ما زال ملف الطاقة يتربع على رأس سلم أولويات صناع القرار السياسي لدول كثيرة على امتداد المعمور؛ بل ويمكن اعتبار مسألة الأمن الطاقي وسبل ضمانه أو السيطرة على الموارد الطاقية ضمن أهم الهواجس التي تؤرقها، فضلا عن اعتبارها كعنصر محدد في المصالح الحيوية وإحدى أهم العقد التي تهيمن على العلاقات الدولية في بعدها الاقتصادي والسياسي والأمني، إلى الدرجة التي تدفع في كثير من الأحيان إلى نشوب نزاعات مسلحة وصراعات جيو-سياسية سواء مباشرة أو غير مباشرة تحت شعارات وذرائع مختلفة، لكن تظل معادلة الطاقة في قلبها . وبينما تدفع عوامل متعددة كالنمو الديمغرافي المتزايد، أو التوترات الإقليمية، أو الطفرة الاقتصادية للعديد من القوى الناشئة كالهند أو الصين وغيرهما من الدول النامية، إلى المزيد من الطلب على المواد الطاقية بشتى أنواعها؛ وهو ما يدفع بالنتيجة في اتجاه المزيد من التقلبات في أسعارها أو ارتفاع الفاتورة الطاقية للدول غير النفطية والمؤداة بالعملة الصعبة الشيء الذي يثقل من فاتورة ميزانها التجاري. يأتي كل ذلك في وقت تعتبر منابع الطاقة الأحفورية التقليدية كالنفط والغاز والفحم الحجري أو حتى المفاعلات النووية المعتمدة على تخصيب اليورانيوم، كمصادر قابلة للنضوب أو مهددة بالانحصار وأحيانا تتركز في مواقع جغرافية تتسم بعدم الاستقرار السياسي، الشيء الذي من الممكن أن يفجر في أي وقت أزمة في الإمداد، في سيناريو قد يكون مماثلا للأزمة النفطية العالمية لسنة 1973، فضلا عن اعتبارها كطاقات غير نظيفة وغير آمنة كما هو واقع كارثة "تشرنوبيل" سنة 1986 أو انفجار مفاعل "فوكوشيما" النووي الذي أعقب زلزال "تسونامي" الذي ضرب اليابان سنة 2011، بالنظر إلى تأثيرها الكبير على المناخ والبيئة، ومدى علاقة كل ذلك بالالتزامات الدولية حول خفض انبعاثات الغازات الدفيئة كاتفاقية "كيوتو" أو معاهدة باريس للمناخ، في مسعىً دولي لاحتواء ظاهرة الاحتباس الحراري والحد من مخاطره على البيئة . كل هذه العناصر تملي في نظر المتخصصين الحاجة إلى اعتماد إستراتيجية جديدة ونظرة استشرافية للمستقبل في معالجة الإشكالية الطاقية عبر إرساء سياسة طاقية واعدة، آمنة، أقل كلفة ومستدامة، في أفق تأمين وتنويع مصادر الطاقة وضمان تدفقها، سيما وأنها قد أضحت مرتبطة بشكل جد وثيق بحياة ورفاهية السكان في عصرنا الحالي وارتباطها بمفهوم التنمية المستدامة . وقد تُرجمت هذه الإستراتيجية بشكل عملي من قبل دول وشركات متخصصة عبر التفكير في سبل الاستثمار في إنتاج مصادر بديلة للطاقة تكون آمنة وصديقة للبيئة كالطاقة الشمسية، أو طاقة الرياح، أو الطاقة الكهرومائية، أو وقود الكتلة الحيوية، أو حتى طاقة حرارة الأرض، وهي مصادر، على الرغم من المشاكل المالية والتقنية التي تجابهها ومحدودية إسهامها نسبيا في إنتاج الكهرباء مقارنة مع الطاقة الأحفورية التقليدية، إلا أنها قد أضحت مجالا خصبا للاستثمار وآخذة في النمو بشكل متصاعد، حيث أصبحت تمثل في المجمل ما نسبته %23,5 من مجموع المصادر المنتجة للطاقة الكهربائية في العالم بحسب تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (IRENA) لسنة 2017. كما أن حجم الاستثمار العالمي في إنتاج الطاقات المتجددة ارتفع، حسب الوكالة ذاتها، من 50 مليار دولار سنة 2004 إلى 305 مليارات دولار سنة 2015. وهكذا تجد الحكومات نفسها أمام واقع تخصيص المزيد من الاعتمادات المالية وضخ المزيد من الاستثمارات من أجل حل معضلة الطاقة والتقليل من كلفتها، كما تجد شركات التكنولوجيا العالمية نفسها أيضا في تنافس شرس وسباق محموم مع الزمن بغية الرفع من سبل الاستفادة من مصادر الطاقة البديلة عبر الانخراط المكثف وإجراء المزيد من الأبحاث التقنية والاستثمار في هذه السوق التي تبدو واعدة، ومعالجة الإشكالات ذات الصلة بكلفة الإنتاج التي أخذت في الانخفاض التدريجي، حيث تشير تقديرات خبراء الوكالة إلى أن تكلفة طاقة الرياح على سبيل المثال قد انخفضت بنسبة 23% خلال الفترة ما بين سنة 2010 وسنة 2017، وانخفاض تكلفة الكهرباء المستمدة من طاقة الشمس بنسبة 75 % خلال ذات الفترة، إلى جانب الرفع من قدرة تخزين البطاريات للكهرباء، حيث تشير تقديرات الخبراء إلى إمكانية الرفع من قدرة التخزين من 1 جيغاوات في الوقت الحالي إلى 250 جيغاوات بحلول سنة 2030، وهي أرقام لا شك في أنها تدلل على جدية التعاطي الدولي مع هذا الملف، وفي الوقت نفسه يمكن اعتبارها كمبعث على التفاؤل في أفق تلبية الطلبات المتعاظمة على الطاقة وبأقل تكلفة مادية وبيئية ممكنة.