يسود الاعتقاد عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، بأن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا الظهير البربري بتاريخ 16 مايو 1930. وهذا الاعتقاد خاطئ لا محالة؛ لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجيا الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد؛ وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في السلسلة الرمضانية لهذه السنة. 30/13 .. البعثات العسكرية الفرنسية ومشروع تقسيم المغرب لم يكن للبعثات العسكرية الفرنسية بالمغرب أي وجود رسمي إلا ابتداء من سنة 1877، لكن قبل هذا التاريخ جال بالتراب المغربي عدد من الجواسيس الفرنسيين بحثا عن معلومات استراتيجية من أجل التحضير لمشاريع تستهدف زعزعة الأمن بالبلاد، وبالتالي تسهيل ظروف احتلالها العسكري. إن مصدر المعلومات الوحيد، الذي كانت السلطات الفرنسية تعتمد عليه في مطلع القرن التاسع عشر حول المغرب، كان مصدرا عسكريا مخابراتيا. ونظرا لطبيعة المصدر، فإن المعلومات التي جمعت ميدانيا كانت كلها تخلص إلى ضرورة القيام بعمل عسكري ذي صبغة مؤقتة أو نهائية. لم تكن تلك المعلومات مجرد تقارير تقنية، بل جاءت شاملة لجوانب متعددة ومعطيات مختلفة حول المغرب، كجغرافيته وتكوينه الإثني وسياسته الداخلية والخارجية وتاريخه العسكري وقوته الاقتصادية، إلى غير ذلك مما له علاقة بالمغرب وسكانه. وكانت خطوط السير المتبعة لإنجاز هذا العمل التجسسي تنطلق في أغلب الأحيان من الشمال (طنجة، تطوان والنواحي) وتمر بعد ذلك بوسط البلاد (فاس، مكناس ومراكش) لتصل إلى الجنوب (الصويرة ومنطقة سوس). كان خط السير على شكل حرف S اللاتيني، لكن بعض الجواسيس كانوا يمرون في طريق العودة بالمنطقة الساحلية الأطلسية، وبعدها مباشرة يتوجهون إلى المنطقة الشرقية، وبذلك ينقلب شكل S إلى رسم جديد على شكل رقم 8، لتكتمل بهذه الطريقة عملية مسح المغرب مخابراتيا. وكانت حصيلة هذه الجولات الجاسوسية تدون في مذكرات مخطوطة تختلف أحجامها وأهميتها باختلاف كفاءة الذين سهروا على إنجازها في إطار المهمات التي كلفوا بالقيام بها. بعثة 1877 وامتداداتها كل هذه التقارير السرية كانت مصدرا لثقافة عسكرية مغامرة تتغذى على مشاريع استعمارية قيد الإنجاز أو توجد في مرحلة البلورة النهائية. وكمثال على ذلك، كان يوجد رهن إشارة الضباط الفرنسيين سنة 1844، في عدة كراسات، ما يسمى ب «دليل الضابط في إمبراطورية المغرب». وبعد ذلك بسنوات جاءت البعثة العسكرية الفرنسية بصفة رسمية لتتمم وتعمق هذا العمل التجسسي بحنكة مهنية أكبر، وبدعم حكومي مضاعف ماديا وسياسيا. ويبدو من خلال الوثائق الفرنسية أن حاكم الجزائر هو الذي كان وراء الإعداد لبرنامج بعثة عسكرية معتمدة لدى الحكومة الشريفة. وكان الهدف المعلن عنه في هذا الإطار هو «إمداد جيش مولاي الحسن بمؤطرين فنيين»، غير أن المفارقة هي كون الهدف المضمر أوضح بكثير مما تم الإعلان عنه، والسياق الكولونيالي يساعد على استشراف ذلك بدون عناء: إنها خطوة كبيرة في اتجاه الإعداد الممنهج لاحتلال المغرب، حيث لا توجد في هذا البرنامج العسكري أي بوادر لتعاون فرنسي-مغربي في هذا المجال بالتحديد. ويؤكد ذلك ما كتبه ميشو بيلير، أحد أعمدة الاستعمار الفرنسي بالمغرب: "إن الأمر في الواقع يتعلق بتوظيف هذه الوسيلة (البعثة العسكرية) لصالح نشر النفوذ الفرنسي بالمغرب، ومنافسة دول أجنبية كانت تطمح هي الأخرى إلى تعزيز نفوذها في هذا البلد. ثم إنها لفرصة ثمينة ستمكنها من جمع وثائق نستغلها في المستقبل". وفي شهر فبراير 1877 تم الاتصال بالحكومة الشريفة، في شخص الصدر الأعظم، موسى، لتعلن فرنسا يوم 22 أبريل 1877 عن تأسيس بعثة عسكرية من ثمانية أفراد يعملون رسميا بموافقة الحكومة المغربية، وقد انضم إليهم يوم 3 شتنبر من السنة نفسها الدكتور ليناريس، وهو طبيب عسكري لعب فيما بعد دورا دبلوماسيا خطيرا لدى الحكومة المخزنية. وكانت مدينة وجدة هي أول مقر رسمي للبعثة العسكرية الفرنسية. وبطلب من حكومة باريس انتقل مقر البعثة سنة 1880 من وجدة إلى الرباط، بعد ذلك فتحت البعثة مصلحة تابعة لها بمدينة فاس، ولم يستسغ الرأي العام المغربي تواجد تلك العناصر العسكرية الفرنسية بالبلاد، وقد تفاقم الوضع لما بدأ بعضها يرافق رسميا السلطان مولاي الحسن الأول في تنقلاته وحملاته الأمنية. لذلك قرر الفرنسيون لأهداف تمويهية اعتماد الزي المغربي كلباس خارجي، حيث ظل أفراد البعثة يحتفظون ببدلاتهم العسكرية الأصلية، لكن مع إضافة "سلهام" مغربي فوقها حتى لا ينكشف أمرهم بسهولة. وفي شهر غشت من سنة 1887 وجد أحد أفراد البعثة العسكرية الفرنسية مشنوقا على ضفاف واد بهت، مما يدل على أن المغاربة لم تنطل عليهم حيلة «التعاون» العسكري الفرنسي المزعوم. ومن أشهر أعضاء البعثة الفرنسية الضابط البحري، جليان فيو، المعروف باسم بيير لوتي، الذي ألف كتابا تحت عنوان «في المغرب». وفيه تناول شخصية السلطان بنوع من التهكم والسخرية، وبأسلوب من التعالي المفعم بالروح الكولونيالية المتبجحة. كان مولاي الحسن الأول على علم بالنوايا الحقيقية لمؤسسة البعثة العسكرية الفرنسية، لكن لأسباب سياسية ودبلوماسية أبقى على تواجدها الرسمي، محاولا مع ذلك إضعاف نفوذها باللجوء إلى بعثات أجنبية أخرى دخلت معها في منافسة حادة، فضيقت الخناق على هامش تحركاتها، وهو ما أثار حفيظة الفرنسيين. وهكذا استقرت بعثة عسكرية إيطالية بفاس تحت قيادة الماجور بريكولي، وقامت بتأسيس أول مصنع للأسلحة بالمغرب سنة 1888، يعرف إلى يومنا هذا ب«المكينة». وكان هذا المعمل يشغل حوالي 200 عامل، ويصنع يوميا ما معدله 5 بنادق و1000 قطعة من الخراطيش. وفي هذه السنة كذلك طلب المخزن من الضابط الألماني راتنبوج أن يقوم بتعزيز تحصينات دفاعية حول مدينة الرباط، خاصة على طول جهات المدينة المطلة على المحيط الأطلسي. وقد تم بالفعل وضع مدافع من نوع "كروب" مصوبة في اتجاه البحر، وفي أماكن مدروسة تحسبا لهجومات خارجية. كما أن إسبانيا كانت ممثلة عسكريا لدى السلطات المغربية سنة 1889 بواسطة ضابطين مختصين في بناء القناطر والجسور. وقد نشبت جراء حدة منافسات النفوذ الأجنبي وارتفاع درجة أطماع المتربصين بالبلاد أزمة البعثات الأجنبية المعتمدة لدى الحكومة الشريفة، وأدى ذلك إلى اقتراح إلغائها. وفعلا كان قرار إلغاء البعثات العسكرية جاهزا سنة 1894، ولم يكن بوسع الفرنسيين إلا أن يوافقوا على تسريح كل الفنيين الأجانب، وعلى رأسهم الفرنسيون، لكن فرنسا اشترطت أن يتم تعويض ضباطها بمهندسين فرنسيين يحلون محلهم، مع الإبقاء على مهمة الدكتور ليناريس بفاس، وكانت مناوراتهم مفضوحة. وفي هذه السنة بالضبط (1894) توفي السلطان مولاي الحسن الأول في ظروف اكتنفها الغموض، وأخيرا تنفس الفرنسيون الصعداء. المشروع العسكري لتقسيم المغرب بحكم طبيعتها كانت كل الأعمال الاستخباراتية، التي أنجزها أفراد البعثة العسكرية الفرنسية، تشدد على الغزو، وتدعو إلى الاستيلاء على المغرب مهما كلف ذلك من ثمن، وهي الأعمال نفسها، التي كانت تستنير بها الأوساط السياسية بباريس. وهكذا جاء في مذكرة سرية لوزارة الحربية بتاريخ 18 دجنبر 1892، حول موضوع تقسيم التراب المغربي مقرونا بإلغاء بنود اتفاقية للامغنية لسنة 1845: "بمجرد ما تفتح المفاوضات بشأن احتلال جزء من هذه الإمبراطورية (المغرب)، سيتوجب على فرنسا أن تستولي على خط ملوية، بما في ذلك منطقة وجدة شمالا، وواحات فجيج في الجنوب الشرقي، إضافة إلى أرض أولاد جرير ودويمينيا، بعد ذلك لن تعتبر فرنسا كأساس قانوني لحقوقها سوى الاتفاقية الفرنسية-الإنجليزية بتاريخ 5 غشت 1890". كانت فرنسا تعتبر مصالحها الإستراتيجية ذات بعدين: البعد الأول كان بعدا قاريا لكونها تسيطر على مستعمرات إفريقية، وهي لذلك تحبذ أن تكون لها حدود جغرافية مع بلدان ضعيفة، لأن الحدود مع بلدان قوية ستبقى دائما مثار تهديد لنفوذها. وفي الوقت نفسه كانت تتطلع إلى بسط سيطرتها لتشمل الواجهة الأطلسية والمناطق الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية. أما البعد الثاني فقد كان بعدا بحريا، وكان يعني ربط موانئها المتروبولية بموانئ مستعمراتها في السنغال والبنين والغابون والكونغو. وفيما يتعلق بالمنافسة الدولية، تطرح المذكرة المشار إليها أعلاه هذا السيناريو انطلاقا من الاعتبارات الإستراتيجية المستقاة من توجهات قارية وأخرى بحرية، والتي تنسجم مع البعدين آنفي الذكر. وجاءت خلاصة المذكرة كالآتي: "إن فرنسا ستواجه بالخصوص أطماعا إنجليزية وأخرى إسبانية. الإنجليز يطالبون بطنجة، والإسبان يريدون المراكز القديمة". وعلى ضوء هذه التقارير العسكرية الاستخباراتية كانت فرنسا ترى أنه في حالة ما تعقدت المفاوضات مع إسبانيا بشأن تقسيم المغرب، فإنها على استعداد لمنح هذه الأخيرة امتدادا في المنطقة الساحلية الصحراوية، مع تحفظ أشارت إليه مذكرة وزارة الحربية بهذه العبارة: «لكن دون أن يصل ذلك الامتداد إلى حوض واد سوس المعروف بخصوبته». وكل هذه الترتيبات تمت دراستها بعناية من وجهة النظر الفرنسية، التي كانت تؤكد كثيرا على سريتها، وتلح في الوقت نفسه على الدول الحليفة المستفيدة من التقسيم أن تكون على أتم استعداد لإنجاز هذا المشروع مهما كانت حدة الاعتراضات التي لا محالة سيثيرها. الجدير بالملاحظة أن هذه المذكرة تعاملت باستخفاف مع المقاومة المغربية، حيث رأت أن إنجاز هذا البرنامج العسكري-السياسي هو قبل كل شيء رهين بقدرة الدول المستفيدة على الإصرار، وهو ما يفرض عليها الوقوف جنبا إلى جنب في وجه كل العراقيل. ومهما يكن من أمر، فإن تحليل الوضع القائم آنذاك لا يخلو من واقعية، بل ينم عن نظرة فاحصة لمجريات الأحداث وطبيعة الإشكالية: «إن حالة المغرب السياسية جعلت هذه الإمبراطورية دولة متفككة، ناضجة للاحتلال، لا يوجد بها رابط سلطة أو تماسك اجتماعي أو انضباط، وكل المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد أن اجتياحا سريعا سيجعل المغرب يخضع بدون صعوبة للأمر الواقع، بالرغم من تعصبه الديني. أما الدول التي تنافسنا في الاستيلاء على المغرب، فلن تقبل الاستسلام بكل سهولة، لكن مع مرور الزمن ستجد نفسها في نفس موقف المغاربة». وكان من الواضح أن المنافسة الحادة بين المتكالبين على البلاد هي العامل الأساسي، الذي يعرقل تقدم المخطط الاستعماري الفرنسي ويرغمه على المزيد من التريث، لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن ما أنجزه أعضاء البعثة العسكرية كان لبنة هامة على درب نشر النفوذ الفرنسي وترسيخ قدمه فوق التراب المغرب. لقد كان مشكل تدبير الأطماع الاستعمارية العقبة الكأداء أمام حل «المسألة المغربية». ولما تعثرت مفاوضات التسوية الاستعمارية لهذا الملف الساخن، طلب رئيس البعثة العسكرية، النقيب لاراس، من حكومة بلاده في باريس سنة 1899 أن تخطط فورا لاستعمار المغرب كاملا دون حليف أو شريك، ولم يكن النقيب لاراس يستبعد المواجهة المحتملة مع بريطانيا في حالة إنجاز هذا المشروع الحربي، الذي يضرب بعرض الحائط بعض الاتفاقيات والترتيبات السرية بين القوتين الاستعماريتين والمعنيتين أساسا بمستقبل المغرب الكولونيالي. وتحت تأثير تكوينه العسكري نصح النقيب لاراس حكومة بلاده في حالة إقدامها على تزكية طلبه باعتماد القاعدة المشهورة: «الحرب تمزق المعاهدات». إلا أن حكومة باريس لم تكن دائما مستعدة لتبني خطة العسكريين بحذافيرها، وكانت تتمسك قبل كل شيء بتوجه دبلوماسي يتماشى أكثر مع إستراتيجيتها الاستعمارية، ويأخذ بعين الاعتبار التحالفات التي كان لا بد من ضمانها من أجل ذلك. وفي تقرير آخر بتوقيع النقيب لاراس جاء الطرح نفسه، لكن بصيغة أكثر إلحاحا: "يجب على الحكومة الفرنسية أن تؤكد عزمها على احتلال المغرب، وسيحدث ذلك بدون شك. يجب عليها أن تقول إن المغرب ضروري بالنسبة لنا ونريده كاملا. إن الاستيلاء عليه يكاد يشكل بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت".... *أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة – طنجة