يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد؛ وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. .. 30/4 نشر ثقافة التضليل كان التغلغل الاستعماري بالمغرب يرتكز في بداية الأمر على العنصر اليهودي نظرا لأنه كان يبدو بمثابة الحلقة الضعيفة في البنيان الاجتماعي المغربي. وفعلا، لم تخيب العناصر اليهودية المغربية ظن الفرنسيين بها، كما أشرنا إلى ذلك في المقال السابق. لكن هذا الإنجاز الذي حققه مخططو الإستراتيجية الكولونيالية لم يكن كافيا لضمان الاختراق التام لمكونات المجتمع المغربي، وقد تأكدوا أنه لا بد من السير قدما نحو تحقيق المزيد من الأهداف المرحلية الأخرى قبل الاكتساح الشامل والفعلي للبلاد. كان المنطق الاستعماري منسجما مع نفسه ومبنيا على تصور بسيط وعملي قابل للتطبيق، وصياغته بإيجاز هي كالتالي: بما أن مدارس الرابطة الإسرائيلية العالمية مهدت الطريق إلى أعماق المغرب وبرهنت على مدى فاعليتها كأنجع وسيلة لنشر النفوذ الفرنسي بأقل ثمن وبأعلى مردودية، فلماذا لا يتم توسيع وتعميق هذه التجربة الناجحة، سيما أنها كانت محصورة في الأوساط اليهودية المغربية دون غيرها؟ إنه تساؤل تمت ترجمته إلى مشروع أنيطت مسؤولية القيام به إلى مدارس من نوع جديد، كان همها الوحيد هو خدمة الدعاية الهدامة نفسها، التي بدأت تفعل فعلها في النسيج الاجتماعي والثقافي المغربي. ولم تكن المسألة الأمازيغية غائبة في هذا النهج، لكن السياسة الاستعمارية رأت أن أوانها لم يحن بعد. المدارس الفرنسية-العربية أداة للتضليل والتشويه في عام 1883 تأسست جمعية الرابطة الفرنسية، أي بعد مرور زهاء عشرين سنة على تأسيس الرابطة الإسرائيلية العالمية، وهما جمعيتان، كما سبق الذكر، جندتا لخدمة النفوذ الفرنسي في الخارج عبر نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين لأغراض استعمارية محضة، وليس لأهداف حضارية إشعاعية. فإذا كانت مدارس الرابطة الإسرائيلية موجهة خصيصا نحو الأوساط اليهودية المغربية قصد تربيتها تربية الخادم المطيع لسيده المستعمر، فإن مدارس الرابطة الفرنسية كانت موجهة بصفة عامة نحو الأوساط المسلمة بهدف خلق تواصل كاذب مع هذه الأوساط واستمالة عناصرها المؤثرة واستغلالها لفائدة التوسع الكولونيالي. وأما تسمية «المدارس الفرنسية-العربية» التي كانت تحملها مؤسسات الرابطة الفرنسية فلا تعدو كونها تجسيدا صارخا لهذا التواصل الخادع. في سنة 1894 بدأت الرابطة الفرنسية مسيرتها الدعائية بالمغرب انطلاقا من طنجة، حيث دشنت بهذه المدينة «دروسا للكبار» كان يشرف عليها ابن غبريط، الجزائري الأصل، الذي كان يعمل في الوقت نفسه ترجمانا بالمفوضية الفرنسية بطنجة. بعد ذلك، وبمبادرة من اللجنة الإقليمية للرابطة الفرنسية تم فتح أول مدرسة «فرنسية-عربية» ابتدائية بطنجة سنة 1899، جاءت لتعزز تجربة «دروس للكبار» وتفتح آفاقا جديدة للأطماع الاستعمارية الفرنسية تحت قناع شبه ثقافي. وتعد هذه المدرسة، رغم بساطتها وبدايتها المتواضعة، من أنجح إنجازات التوغل الفرنسي بواسطة التعليم بالمغرب، لكونها توفقت منذ الوهلة الأولى في تمهيد الطريق لتحقيق نتائج أكبر، ومما يلفت الانتباه أن التعليم بها كان منظما بشكل يدفع الأطفال بطريقة غير مباشرة إلى تفضيل التعليم الأوربي والنفور من التعليم التقليدي المغربي: كان الصباح مخصصا للتعليم الإسلامي في إحدى القاعات المهملة، التي لم يكن فيها من التجهيزات سوى حصير يجلس عليه التلاميذ ليتابعوا دروسهم تحت إشراف فقيه في يده سياط.. وفي المساء ينتقلون إلى قاعة مريحة، تم تجهيزها بمعدات فرنسية عصرية، يقوم فيها بتدريس اللغة الفرنسية معلم أوربي أو جزائري. وبينما كان راتب المعلم 40 بسيطة شهريا، كان راتب الفقيه للمدة نفسها لا يتعدى 15 بسيطة.. وسرعان ما ازدهرت مدرسة ابن غبريط، ولعل السر في نجاحها يكمن أساسا في المساندة التي كانت تحصل عليها من اللجنة المركزية للرابطة الفرنسية، وكذلك من الحاكم العام بالجزائر. ففي سنة 1902 بلغ عدد التلاميذ بها 70 تلميذا، منهم 12 جزائريا و58 مغربيا، موزعين على ثلاثة أقسام للتعليم الابتدائي. وقد كانت غالبية التلاميذ المغاربة من أبناء التجار وأصحاب الأملاك العقارية.. وتحت تأثير النجاح الذي حققته مدرسته، طلب ابن غبريط من مموليه المزيد من الدعم المادي حتى يتسنى له توسيع وتعزيز مشروعه «التربوي». وهكذا اقترح تأسيس مدرسة جديدة تشرف عليها سيدة جزائرية قصد تعليم الفتيات المغربيات الخياطة والطرز والمبادئ الأولية في اللغة الفرنسية. لقد كان ابن غبريط يستفيد من إعانة مالية سنوية قدرها 600 فرنك فرنسي تمده بها اللجنة الإقليمية للرابطة الفرنسية، بالإضافة إلى هبات وعدة تجهيزات مدرسية. كما كان حاكم الجزائر يخصص له 600 فرنك فرنسي كإعانة مالية سنوية. إلا أن كل هذه المساعدات كانت غير كافية لإنجاز المشروع المشار إليه، حيث تجاوزت النفقات المتوقعة ما قيمته 2700 بسيطة. عندها تدخل ممثل فرنسابطنجة، سان روني تايلندي، لدى وزارة الخارجية بباريس من أجل تخصيص اعتماد سنوي إضافي لا يقل عن 800 فرنك فرنسي لمساعدة ابن غبريط على تنمية مشروعه، الذي يندرج كليا في استراتيجية التعليم الاستعماري. وهذا بعض ما جاء في رسالته إلى وزير الخارجية الفرنسي: «إنه باتخاذكم لهذا الإجراء العطوف تكونون، معاليكم، قد ضمنتم الاستمرارية والتطور لنشاط يخدم مصلحة النفوذ الفرنسي، ويعد بمثابة المحاولة الأولى الرامية إلى نشر ثقافة أوربية في أوساط المسلمين المغاربة. ومن شأن هذا الإجراء كذلك أن يقدم تشجيعا ثمينا للموظف الجزائري (ابن غبريط) الذي سخرناه من أجل إحداث مدرسة طنجة الفرنسية-العربية، وقد تفانى فيما أمرناه بالقيام به". حظي مشروع ابن غبريط «التعليمي» بالرعاية المادية المطلوبة والمفتوحة على احتمالات زيادات أوفر. وهكذا ما إن أصبحت ما كانت تسميه الدبلوماسية الكولونيالية «المسألة المغربية» توشك على نهايتها لصالح الأطماع الفرنسية، حتى ارتفع عدد مدارس الرابطة الفرنسية بالمغرب إلى ثماني مؤسسات بلغ عدد التلاميذ بها حوالي 2000 تلميذ، وكلهم تعلموا فيها أن فرنسا جاءت لتلقنهم "الحضارة الراقية والقيم الأخلاقية العليا...". تطور الاختراق الكولونيالي وجدت فرنسا في أسلوب تغلغلها الاستعماري، عبر المدارس الإسرائيلية والمدارس الفرنسية-العربية، أفضل وأنجع وسيلة لنشر دعايتها الكولونيالية بالمغرب وأوثق سبيل لبلوغ مراميها على المدى البعيد.. لقد نجحت هذه التجربة نجاحا تاما، ما شجع فرنسا على قطع خطوة كبيرة أخرى في الاتجاه نفسه. وقد تجلى ذلك في التدخل هذه المرة في الإشراف المباشر على العملية «التعليمية» بالمغرب من خلال مشروع جاءت كل عناصره موجهة توجيها محكما. لقد نالت فرنسا حصة الأسد من التكالب الغربي على البلاد، ولم تمر سوى أسابيع معدودة على «الوفاق الودي» الفرنسي- الإنجليزي، بتاريخ 8 أبريل 1904، حتى تقدم النائب البرلماني لمقاطعة وهران، أوجين إيتيان، أمام الجمعية الوطنية الفرنسية بباريس، بمشروع إحداث «المعهد المغربي». لقد كانت نوايا الاستيلاء على البلاد بارزة من خلال حيثيات المشروع التي تقول إن «فرنسا بإقدامها على تحمل أعباء الإشراف على التطور السلمي بالمغرب، تكون قد وافقت على مهمة صعبة، لا بد لها أن تولي اهتماما كبيرا للتغيير الاقتصادي لهذا البلد قصد الإعداد لتغييره الاجتماعي. لكن فرص سوء التفاهم، وبالتالي نشوب النزاعات بين الحضارتين، اللتين ستصبحان في وضع اتصال مباشر، ستكون كثيرة. كيف يمكن تفادي ذلك بدون معرفة معمقة للوسط المغربي؟» لم يكن هذا السؤال في الحقيقة جديدا بالنسبة للدعاية الكولونيالية التي تبنت منذ أواخر القرن التاسع عشر إستراتيجية «الاختراق المتستر»، مستهدفة ضم المغرب تحت لواء الاستعمار الفرنسي. إن الجديد في هذا المشروع، الذي تم تقديمه للبرلمان الفرنسي في يوليوز 1904، هو ارتفاع درجة الاختراق الكولونيالي والتأكيد المتزايد للأطماع الفرنسية بالمغرب. وكان طبيعيا أن تلعب التجارب الاستعمارية الفرنسية السابقة دور المحفز لإثبات النظرة المستقبلية التي اعتمدها المشروع المشار إليه، إذ تقول إحدى فقراته: «إن كل تاريخنا الكولونيالي ينبهنا إلى ضرورة دراسة المجتمع المغربي دراسة شاملة وبمنهجية سليمة. ألم نكافح مرارا في إفريقيا الشمالية وإفريقيا الغربية، وفي الهند الصينية ضد التقاليد والطوائف، التي اتضح فيما بعد من خلال التجربة، أنه كان بالإمكان أن نتفاهم منذ البداية، وقد أجبرنا في آخر المطاف على البداية من حيث كان لزاما علينا أن نبدأ، ونعني بذلك مضاعفة المدارس التعليمية، والبعثات الدراسية، والمعاهد المحلية، مع إعطاء الأولوية في مشروعنا لعلم الاجتماع من أجل معرفة المجتمعات المحلية قصد تسهيل قيادة الأهالي وتسخيرها". طلب أوجين إتيان من البرلمان الفرنسي تخصيص 7500 فرنك كحد أدنى لإنجاز هذا المشروع، وانكب مجلس النواب مباشرة على دراسته خلال صيف 1904. وفي يوم 24 أكتوبر من السنة نفسها قدم ليسيان هيبر تقريرا عن لجنة الشؤون الخارجية للمستعمرات التي أشرفت على دراسة المشروع. وجاء في مقدمة التقرير: «من المسلم به اليوم أن المشاريع المستقبلية لن يكتب لها النجاح إلا إذا كانت مبنية على دراسة الماضي دراسة متينة، وأن الإصلاحات عند السكان البدائيين المتعصبين والمحافظين من جراء رداءتهم وضعفهم، تحدث البلبلة وتزرع بذور الثورة، وأنه لا منفعة في زعزعة مؤسسات تتميز قبل كل شيء باستمراريتها، لا سيما أن عيوب هذه المؤسسات نفسها تبدو كأنها تشوهات جسدية تعودت على تحمل الآلام»... في هذه الفقرة التي تكشف عن النوايا الاستعمارية الجلية يعيد التقرير إلى الأذهان تصريحا أدلى به وزير الخارجية الفرنسي، دلكاسي، أمام مجلس الشيوخ الفرنسي في مارس 1903، حيث قال: «لقد تعود المغرب لمدة طويلة على هذه الفوضى العارمة التي لا يمكن لبلد منظم أن يقاومها ويتحملها بمثل هذه الاستماتة... إنها طروحات تنسجم تماما مع إستراتيجية «رسالة فرنسا الحضارية». لقد بينت التجارب الفرنسية في الهند الصينية وفي مدغشقر أن هذا الأسلوب المبني على تلقين مبادئ في اللغة الفرنسية وأبجديات الثقافة الفرنسية السطحية للأهالي، ساهم بقسط أوفر مما كان متوقعا في استمالة شعوب المستعمرات وخضوعها للأمر الواقع. وفعلا، شيدت فرنسا في هذه البلدان مدارس ومعاهد ليس لتربية السكان ومكافحة الجهل، ولكن بهدف معرفة قدراتهم الذاتية ومكونات شخصيتهم الثقافية، متوخية من وراء ذلك «تسهيل قيادتهم على درب التقدم»... وكل الشروط أصبحت متوفرة لنجاح التجربة نفسها بالمغرب، إذ يقول التقرير: «إن هذه الطريقة أبانت عن قيمتها وأثبتت فاعليتها، لذا يجب أن يكون تطبيقها أول عمل نقوم به في المغرب. وقبل بذل المجهود يجب أن نعترف بجهلنا، وهذا معناه التأكيد مجددا على أننا سوف لن نقوم بفعل شيء ما في هذا البلد بدون تريث. إن حرصنا هذا هو أول عنصر لضمان نجاحنا في مواجهة الثقافة الإسلامية المعقدة والمتملصة، شأنها في ذلك شأن فن الزخرفة العربية التي تترجمها". بعد هذا التحليل الدعائي الذي يستمد روحه من واقع كولونيالي عنيد، وافقت لجنة الشؤون الخارجية على المشروع، واقترحت تأسيس «المدرسة الفرنسية للدراسات العليا المغربية» تحت وصاية وزارة الخارجية وتحت الإشراف الإداري والمراقبة العلمية لأكاديمية الآداب ومعهد فرنسا. وتهدف هذه المدرسة إلى إنجاز أبحاث أثرية ولغوية مع التعريف «علميا» بتاريخ المغرب ومعالمه الأثرية ولهجاته. ويستفاد من ذلك كله أن التوجهات العلمية الخادعة لهذا النهج الكولونيالي أصبحت أكثر من أي وقت مضى تمثل المرجعية الرئيسية لممارسة السياسة الاستعمارية الفرنسية الرامية إلى إحكام السيطرة على مكونات الشعب المغربي، وعلى رأسها العنصر الأمازيغي. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة - طنجة