الحلقة الرابعة في وقع أقدامك، يا ولدي، وهي تدب على الأرض.. في خرير المياه على الجداول.. في شدو العصافير.. في الكمان إذ ينوح بين اليدين العازفتين.. في قطرة الندى وهي تهوي على خد زهرة.. في لثغتك، يا صغيري، وأنت تنطق حرف الراء وحرف السين.. في السعال وفي الشخير.. في الهزيم وفي الرعود.. في كل ذلك.. نوع لحن وشكل موسيقى! والموسيقى ليست معازف وانتهى السؤال. إنها إيقاع الحياة وضابطها العام! وهي تؤثث خلفية الأشياء والأحداث ومجريات الحياة وتكمن في عمق التفاصيل اليومية.. وتلك الجزئيات ليست، في المحصلة النهائية، سوى صور وأصوات. فأما الصور فماثلة للعين وتحت تصرف الحواس، وأما الصوت - بلحنيته وإيقاعه - ففي خلفية المشهد. إن لكل شيء إيقاعا. أعني الأشياء المادية والمجردة على السواء. ولهذا النص، الذي أكتب الآن، إيقاعه أيضا. وهو-كما ترى-شيء مجرد، لكنه يصدر الموسيقى كأي صوت. ويحدث ذلك بشكل تلقائي حين تصطف الكلمات إلى جانب الكلمات، إذ تنبثق بين ثنايا المكتوب "موسيقى داخلية". وأنت ترى أن انسيابية الكلمات وتآلف العبارات أشبه بالهارمونيا في الموسيقى. وفي الإذاعة، مثلا، لا تنفك الكلمة المنطوقة عن النغمة المسموعة. وبهما -أعني الكلمة والنغمة فقط -يستقطب الراديو ملايين العشاق عبر العالم. ومكمن السر في التوليفة الإبداعية بين صوت المذيع والموسيقى المبثوثة. وهما في الحقيقة شيء واحد. ويعزفان على إيقاع واحد. أما مكمن السحر ففي الإدغام بين الصوت البشري، بما يختزنه من دفء إنساني ومشاعر حية، وبين الموسيقى التي تضفي أجواء حالمة على المنجز الإذاعي برمته. ولذلك، فإن عشاق الراديو يتزايدون، رغم التطور التكنولوجي الهائل في التلفزيونات عالية الدقة والحواسيب واللوحات الإلكترونية وغيرها. والإيقاع يتعقبنا في كل تجليات الحياة. ولكل موسيقاه الخاصة. وقد يحدث أن تنمحي الهارمونيا فنوقع اللحن النشاز، خارج النوتات والمقامات! وذلك يعني القلق والاكتئاب وأنواع المشاكل النفسية.. وإذا اختل إيقاع حياتك، تعيده الموسيقى إلى التوازن! إذ هي لا تُعنى بانسجام إيقاعها فحسب، ولكنها تهتم بتوازن إيقاعك أنت أيضا! وهذا أمر عجيب! إن الموسيقى هي الضابط العام لإيقاع الحياة. وهي الخلفية التي ينبغي أن تحكم سعي الناجحين في كل مكان.. إنه "سعي" منضبط إلى مقامات النغم، تتآلف فيه النوتات، وتعزف في سياق نغمي منسجم، يُوقّع على لحنك أنت.. لحنك الذي لا يشبه لحنا آخر!