يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد؛ وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/6.. تنامي التنظيمات الحزبية الكولونيالية يمكن الجزم بأن ما قدمته البعثة العلمية الفرنسية المشبوهة من خدمات اختراقية يستحيل تقييمه إلى يومنا هذا، لسبب بسيط هو أنها استطاعت أن تزرع ألغاما فتاكة في حقلنا الثقافي قد يصعب حتى على الأجيال المقبلة إبطال مفعولها بشكل كامل وجذري! وما المسألة الأمازيغية، شكلا ومضمونا، إلا لبنة من لبنات أنشطتها الهدامة. وها هو تنظيم يحمل اسم «لجنة المغرب» جاء لتفعيل وتقوية عناصر هذه الحملة الهادفة إلى اجتثاث الهوية الوطنية. تصرفات «لجنة المغرب» الدعائية في سنة 1904 تأسست «لجنة المغرب»، باعتبارها امتدادا للتنظيم الكولونيالي، الذي كان يحمل اسم «لجنة إفريقيا الفرنسية»، التي كانت عبارة عن تجمع استعماري يروج لنجاح فرنسا بما استولت عليه من أراض إفريقية. كان ذلك تأكيدا واضحا لتطلعات الأطماع الإمبريالية الفرنسية إلى تحقيق المزيد من المكتسبات في هذا المجال وتعزيزها. وكان المغرب في بداية القرن العشرين من البلدان الإفريقية القليلة، التي ما زالت لم تخضع بصفة رسمية للهيمنة المباشرة للاستعمار الغربي. وهكذا انضافت «لجنة المغرب» إلى أساليب التغلغل الإمبريالي الفرنسي، وطورت برامجها التجسسية، دعما وتكميلا لأنشطة "البعثة العلمية"، التي تطرقنا إليها سابقا. كان أعضاء هذه اللجنة ينتمون إلى التيار الكولونيالي الفرنسي المتشدد، بل يعتبرون نواته الصلبة. هذا من الناحية الإيديولوجية، أما من الناحية الاجتماعية، فقد كانوا يتشكلون من صفوة بارزة من رجال السياسة، والمثقفين، والقادة العسكريين، ورجال الأعمال. وقد تم إسناد الرئاسة الفعلية لهذا التنظيم إلى نائب رئيس البرلمان، بينما تولى وزير الحربية رئاسته الشرفية. وفيما يتعلق بشروط العضوية، فإنها الشروط نفسها الواجب توفرها للانضمام إلى «لجنة إفريقيا الفرنسية». وهي باختصار الإيمان العميق بالإيديولوجية الكولونيالية، التي تبنتها الجمهورية الثالثة الفرنسية، والمساهمة الفعلية في تحقيق هيمنة فرنسا وتوسعها بالقارة الإفريقية. وبناء على ذلك تم إعداد برنامج «لجنة المغرب» الدعائي كجزء لا يتجزأ من السياسة العامة الفرنسية في جوانبها المتعلقة ب"المسألة المغربية". لقد سقطت الجزائر بين أيدي الغزاة، وما لبثت تونس أن استسلمت للأمر الواقع، وهو المصير نفسه الذي كان ينتظر المغرب. إنها إفريقيا «البربرسكية»، كما كانت تنعتها الأدبيات الاستعمارية، التي أضحت مجالا فسيحا لإمبريالية الجمهورية الفرنسية. وهذا الوضع بالذات هو الذي أوقد نار الحماس العدواني لدى أعضاء «لجنة المغرب»، الذين تجندوا من أجل تقوية النفوذ الفرنسي بالمغرب للانفراد بالاستيلاء عليه. وفي وثيقة دعائية صادرة عن هذه اللجنة ما يعبر تعبيرا صارخا عن إرادتها الاستعمارية ونواياها التوسعية. وهذا جزء مما نصت عليه: "في البلدين البربرسكيين (الجزائروتونس)، اللذين استولينا عليهما لدينا ساكنة أوروبية بتعداد يفوق 800.000 نسمة، وهي في تزايد مطرد، لكنها توجد في وسط 6 ملايين من الأهالي الذين يتزايدون هم كذلك. هذان البلدان يمثلان نشاطا تجاريا يقدر بأكثر من 800 مليون فرنك فرنسي، وأكثر من 600 مليون فرنك فرنسي من هذا المبلغ الإجمالي يهم بلدنا، إنها نتيجة رائعة! إلا أن هذا الوضع سيبقى معرضا للخطر طالما ظل المغرب في حالة فوضى أو تم الاستيلاء عليه من طرف قوة أجنبية. يجب أن نتمكن من حسم مصير الإمبراطورية الشريفة لصالحنا، لتكون النتيجة أفضل وأشمل". وبهدف استمالة المستثمرين الاستعماريين الفرنسيين، عمدت اللجنة إلى عقد مقارنات مع البلدين المغاربيين المحتلين، فكانت ترى أن المغرب يوفر أكثر مما توفره تونسوالجزائر مجتمعتين: أراض فلاحية شاسعة وخصبة، معدل تساقطات مطرية مرتفع، موارد معدنية غنية ومتنوعة، إلخ. لهذا كانت اللجنة تحث الفرنسيين على توجيه اهتمامهم إلى ما قد يوفره لهم المغرب من خيرات وفرص سانحة للثراء السريع في حالة بسط النفوذ الفرنسي نهائيا عليه: «إن هذا البلد الجميل، مع الأسف، غير معروف بما فيه الكفاية، واهتمام الفرنسيين به في حاجة إلى دعمه بالمزيد من المعلومات. ومما يؤسف له أكثر هو أن هذا التقصير الحاد انضافت إليه المنافسة الأوربية، التي تحاول جاهدة عرقلة سيرنا وتوغلنا للاستحواذ عليه». كانت هذه هي الخطوط العريضة لبرنامج «لجنة المغرب» الدعائي الذي يتقاطع مع برنامج «البعثة العلمية» من حيث التنفيذ والمنهجيات الاختراقية المتبعة. تصعيد الأساليب التأثيرية لما فرغت «لجنة المغرب» من رسم أهداف إستراتيجيتها العامة، كثفت جهودها الدعائية، على وجه الخصوص، في اتجاه الرأي العام الفرنسي قصد تحسيسه بما قد يجلبه الاستيلاء على المغرب من مزايا عديدة. ولهذا الغرض تم توظيف منبر إعلامي كولونيالي معروف تحت عنوان «نشرة إفريقيا الفرنسية». ولم تقف اللجنة عند هذا الحد، بل لجأت إلى كل الأساليب الدعائية المتاحة، من وثائق مختلفة حول المغرب وندوات وتقارير وخرائط وكراسات وبيانات إحصائية، إلخ. وكل هذه العناصر تم توظيفها بخلفية تطوير النفوذ الفرنسي داخل المغرب لضمان احتلاله في أقرب الآجال، وفي ظروف سياسية دولية ملائمة. وبطبيعة الحال، كان يغذي هذا النشاط الدعائي المحموم عدد من الدراسات الميدانية، التي أجريت في المغرب من طرف أشخاص كلفوا بإنجازها وفقا لرغبات اللجنة وتماشيا مع أهدافها المبيتة. وقد تم التركيز على الأنشطة التجارية والصناعية والفلاحية الفرنسية بشكل اتضحت من خلاله الإمكانيات الهائلة، التي كان المغرب يفتحها أمام تطور هذه القطاعات. وهكذا التزمت «لجنة المغرب» بأن تعمل كل ما في وسعها على تحقيق المشروع الكولونيالي: "لا يخفى على الجمهور أن تنظيما حرا هو وحده الكفيل بأن يدعم ويتمم - وعند الاقتضاء يحرض- الحكومة فيما يخص معالجة الملف المغربي. وهذا بالضبط ما تقوم به لجنة المغرب المنبثقة عن لجنة إفريقيا الفرنسية التي طالما قامت هي الأخرى بالمهام نفسها". وبعد مرور سنة على تأسيسها، استطاعت اللجنة أن تنشر عدة دراسات، كانت عبارة عن وثائق دعائية تندرج في إطار انشغالات فرنسا من أجل تحقيق مشروع استعمارها للمغرب. وهذه بعض العناوين لما أنجز في هذا الباب: "مهمة في الغرب المغربي" (224 صفحة)، "دليل المغرب" (64 صفحة)، "ظروف العيش في طنجة"، "الرأي العام الألماني والمسألة المغربية" (40 صفحة)، "التجارة والصناعة في فاس" (216 صفحة)، "الملكية في القانون الإسلامي، وخاصة في المغرب" (52 صفحة)، "المصالح الفرنسية والألمانية بالمغرب" (43 صفحة)، "نبذة اقتصادية حول تافيلالت" (37 صفحة)، "الجيش المغربي" (29 صفحة)...إلخ. إن مجرد قراءة عابرة لهذه الكتيبات تبين بوضوح العائق الذي كانت تشكله ألمانيا أمام ترجمة طموحات فرنسا الاستعمارية إلى واقع ملموس ونتائج حاسمة ونهائية. لقد كانت «لجنة المغرب» في الواقع انعكاسا لتطور نوعي عرفته الإيديولوجية الكولونيالية الفرنسية في مستهل القرن العشرين. وهذا معناه أنها لم تأت من فراغ، كما أنها لم تكن مجرد تنظيم جمعوي تقف وراءه وتسانده الإدارة العليا الفرنسية بباريس. فهي قبل كل شيء إفراز لحلقة متطورة من الفكر الاستعماري الفرنسي في مظاهره البراجماتية ونظرته الشمولية. بروز التيار الحزبي الاستعماري في سنة 1892 أسس أوجين إيتيان «التجمع الكولونيالي»، الذي كان يعرف على الخصوص باسم «الحزب الكولونيالي». وتجدر الإشارة إلى أن أوجين إيتيان كان من مؤسسي «لجنة المغرب» ورئيسها الشرفي. شغل أوجين إيتيان مناصب عليا هامة، منها نائب برلماني لوهران لمدة 40 سنة، ونائب كاتب الدولة للمستعمرات سنة 1887 وما بين 1889 و1892، ومدير للمجلة الكولونيالية، ووزير عدة مرات، منها وزير الحربية، وكان يشغل هذا المنصب حين كان رئيسا شرفيا ل"لجنة المغرب" آنفة الذكر. وقد انضم إلى هذا الحزب عدد من النواب المتحمسين للتوسع الكولونيالي الفرنسي، وكان تأثيرهم على الرأي العام الفرنسي بالقول وبالفعل معا. كانت طروحات جيل فيري بالنسبة إليهم مرجعية غير قابلة للنقاش. وفعلا، كان جيل فيري يعتبر باعث المد الكولونيالي في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة، وكانت خطاباته العنصرية تستهوي عددا متناميا من السياسيين والقادة العسكريين، فهو الذي وجه تحيات الفخر والاعتزاز إلى «مقاتلي الأراضي النائية». وكان يعني بذلك حملات الجيش الكولونيالي الفرنسي في إفريقيا وغيرها. وفي خطاب له أمام البرلمان يوم 3 يوليوز 1883 قال، منوها بعمل الجنود خارج الحدود الفرنسية، أقوالا تعد بمثابة الخط السياسي لهذا التيار، وكلها مبنية على المناصرة العمياء للروح العسكرية الاحترابية في خدمة التوسع الاستعماري. وهذه فقرة من خطابه: "أبطال أفذاذ تضرب بهم الأمثال، بناة حضارة يخترقون شعوبا متوحشة. إنهم يبنون ويمدنون ويروضون هذه الإنسانية البدائية بفضل سمو نبوغهم وأصالة عبقريتهم". ارتوى أوجين إيتيان من هذا المعين، وكان متشبعا بآراء جيل فيري، ولم يكن من الموافقين على نهج سياسة الحماية المحدودة، التي كان يسميها «سياسة الاحتجاب». وهو لا يعني بذلك ميله إلى سياسة الإدماج أو المماثلة. ربما كان يحبذ سياسة الإبادة، ويستشف ذلك من قوله: «يوجد في الجزائر ثلاثة ملايين ونصف من الأهالي الذين سيظلون دائما عقبة يتعذر تذليلها بين هذا البلد وفرنسا». وفي فترة وجيزة نسبيا أصبح الحزب الكولونيالي قوة سياسية مهيمنة على توجهات الجهاز التشريعي الفرنسي. وقد قام المؤرخ الفرنسي شارل روبير أجرون بتحليل هذا التيار، معززا قوله بالبيانات الإحصائية والتواريخ المضبوطة: "بعد موجة مناهضة الكولونيالية سنة 1885 حصل تراجع وبدأ عدد المناوئين للسياسة الكولونيالية في انخفاض مستمر حتى سنة 1914. ففي الدورة البرلمانية 1885/1889 كان عددهم كالتالي: 267 عضوا في دجنبر 1885، و215 عضوا في نونبر 1888. أما في الدورة البرلمانية 1910/1914، فقد انخفض عددهم إلى 80 عضوا. وفي الاتجاه المعاكس، فإن التجمع الكولونيالي البرلماني، الذي أسس سنة 1892، كان يضم في هذه السنة 91 عضوا، ثم أصبح يضم 102 عضو مع نهاية الدورة البرلمانية. وبعد انتخابات 1893 وصل العدد إلى 120 عضوا، وانتقل إلى حوالي 200 عضو بعد انتخابات 1901". وهكذا جاءت «لجنة المغرب» نتاجا لإيديولوجية إمبريالية اكتسحت الشارع الفرنسي، وبدأت تمارس مهامها الدعائية وفقا لقناعات الحزب الكولونيالي المبنية على آراء عنصرية صارخة، وما المسألة الأمازيغية في الظروف التاريخية التي برزت فيها إلا من إفرازاته التخريبية. *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة