نظمت جمعية «تطاون أسمير» مؤخرا بدار الثقافة بتطوان، لقاء نقديا حول رواية «باريو مالقه» للأديب محمد أنقار في إطار الدورة الثالثة لتظاهرة «تطوان.. الأبواب السبعة». استُهل هذا اللقاء النقدي بعرض نبذة عن حياة محمد أنقار ومجمل أعماله النقدية والإبداعية، كما تمت الإشارة إلى المكانة البارزة التي يحتلها الناقدان المغربيان محمد مشبال وعبد اللطيف أقبيب على المستوى الوطني والعربي والدولي. ثم تدخل الناقد د. محمد مشبال، الذي أكد أن رواية «باريو مالقه» لا يمكن أن تخلو من بعد أيديولوجي بالمفهوم العام للكلمة، ومن هنا اعتبر روايتي «المصري» و»باريو مالقه» لا يمكن اختزالهما في البعد الجمالي والفني فقط بل يجب البحث فيهما عن الأسئلة التي تطرحها كل رواية وتحاول أن تجيب عنها. ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن بحسب ما يذهب إليه الباحث هو تلك الرغبة القوية التي تخلقها الروايتان في نفسية المتلقي، والتي تدفعه إلى تغيير جو الألفة التي وسَمت نظرة القارئ إلى الأماكن والعوالم الموصوفة في الروايتين. إذ إثر القراءة نكتشف أن نظرتنا إلى مدينة تطوان العتيقة قد تغيرت مثلما تغيرت نظرتنا إلى «باريو مالقه» حارة المهمشين. لقد أعادت كل من الروايتين صياغة «المدينة وكشفت عن السمات الإنسانية التي تنطق بها دروبها». واعتبر الباحث والناقد د. عبد اللطيف أقبيب رواية «باريو مالقه» ترقى إلى مصاف الإبداعات العالمية الخالدة التي ألفها المبدعون العالميون من أمثال فلوبير وهمنجواي ونجيب محفوظ وغيرهم، وأن الأديب محمد أنقار يعتبر مكسبا مهما للإبداع المغربي والعربي. بعد ذلك أشار إلى العامل المشترك الذي يميز أعمال محمد أنقار وهو الإتقان والتميز الذي يجعل من القارئ يحس أنه بصدد قراءة عمل متكامل متميز يتقن صاحبه أصول الكتابة الروائية ويحيط بجميع خيوطها المتشابكة شكلا ومضمونا. ويتميز هذا الإتقان بالبساطة اللغوية، والعمق الدلالي المغرق في التأمل الإنساني. كما أكد الباحث أن رواية «الباريو» عميقة جدا لدرجة يصعب معها حصر عوالمها في جلسة قصيرة، بل هي تحتاج إلى دراسات نقدية وأدبية رصينة، ويجب أن يفرد لها حيز زمني كبير. ومن العوالم التي لفتت انتباه الباحث حادث الاغتصاب الذي استهلت به الرواية وبعده الرمزي الذي يشير إلى اغتصاب المستعمر للوطن واغتصاب الحريات العامة الذي شهدته فترة الستينيات.إن هذا الحادث يحيط الرواية بجو من عدم الأمان والخوف سيظل حاضرا من بداية النص إلى نهايته. رواية الباريو تدور في فضاء مكاني تميز نسيجه السكاني بالتنوع والامتزاج والاختلاط، ولكن ما يجمع سكانه كونهم من المهاجرين سواء من داخل المغرب أم إسپانيا. وفي هذا السياق يشير الباحث إلى نوع من التعايش الذي وسم هذا الحي من دون أن ينفي وجود جو من الصراع بين القيم الوطنية التي تمتلكها مجموعة من الشخصيات كالفقيه الصنهاجي والقيم الاستعمارية التي تعتبر محاولة اغتصاب الفتاة المغربية أحد نماذجها. ثم انتقل الباحث إلى تغطية الحيز الزمني الذي تمتد فيه الرواية وهو منتصف الخمسينيات وإلى مطلع الستينيات. وهذه الفترة تعتبر مليئة بالأحداث، ساد فيها التوتر باعتبارها فترة انتقالية بين الاستعمار والاستقلال. ويمثل حادث الاغتصاب في الرواية الجانب الرمزي في هذا التوتر الذي يخيم على أجواء الرواية. وهنا يلتقي البعد الزمني للرواية والبعد المكاني ورمزية الحدث الأول لتشكل مثلثا متساوي الأبعاد، تنسجم فيه الأحداث بشكل منظم. وفي مداخلة له أكد الروائي والناقد د. محمد أنقار أن رواية «باريو مالقه» تثير لأول وهلة في ذهن القارئ الطابع التوثيقي والتاريخي. لكن ليس هذا هو الطابع الوحيد في هذه الرواية بل القصد عند الروائي هو التخييل. بالإضافة إلى أبعاد أخرى على القارئ التنبه إليها. ثم تحدث بعد ذلك الأديب محمد أنقار عن المجهود الكبير الذي تطلبته كتابة رواية الباريو، نظرا إلى ما تحمله من القدر الكبير من المعلومات التاريخية، وهو الجهد الذي استمر فترة تقارب الأربعين سنة من البحث في المصادر والمراجع والمجلات والكتب والاستماع إلى الأشخاص. فقد جلس الروائي إلى فئات اجتماعية مختلفة، ودوّن كل شيء قيل له على اختلاف نوعه وقيمته. كما أشار كذلك إلى أن مشروعه كان توثيقيا في البداية، لكن انفتاحه على الأدب العالمي جعله يحول عنايته إلى الكتابة الروائية باعتبارها الأقدر على الجمع بين مختلف الجوانب المشكلة لفضاءات وعوالم «باريو مالقه». وانتهى إلى أن الحقيقة التاريخية يجب أن تعاد صياغتها في قالب تخييلي لكي يضمن لها الخلود والاستمرار ولكي تكون قادرة على التغلغل إلى الأعماق الإنسانية.