد الساحلي الواقع في أسر نجيب محفوظ، المتقمص لمصريته، وهو يخترق عتاقة وأجواء مدينته. ويؤكد العوفي أن "تطوان أنقار" مصرية ومحفوظية بامتياز، يحضر فيها نجيب محفوظ وتحضر معه أجواؤه القاهرية العتيقة وشخوصه الروائية الفريدة، في كل خطوة يخطوها السارد أحمد الساحلي في فضاءات تطوان، بدءا من حومة البلد إلى الطرانكات إلى السويقة إلى العيون... بكل الأزقة والدروب والحيطان والانعطافات والسقوف والدور والدكاكين والحجارة الأرضية التي تنطوي عليها هذه الحارات العتيقة. هذا الاختيار الإبداعي والأدبي عموما كانت له مرجعية عند محمد أنقار، فقد اختار الأدب الخالد الذي لا يموت أبدا، كما باح به للناقد محمد العناز في حواره الصحافي. ويقصد الأدب المكتوب بالدم والعرق والنفَس والرؤيا. يؤكد ذلك مهما تراجعت القراءة، وهيمنت وسائط التواصل الاجتماعي الجديدة، وتتشاءم المبدعون. بل ظل أنقار متفائلا ببقاء ثمة نفس إنسانية حساسة ترصد الخفايا، وتبشر بالأمل، وتشجع الإنسان المبدع على تحمل الرسالة وإيصالها. فلا بد أن يكون للأدب مستقبل. ولتحقيق ذلك، يرى في الحوار نفسه أن خدمة المجتمع لا يجب أن تخضع أدبياً لنموذج إبداعي واحد معد سلفاً. إن كل أدب عميق التأثير لا يعطي ظهره أبداً للمجتمع. غير أن رياح التغيير الأخيرة لا بد أن تجعل المرء يعيد النظر في كل أدواته وتصوراته. وهو الأمر الذي أكده الدكتور عبد الرحيم جيران في كلمته في اللقاء المفتوح حول روايته "الباريو مالقة" التي أشار فيها إلى ضرورة عودة المثقف إلى الاضطلاع بأدواره الطلائعية في الاحتفاء بالأدب والثقافة. عاش محمد أنقار صامتا.. ورحل إلى ربه شامخا في أخلاقه وتواضعه وإبداعه، بعد خلوات في مجال الكتابة دامت لعقود في ذلك الحي "الباريو مالقة"، وتحديداً في الطابق الأول من منزل والده بشارع الأخماس، كانت البداية مع عشق القراءة والكتابة والكتب، وواصل حتى الرحيل. وفي أثناء ذلك جمع بين الكتابة والإبداع والفكر والأخلاق والعفة... فكان صاحب قلم عفيف وفكر ثاقب مؤسِّس وإنسانية بارزة. كان لهذا التراكم الأدبي الإبداعي والنقدي تفسير تمثل في عمق في التحصيل والتدريس، فقد حصّل أنقار على الدكتوراه في "الأدب المقارن" من جامعة محمد الخامس في 1992، وعمل أستاذاً في كلية الآداب بتطوان. شغل الراحل منصب رئيس لوحدة البحث والتكوين: جماليات التعبير في الأدب العربي الحديث والمعاصر "بلاغة الصورة الإبداعية" بالكلية نفسها من عام 1997 إلى عام 2000. أنتج عددا من المؤلفات توزعت بين الثقافة والنقد والإبداع، فاعتبر أحد الرواد الكبار في الدرس الأدبي والنقدي بالجامعة المغربية. * إعلامي باحث