يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد، وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/15 نظام الحماية بين النظرية والتطبيق تسلم الجنرال ليوطي في أبريل 1912 رسميا مهام المقيم العام للجمهورية الفرنسية بالمغرب مع احتفاظه برئاسة الأركان العامة لجيش الاحتلال، وكان عليه أن يشرع في بناء الدعامات الأساسية لنظام الحماية مع الأخذ بعين الاعتبار مجريات الأحداث الميدانية للحركة الاستعمارية في شموليتها. وبفضل تجربته الطويلة التي اكتسبها خلال الحملات الاستعمارية الفرنسية في ظل الجمهورية الثالثة، تميز الجنرال ليوطي بدهائه الكولونيالي الماكر الذي أصبح مرجعا بالنسبة لكافة المقيمين العامين الذين جاؤوا من بعده. كان مفهوم الحماية عند ليوطي يعني بكل وضوح الإدارة الاستعمارية المباشرة، وبهذا الصدد كتب يقول: "كل من يدعي معرفته بأحوال المغرب الفرنسي لا يمكنه الجهل بملاحظة أنه بقدر ما يمتد احتلالنا ويترسخ وجودنا في هذا البلد، بقدر ما يكبر هاجسنا لتنظيم الإدارة المحلية، وذلك من خلال وضع المخزن المغربي تحت المراقبة المباشرة والكاملة للأطر الفرنسية". لقد جعل ليوطي من عامل "المعرفة" حجر الزاوية في استراتيجيته الكولونيالية، وفي هذا الشأن راسل وزير الخارجية بيشون (Pichon) في الخامس والعشرين من شتنبر 1913 عارضا عليه فلسفة سياسته المغربية، قائلا: "كيف نطمح إلى النجاح في فرض سياستنا على جماعات أهلية منظمة داخل بلد له خصوصياته إذا كنا غير مطلعين بشكل دقيق على أحوال الأهالي العرفية والتاريخية والاجتماعية، بالإضافة إلى ما يؤطرهم من لغة ودين ومؤسسات، دون إغفال دور العائلات والشخصيات المغربية النافذة، وباختصار كل القوى النشيطة في هذا البلد. علينا، إذن، أن نتعامل بخبرة كبيرة مع كل هذه المعطيات". المقاربة النظرية والمقتضى العملي لنظام الحماية حظي نظام الحماية بمكانة خاصة في الترسانة القانونية الاستعمارية، وكثيرا ما كان ينتاب فقهاء القانون الكولونيالي الشعور بالفخر والاعتزاز بمجرد الإشارة إليه، فهذا الأستاذ موريس فلوري (Maurice Flory) يثني عليه بصريح العبارة قائلا : "إن هذا الأسلوب التوسعي العجيب لا يتنافى أبدا مع الغاية المنشودة التي تتجلى في الاحتلال الحقيقي للبلد المحمي قصد دمجه وضمه لاحقا". وللإشارة، فإن أول معاهدة فرنسية للحماية على بلد أجنبي كانت تلك التي أبرمتها فرنسا مع هايتي بتاريخ 09 شتنبر 1842، والتي صادق عليها لويس فيليب بتاريخ 25 مارس 1843، وبعد مرور أربعين سنة على هذه "المعاهدة" تم ضم البلد المحمي "هايتي" بموجب قانون فرنسي بتاريخ 30 شتنبر 1880. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الحماية الفرنسية تنتشر باعتبارها أسلوبا استعماريا ذكيا؛ إذ شملت الكمبودج (معاهدة أودونغ 1863)، وتونس (معاهدة باردو 1881 التي تممتها اتفاقية المرسى سنة 1883)، ثم لا نام (Annam) (1883)، واللاووص (Laos) (1883)، ومدغشقر (معاهدة 7 دجنبر 1885 التي تحولت إلى قانون الضم بتاريخ 6 غشت 1896)، وجزر القمر سنة 1886، والمغرب (معاهدة فاس سنة 1912). لم يفرض نظام الحماية نفسه على النظرية القانونية إلا خلال القرن التاسع عشر الميلادي، حيث ميزت الدراسات القانونية الكولونيالية بين المستعمرة وبين نظام الحماية: المستعمرة تقتضي ممارسة إدارة مباشرة في جميع المجالات من طرف ممثلي الدولة المسيطرة، في حين يبدو نظام الحماية عبارة عن نصف مستعمرة تتمتع بنوع من الاستقلال الداخلي مع الاستمرار في الاعتراف ببعض الاختصاصات الدولية للبلد المحمي. كما أنه لا يمكن الحديث عن السيادة بالنسبة للمستعمرة بخلاف نظام الحماية الذي لا ينفي كليا سيادة "البلد المحمي". لكن من الناحية البراجماتية الكولونيالية تبقى الحماية مجرد أسلوب دعائي، وليست في واقع أمرها سوى مستعمرة كباقي المستعمرات. روح معاهدة فاس بعد توالي سلسلة من الابتزازات والتهديدات والضغوطات النفسية، تم التوقيع على معاهدة الحماية سنة 1912 بفاس، حيث تم إعداد كل شيء من أجل تقديم وثيقة المعاهدة بشكل يعطي الانطباع وكأنها خضعت فعلا للموافقة وفقا للشروط المنصوص عليها في "القانون الدولي العام" في ما يتعلق بإبرام المعاهدات الدولية وتطبيقها. وما كان على السلطان الذي كان يشكل الشخصية المركزية "للمملكة الشريفة" إلا الخضوع للأمر الواقع. وكانت آنذاك الدعاية الاستعمارية شديدة الحرص على عدم تسريب أية معلومة عن الاختلافات العميقة التي كانت تحدث بين الإقامة العامة والقصر الملكي في شأن تطبيق هذه المعاهدة. كانت الإقامة العامة بحاجة ملحة إلى "سلطان طيع" حتى يتسنى لها ممارسة سلطاتها بطريقة مريحة دون مضايقات ودون عراقيل من المخزن. كان ليوطي مصمما العزم على الحصول بأي ثمن على الموافقة المطلقة للسلطان من خلال وضع خاتمه الشخصي على كل ما تقرره السلطات الفرنسية قصد إضفاء طابع الشرعية على تصرفاتها في شتى المجالات. وبعد إرغام السلطان المولى عبد الحفيظ (1908-1912) على الاستسلام، وجه الجنرال ليوطي خطابا إلى الجالية الفرنسية بالرباط يوم 15 غشت 1912، عبر من خلاله عن شعوره بالارتياح التام لما آلت إليه الأمور، قائلا: "نحن هنا في بلد الحماية، حيث لا يمكن فعل أي شيء إلا في إطار التعاون الذي يقتضي منا أن نكون طرفين اثنين، وقبل خمسة أيام لم نكن إلا طرفا واحدا. بل على الأصح كنا طرفين ولكن لم نكن نتعاون. لقد كانت الثلاثة أشهر الأخيرة قاسية وصعبة جدا، ارتطمت خلالها كل محاولاتنا بسد منيع. وباختصار أقول لكم إننا الآن في المغرب نتوفر على سلطان جديد هو مولاي يوسف الذي تولى السلطة في ظروف مضطربة، ويبقى المهم هو أننا ضمنا مؤازرته المخلصة لنا، ونستطيع من الآن فصاعدا أن نتوقع مستقبلا واعدا في هذا البلد بفضل تصديق السلطان على قراراتنا بأمر سلطاني شريف. وأخيرا نستطيع العمل جنبا إلى جنب، أقولها وأنا أشعر بارتياح حقيقي". أما بخصوص المناطق المغربية الشمالية والجنوبية التي احتلتها إسبانيا، فإنه لم يسبق لها أن كانت موضوع أية "معاهدة حماية" خلافا لما تعودنا على تسميته بمنطقة "الحماية الإسبانية". المرجع الوحيد للاستعمار الإسباني، باستثناء الثغور، هو الاتفاقية الفرنسية الإسبانية بتاريخ 27 نونبر 1912. إذن يمكن القول إن فرنسا وحدها هي التي فرضت على المغرب نظاما للحماية، أما الاستعمار الاسباني في المنطقة الشمالية خصوصا فقد كانت مجرد منطقة عازلة بين قوتين استعماريتين، فرنساوانجلترا، تفاديا لتصادم المصالح واندلاع مواجهات عسكرية بينهما. ومعلوم أن هذه الترتيبات الكولونيالية كانت استجابة لإرادة انجلترا التي فرضت منطقة عازلة إضافية تحت اسم "منطقة طنجة الدولية" التي خضع نظامها لعدة توافقات بين المتكالبين على البلاد سنوات 1923 و1928 و1945. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة