لكل مرحلة رجالها، ولا شك أن الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري كان من الذين حازوا مكانا وسط علية القوم من المفكرين، وكذلك من الخالدين الذين نالوا شهادة نظافة المسار السياسي، رغم كل أوحال الطريق، التي سترافقكم هسبريس لسردها، خلال حلقات، تكشف لكم أفكارا من كتبه التسعة "مواقف سياسية" التي تكتنز مسارا حافلا بالمعاينة والمشاركة في أحداث طبعت تاريخ المغرب الراهن. الجابري الذي وافته المنية في ماي 2010، كان قد ترك حزبه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية منذ ثمانينيات القرن الماضي، بسبب كثرة الخلافات والمشاكل الداخلية التي لحقت به، إلا أنه وثق للحظات فارقة من تاريخ الحركة الاتحادية بنسختيها "الوطنية والاشتراكية"، لتبقى مدادا يحاجج روايات من عايشوا تجربة "مغرب ما بعد الاستقلال" إلى حدود كتابة هذه الأسطر. الجزء 5: الأزمة بين الحزب والنقابة.. المعركة من أجل الديمقراطية أو من أجل الخبز ينطلق الجابري في الجزء الخامس من مذكراته السياسية، الذي عنونه ب"الأزمة بين الحزب والنقابة، المعركة من أجل الديمقراطية أو من أجل الخبز"، من جدلية الديمقراطية والخبز لدى الفاعل النقابي، ليسرد تاريخ جوارٍ صعب رافق علاقة الاتحاديين بنقابة الاتحاد المغربي للشغل، منذ بداية تأسيس أم النقابات المغربية، وصولا إلى القطيعة وتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1978. ويحكي الجابري أن الفكرة النقابية راودت الحركة الوطنية منذ بدايات النضال من أجل الاستقلال، حيث سيظهر اتجاهان داخل الحركة، سيدافع الأول على الاقتصار على تحزيب العمال وانخراطهم داخل حزب الاستقلال، ويدعو الآخر إلى انخراط العمال في النقابة الفرنسية "سي جي تي"، التابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. وتَرْوِي شهادة الجابري حول الخلاف أنه في سنة 1950، عندما كُلِّفَ عبد الله ابراهيم بالشأن النقابي للحزب، وبدفاعه عن خيار الانضمام لنقابة الحزب الشيوعي الفرنسي، سيواجهه الجناح المحافظ داخل حزب الاستقلال بالرفض، يتقدمهم علال الفاسي الذي أبى بشكل قاطع تحزيب النقابة، لكنه سيعود في نهاية الخمسينيات ويُبَرِّرُ قيام الاتحاد العام للشغالين، في تناقض مع موقفه السابق، كما يورد الجابري. ويعود المفكر المغربي، من خلال ثنايا سطور المذكرات، إلى فلسفة تأسيس النقابة، مؤكدا أنها لا تتجاوز بنية الزاوية، وتجسد بدورها امتدادا لحركة اللطيف التي انطلقت بشكل عشوائي من المساجد والزوايا لتتطور إلى حركة سياسية سرية قُسِّمَتْ إلى "الزاوية"، وهي تنظيم يضم القيادات، و"الطائفة"، التي تَضُمُّ قواعد التنظيم. واستطرد الجابري أنه في سنة 1955، وإبان فترة اجتماعات لجنة تنظيم المؤتمر التأسيسي للاتحاد المغربي للشغل، سَتَعْمَلُ النقابة في بدايتها وكتجلٍّ لسيادة بنية الزواية داخلها، على الاستفادة من امتيازات الحكم التي تجسدت في هبات لتسيير أمورها الداخلية، قبل أن تعقد مؤتمرها الرسمي الأول، الذي انتخب الطيب بوعزة رئيسا، لكن المحجوب بن الصديق سَيَنْسِفُ معطيات الانتخابات بتلويحه بتأسيس نقابة جديدة إن لم يحصل على الكتابة العامة، وهو ما سيقنع به الجميع، ليتمكن من صعود منصة الاتحاد المغربي للشغل دون شرعية انتخابية. وقع إقالة حكومة ابراهيم على علاقة الحزب والنقابة يُقَسِّمُ الجابري علاقة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالنقابة إلى مرحلتين: الأولى من يناير 1959 إلى ماي 1960، والثانية استغرقت أحد عشرة سنة وتميزت بصراعٍ مريرٍ بين الطرفين، سينطلق فور إقالة حكومة عبد الله ابراهيم، ومحاولة الملك الراحل الحسن الثاني تكوين حكومة تجمع مختلف الأطياف السياسية لمحاصرة الاتحاد الوطني. ومباشرة بعد الإقالة المشهورة، ستعترف الحكومة الجديدة استوزار مؤسس نقابة الاتحاد العام للشغالين التابعة، محمد الدويري، مقابل الاعتراف بالنقابة الجديدة، ما عجل بالتصعيد من قبل الاتحاديين، الذين هاجموا القرار من خلال جريدتي التحرير والطليعة، وعَقْدِ المجلس الوطني للاتحاد سنة 1961، بحضور مولاي العربي العلوي، وإصدار بيان ينتقد الحكم الفردي للحسن الثاني. ويسترسل الجابري في انتقاد روابط الجناح النقابي بالحزب، ويحكي واقعة تزامنت مع إضراب 1961 ضد الحكم الفردي، حيث سيجالس وفد من الاتحاد المغربي للشغل، برئاسة نائب الكاتب العام محمد عبد الرزاق، المستشار الملكي أحمد رضا اكديرة، لإلغاء الاضراب المزمع تنظيمه رغم التحضير والتنسيق الكبير الذي جرى بين الحزب والنقابة. معطى الجلسة مع اكديرة في أحد فنادق البيضاء سيفجر الوضع، وسيدفع بالاتحاديين إلى التفكير في تأسيس منظمات موازية للنقابة، انطلقت مع قطاع الفلاحة، لكن الاتحاد المغربي للشغل سيرفض الخطوة بدعوى أن النقابة تتوفر على منظمة خاصة بالفلاحين. وستكون ضربة إضراب 1961 هي القاسمة لظهر النقابة، بعد أن رفضت جامعة موظفي وعمال البريد الامتثال لقرار قيادة الاتحاد المنادية بإيقاف الإضراب، ليُخْتَطَفَ القيادي عمر بن جلون من طرف الجهاز النقابي، ويَتَعَرَضَ للتعذيب بسبب موقفه، وهو الحدث الذي سيخيم على أجواء المؤتمر الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. المؤتمر الثاني للاتحاد .. مؤتمر الأزمة حاول الاتحاديون إيجاد سبيل نحو التوافق مع الجهاز النقابي من أجل مرور المؤتمر الثاني في أجواء سليمة، واقتضى منهم الأمر اعتماد الثنائية والمناصفة في توزيع المقاعد والمناصب، مقابل سماح النقابة بتحزيب عمالها، والتغاضي عن مشاركة عمر بن جلون في المؤتمر، الذي سيعرف لأول مرة تداول "الاختيار الثوري" للمهدي بن بركة، وسيوزع بشكل قبلي على محمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، والتهامي الأزموري، لإبداء الرأي والملاحظات عليه. طرح الكتيب الذي ما يزال صداه ممتدا إلى الوقت الراهن لم يكن المشكل الوحيد الذي هدد بِنَسْفِ أشغال المؤتمر؛ فقد كانت محاولات ربط المؤتمر بما تعيشه الأحزاب الأخرى بمصر والجزائر من طرف الجابري، وعبد الرحمان اليوسفي، أمرا مرفوضا لدى بن الصديق، وهو ما سيتصدى له بمنعه الربط بين ما يُؤَسِسُ له الاتحاد الوطني داخل المغرب، وبين ما تهدف إليه التنظيمات اليسارية الأخرى في شمال إفريقيا. توازنات المؤتمر ستخيم على أشغال لجانه التي سَتُوَزَعُ أيضا بالتوافق، بعد أن كلف المحجوب بن الصديق ومحمد منصور، بإعداد التقرير المذهبي، فيما أَعَّدَ عبد الرحمان اليوسفي ومحمد عابد الجابري التقرير السياسي، وخَلُصَا كليهما إلى نبذ الرأسمالية وتأميم وسائل الانتاج، وضرورة وضع دستور ديمقراطي. دستور ممنوح سَيُشَكِلُ الدستور الأول للمملكة محطة صراع جديدة للاتحاديين، فمباشرة بإعلان السلطة عن تنظيم استفتاء بخصوص الدستور في 5 نونبر 1962، سَتَتَجَنَدُ "التحرير" لحشد المواطنين للتصويت بالرفض عليه، بسبب عدم اعتماد الملك للجنة تأسيسية منتخبة، مما سَيَجُرُّ على المهدي بن بركة أولى محاولات اغتيالاته بوادي الشراط، بعد أن تعقبته سيارة للشرطة وحاولت رميه إلى الحافة، ليقرر الاتحاد بشكل رسمي مقاطعة الاستفتاء الدستوري بعد الحادث. لكن اشتداد الأزمة بشكل جلي لن يأتي إلا بعد تمرير الدستور، حيث سَيَعْمَدُ أحمد رضا اكديرة إلى تأسيس جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية "الفديك"، للتحضير لانتخابات مجلس النواب سنة 1963، وتجنب انتكاسة الانتخابات البلدية لسنة 1960، بِحَشْدٍ كبير ضَمَّ العديد من الأوجه البارزة المقربة من القصر، أمثال الجنرال أوفقير، والدكتور الخطيب، والمحجوبي أحرضان، وبلحسن الوزاني. تأسيس الوافد الجديد سَيَدْفَعُ بالقيادات الاتحادية التاريخية إلى الخُرُوجِ بتصريحاتٍ قويةٍ للمجلة الفرنسية "جون أفريك"، يعتبرون فيها "اكديرة ظلا لمولاه"، في إشارة إلى الملك الحسن الثاني، بتدخله في الحقل الحزبي المغربي، مطالبين إياه بالحياد، ووضع نفسه فوق كل الأحزاب. ورغم كل هذه المعطيات، سيظل الاتحاد وفيا لخطه النضالي من داخل المؤسسات، حيث سَيُقَرِرُ المشاركةَ في انتخابات 1963 لِقَطْعِ الطريق على ما أسماه "الإقطاع"؛ إذ سَيَحْصُلُ الحزب، حسب الجابري، على 42 مقعدا، لكن السلطة سَتَتَدَخَلُ وتُقَزِمُ الرقم إلى 22 مقعدا، لكن مناضلي الحزب سيتمكنون من زحزحة مخطط السلطة، بإسقاطهم ل7 وزراء خلال الانتخابات، منهم عبد الهادي بوطالب، ويوسف بلعباس، وأحمد باحنيني، وبنهيمة، إضافة إلى بلحسن الوزاني. مؤامرة 16 يوليوز 1963 في 16 من يوليوز 1963، كان الاتحاديون على موعد مع "مؤامرة جديدة"؛ فبعد اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الوطني لتحديد الموقف من المشاركة في انتخابات المجالس البلدية والقروية، سَيُحَاصَرُ المقر ويُعْتَقَلَ الحاضرون بتهمة محاولة قلب النظام الملكي واغتيال ولي العهد، وسَيَكُونُ رَدُ النقابة حيال الاعتقالات، هو الضربة القاسمة للعلاقة بينها وبين الحزب. فمباشرة بعد موجة الاعتقالات، سَتُصْدِرُ النقابة لوائح خاصة بها للمشاركة في الانتخابات، وسَتُطَالِبُ الفقيه البصري بأداء مصاريف مطبعة جريدة التحرير، وَتُعْلِنَ بذلك رغبتها الصريحة في القطيعة مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، خصوصا بعد إصدار أحكام بالإعدام في حق الفقيه البصري وعمر بن جلون وشيخ العرب ومومن الديوري، ليبقى الفريق الاتحادي داخل البرلمان هو المتنفس الوحيد للاتحاد للتعبير عن مواقفه. مؤتمر ثالث يعمق القطيعة بعد اعتقال القيادي النقابي المحجوب بن الصديق سنة 1967، إثر رسالته إلى الملك الراحل الحسن الثاني، التي طَالَبَ فيها بوقف العلاقات مع إسرائيل، سَيُحَاوِلُ عبد الرحيم بوعبيد الإعداد للمؤتمر الثالث للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالتنسيق مع بن الصديق من داخل السجن، فَعَيَّنَ لجنة ثلاثية سُمِيَّتْ بالمكتب السياسي، ووضعت 3 أمناء عامين للحزب، هم عبد الرحيم بوعبيد، والمحجوب بن الصديق، وعبد الله ابراهيم. وضع "الاتحاد الوطني"، الشاذ، سَتُضَاعِفُهُ حالة الاستثناء التي انطلقت منذ 1965، بتعليق عمل جميع مؤسسات البلاد، وتجميع السلط بيد الملك، ما جعل الاتحاد في حالة عزلة قاتلة، تزكيها علاقته المتوترة مع الجهاز النقابي، التي لن يأتي الحسم فيها بشكل نهائي إلا بعد اجتماع اللجنة الادارية للحزب بالرباط في 30 يوليوز 1972، بتقديم عبد الرحم بوعبيد لنقد ذاتي حول موضوع الوحدة مع النقابة، ليَتَقَرَّرَ القطع مع الاتحاد المغربي للشغل بشكل نهائي، وينطلق مسار التحضير لتأسيس للكونفدرالية الديمقراطية للشغل.