لا يعرف سر المرأة إلا المرأة ، ولا أحدا يستطيع مجاراة النساء إلا النساء . فإن ساعفتك المرأة وقبلت مرافقتك حتى آخر العمر فاعلم أنك محظوظ . وإن تخلت عنك وسط الطريق فاعلم أنها لم تجد فيك ما تريد ، ولم تأخذ منك ما يفيد . قد يكونون قلائل أولئك المحظوظون من الأزواج ، والذين حصلوا على ما كانوا يريدون ويتمنون ، حيث وجد الرجال النموذج من النساء الذي كانوا يبحثون عنه، ووجدت النساء النموذج من الرجال الذي كن يبحثن عنه . كانت أمي مؤمنة بأن الزواج قسمة ونصيب ، وهو يشبه إلى حد كبير رحلة من مدينة إلى مدينة أخرى ، حيث تجلس بجانب شخص لم يسبق لك أن تعرفت عنه ، ولم تختر جواره ، فيفاتحك وتشرع في الاستماع إلى حديثه أكان ممتعا أم مملا . فالتجربة التي راكمتها والدتي عبر سنين بعد زواجها من أبي ، ومن خلال أحاديثها المتبادلة بينها وبين صديقاتها اللواتي كن ينادينها " للا فاضمة" أكسبتها الحكمة. كنت ابنها الذكر الوحيد وسط ثلاث بنات ، لذلك كانت تحبني وكنت أحبها ، وكم كان يحلو نومي – وأنا صغير- ورأسي على فخضها وهي تتلمس شعر رأسي ، فأشعر حينها باطمئنان وراحة ، استسلم بعدها لنعاس ثقيل . فكانت تتكفل بإزالة حدائي ، ونقص بعض ملابسي وأنا نائم ، ثم تأخذني بلطف إلى فراشي. وعندما أستيقظ أجدها قد أحضرت لي أكلة تعلم حق العلم أني كنت قد اشتهيتها يوما. كانت الوالدة ظل أبي ، ويده اليمنى ، ومستشاره الصادق ، وأمين صندوق ماله ، وطبيبه ، وممده في الضائقات. لم أر مثلهما تفاهما بين الأزواج ، إذ كنت أزور عمي وخالي وبيوت كثيرة ولكني لم ألاحظ مثل تفاهم أبواي وتفانيهما في الاستماع لبعضهما ، إلى درجة أن أمي لم ترحل يوما واحدا عن بيتنا إلى بيت جدي وهي غضبانة ، ولم تدفع بتصرف طائش أبي إلى مغادرة بيتنا وهو قلق ساخط . كانت صديقات " أمي" يحلو لهن مناداتي " ابن أمه " وكن يتمازحن مع بعضهن البعض فيعرضن بناتهن علي للزواج وأنا صغير ، فكنت أحس بحرارة " الحشمة " تجتاحني فلا أعلم لها تفسيرا، وباحمرار يصبغ وجهي . كانت أمي تعزز وتنمي رجولتي وهي تقول لهن " ابني زين ، اشكون لمباركة لغتساهلو " . فدارت الأيام ، فأصبحت شابا متعلما ، أنفق أبواي علي وعلى أخواتي كثيرا من الجهد والمال الحلال، جمعاه قرشا قرشا وهما يوفرانه بعرق يمسح عرقا.كانا يقولان لنا ونحن على طاولة العشاء ، "الأكل من أجل البقاء والعلم من أجل الكرامة" . فيشددان على وجوب تتبع نصائح الوالدان اللذان يفضلان دائما أن يكون أبناؤهم أحسن منهم حالا. فكانا يذكراننا - كل واحد واحدا – عن العناء الذي عرفاه في صغرهما من فقر ، وأنهما بفضل الله وعزيمتهما رفعا التحديات ، فكوّنا بيتا من لاشيء ، وها هما الحمد لله منبسطين ، قانعين بالرزق الحلال أكان كثيرا أم قليلا. كنت أستمع إليهما ، وأنا أتمعن وأدقق في ملامحهما ، لقد بدأت بعض التجاعيد تكسو محيا أمي ، وبدأ يظهر عليها بعض التعب ، لكن رغم ذلك مازالت تحتفظ ببعض السحر " إلى غاب الزين تبقى حروفو" كما يقال ، أما أبي فالشيب كسا رأسه تماما ، ولفحات الشمس بدلت بياض وجهه إلى حمرة مع بعض التجاعيد التي زادته رجولة ووقارا. لقد تغير بيتنا الذي كانت تملؤه حيوية صديقات أمي لما كبرنا ، فملأه الصمت إلا من الأخبار التي تعوّد أبي على الاستماع إليها عبر وسائل الإعلام المرئية . لقد تزوجت أختاي حليمة وسلمى فالتحقتا بزوجيهما بمدينة الرباط والجديدة ، ومازالت أختي الصغيرة شيماء تنتظر فارس أحلامها ، وهي التي تقوم بكل متطلبات البيت تقريبا ، لقد سبقها أختاي إلى ذلك . لقد كانت أمي تحرص على تربيتهما على تحمل المسؤولية ، كي لا يقعن في الحرج بعد الزواج . لقد كانت أمي - اسكنها الله جناته – بالنسبة إلي الصديق والناصح ، وموقع الحكمة . جربت كل استشاراتها فوجدتها عملية وتؤدي إلى النجاح .بعد الحبل السري الذي كان يجمع بيني وبينها وأنا في بطنها ، أصبحت الثقة صلة الوصل بيننا إلى أبعد الحدود. كنت أكره نفسي كلما رأيتها تتلون بين الحمرة والصفرة وهي توجه إلي النصائح وتفتح عيني على الدنيا . فتطنب من التعليمات ووجوب التقيد بتوجيهاتها وتوجيهات أبي تجنبا السقوط في المحظور ، خاصة عندما تسمع عن مشاكل الغير أو أحداث الآخرين ، فكانت وهي تحكي لي قصص الناس والجيران والأقارب تأمرني " كن رجلا ...ولا تكن ذكرا " فكنت أقلب هذه العبارة مرات محاولا فهم دلالتها ، وأنا أنظر إلى وجه أمي متسائلا " ماذا تريد أن تقول بالضبط؟" . في إحدى الفرص قاطعتها وطلبت منها بأدب أن تشرح لي معنى " كن رجلا ..ولا تكن ذكرا" ، فصمت وتلون وجهها بحمرة ، جعلتني أغير السؤال ، إن كانت ستزور أختي بالرباط الأسبوع القادم، فأجابتني بالنفي وهي تنسحب متوجهة نحو المطبخ .كنت أعلم في قرارات نفسي بأنها كانت تقصد أمرا عظيما ، لكن استحيائي كان يمنعني من الدخول معها في التفاصيل . بعدما تخرجت ، وحصلت على عمل ، كانت جد فرحة ، فنظمت حفلا عائليا ، استدعت إليه أعز صديقاتها ، فكان هذا الحفل مناسبة تعرفت فيها عن زوجتي الحالية ، " نعيمة" التي أعجبتني أناقتها وخريطة جسدها ، و تواضعها وهي تتفاعل مع أمي وهي تخدم الحاضرين . بعد ثلاثة أشهر بالتمام والكمال أقمنا حفل الزواج بقاعة الحفلات ، فبيتنا العتيق لا يتسع لكل المدعوين ، ثم رحلت أنا وزوجتي إلى بيتنا الجديد ، بضعة أمتار فقط تفصله عن بيت والدي. ليلة الزفاف كنت فرحا ، منشرحا ، وكانت أمي مبتسمة ، لكنها كانت تخفي ألم فراقي ، كانت تحس بأنها ستفقد شيئا منها عزيزا ، والحقيقة أني كنت أنا كذلك أشعر بنفس الشيء ، لذلك كنت أكثر طاعة لها ولأبي في تلك الليلة ، وكنت أطيب مع أخواتي ، خاصة مع أختي الصغيرة التي كنت أتمنى لها زوجا هي الأخرى ، "بيت الفتاة دار زوجها ، حيث هناك شرفها وغطاء رأسها " هكذا كانت تردد أمي على الأقل كلما سمعت بأن ابنة فلان طلقها زوجها ، أو خرجت من بيت الزوجية غضبانة. بعد ثمانية شهور من زواجي بنعيمة رزقنا بولدنا الأول ، "فهد" ففرحنا به غاية الفرح وبارك أبواي وكل العائلة المولود الجديد وكذلك الأصدقاء ، والغريب أنه بعد ازدياد " فهد" أصبحت أكثر تعلقا بوالدي ، ربما لأني كما يقال " جربت وتحرك كبدي " ، وفهمت سبب إلحاح والديّ علي بوجوب الانضباط ، الذي كنت أتخيله نوعا من الضغط والقسوة عليّ . لقد بدأت أنا الآخر أخاف على " فهد " وأوصيه كما كانت توصيني أمي بأن أكون ...ثم أكون...و ألا أكون...وأن أفعل ...ثم أفعل ..وألا أفعل. بعد عامين على ازدياد " فهد" رزقنا "بلمياء " : طفلة جميلة ، ازدان بها فراشنا ، فرحت بها زوجتي غاية الفرح ، فكانت تردد على كل من بارك لها المولودة " إنها حقي " . كل النساء يحببن أن يرضين أزواجهن بمولود ذكر ، ثم يرضين أنفسهن بمولود أنثى . تلك أماني.. " والله هو الرزاق ". كانت الزيارات إلى بيت أبواي وبيت صهراي لا تنقطع ، وكانت أمي تتحمل المسافة الفاصلة بين بيتي بيتها وتزورني دوريا كي تطمئن علي ، وكي تطلع على أحوالي ، والحقيقة أني بدأت أتغير تحت ضغوطات الحياة ومتطلباتها ، " ففهد" سجلته بإحدى المدارس الخاصة لما بلغ سن الرابعة ، ولمياء بدأت تتطلب مني فحوصات دورية لما أصيبت بالربو المبكر ، الأمر الذي دفعني لبيع المنزل الأول واختيار السكن في مدينة بن سليمان حيث يقل التلوث . وكان علي اقتراض أموال من أحد أقاربي ، وأخرى من أقارب زوجتي لأسدد مصاريف بناء منزل كبير. بدأت أجرتي تنكمش ، وبدأ صبري ينفد ، فأصبحت سريع القلق وفقدت كل لياقة المرح والحديث الطويل مع أمي وأبي ، فكنت أقضي غالب وقتي هائم التفكير . كان مستقبل ابني " فهد" يأخذني كثيرا، وكنت أقنع نفسي بأن عليّ بالمزيد من التضحيات إلى أن يكمل إبناي فهد ولمياء تعليمهما بنجاح . قبل ست سنوات سجلت " فهد " بإحدى الجامعات بالخارج كي يتخرج مهندسا معماريا . لم يكن إرسالي " فهد" للدراسة ترفا ، وإنما اختيارا صعبا بعدما سُدت كل أبواب الكليات في وجهه ، وفتحت تلك الأبواب في وجه الوصوليين، والحاصلين على نقطة عالية بالتقرب إلى الأساتذة والإدارات الخاصة. اليوم أرى نفسي وكأني أخطأت في حقه وحقي ، لما اعتقدت بأن على التلميذ الاعتماد على قدراته فقط، بينما الحقيقة حسب الواقع ، "العلاقات قد تؤسس إلى نجاحات" . بعد سفره إلى الخارج كان علي مضاعفة جهودي كي أحصل على المزيد من الأموال ، لأنهض بمصاريف " فهد " الدراسية ومصاريف أخته. في هذا الوقت كانت علاقتي مع نعيمة تخفت ، وحديثي إليها يقل ، ليس لأني أكرهها ولكن لأني أصبحت ممنشغلا كثيرا ، أفكر في الورطة التي وضعت فيها نفسي ، خصوصا لما أنظر إلى وجهي في المرآة ، لقد تغيرت ملامحي ، وطلعت وجهي بعض الصفرة وبدأت أبدو ضعيفا متهالكا كالعجوز وأنا مازلت شابا . في آخر سنة دراسية ل " فهد " بالخارج، وبعد حصول لمياء على عمل ، أستاذة بأحد الثانويات ، تغيرت نعيمة 180 درجة ، وتحولت إلى زوجة أخرى ، ترد الكلمة الواحدة عليّ بعشر كلمات ، وبدأت تكثر من الخروج والغياب عن المنزل . عند رجوع " فهد" إلى بلده كل عطلة كنت أسمعها تشتكي إليه، فكنت أنا الأخر أشتكي وأوضح له بأن أمه تغيرت معي إلى حدود حرماني من بعض حقوقي ، كان فهد هو الآخر قد تغير، وتعلم بعض عادات الغرب : عدم الاكتراث بمشاكل الغير ، والبحث فقط عن المصلحة.كان يرد علي " بيناتكم ألوليد !، حتى هذيك راها وليدة" ثم يضع النايك NAK ليستمع للمويقى . في هذا الوقت كنت أكاد أجن وأنا الذي ضيعت حياتي من أجلهم كلهم ، كنت أقول في قرارات نفسي بأنني أستحق هجركم وتنكركم لخدماتي ، وأنا الذي أرسلتك " للروم" لتتعلم هندسة الحياة ، فتعلمت كيف تقتلني بعدم الاستماع إلي شكواي والتصنت لآلامي. أما لمياء فأصبحت غطاء أمها ، ولباسها . فلم أعد أراها إلا إلا قليلا ، كانت تقضي غالب وقت فراغها مع أمها يجلسان أمام التلفاز، وإما تجلس وحدها في غرفتها ،وكنا لا نجتمع إلا لتناول طعام العشاء. في أحد الليالي الباردة ، برودة العلاقة التي باتت تربطني بنعيمة زوجتي ، فاجأتني نعيمة وهي تطالبني بأن أكتب " شقة " من شقق المنزل الثلاث باسمها، أي أن يحصل " فهد " على شقة و " لمياء" على شقة ، وتحتفظ هي بالشقة الثالثة في حالة زواج ابنيها وحتى لا تضيع وترمى للشارع .وقتها صدمت ، وأنا الذي كنت أعتقد بأن المودة والرحمة هي التي من الواجب أن تجمعنا وليس الطوب والحجر . وأنا الذي كنت أنتظر تقديرا منها لكل الجهود التي قدمتها من أجلها ومن أجل أبنائها ، فإذا بها تبحث عن الغنيمة قبل وفاتي .كاننوا يريدون الحصول على نصيبهم من الإرث وأنا على قيد الحياة. لما اشتد غضبي قصدت أمي ، الملجأ الوحيد لي بعد الله ، كي أفتح لها قلبي وأحكي لها ما كنت أكتم عنها على مدى سنوات ، كنت أريد فقط أن أثبت لها بأني رجل ، وأستطيع تسيير أسرتي دون مشاكل. فحكيت لها عما جرى بيني وبين أبنائي وبين زوجتي ، كانت تستمع إلي بتمعن كبير ، وتقاطعني وهي تردد " الخير معندو بو" . لكنها ختمت قولها وهي تؤنبني هذه المرة وتصارحني بأنها كانت تعتقد بأنني كنت أفهم عبارتها المعلومة" كن رجلا..ولا تكن ذكرا" . قالت كنت - ياولدي-أعتقد أنك كنت تفهم "كن رجلا " فاتضح بالملموس أنك لم تكن رجلا وإنما كنت ذكرا : كنت أعتقد أنك ستكون قويا متعلما ، مدركا لمتطلبات الحياة محافظا على حياتك ولا تدفع بها نحو هلاكك ، كنت أعتقد أنك ستكون مقتصدا ، تعرف كيف تسيير أمرك دون تكليف، فكلفت على نفسك يوم اشتريت الشقة دون إخباري ، فقلت لا بأس، وكلفت على نفسك يوم رحلت إلى بن سليمان ، وبنيت منزلا بالاقتراض من هنا وهناك، وكلفت على نفسك يوم أدخلت طفلاك لمدارس خاصة بينما المدارس الحكومية خاوية ، وكلفت على نفسك يوم أرسلت ابنك " فهد" للخارج بينما في البلد إمكانيات و كان يكفيك المزيد من البحث عن فرصة دراسته في بلده. وها أنت تجني ثمرات تهورك ، وهشاشة عاطفتك، وأحلامك الطفولية وأنت رجل. فكنت ذكرا لا رجلا بالنسبة لزوجتك التي أجنبت بذكورتك طفلان هما اليوم تابعان لها ، وأنت حصدت العاصفة التي جاءت بك عندي بعدما يئست منهم جميعا . كنت أقول لك كن رجلا وحافظ على شهامتك، ولا تعر خدك للناس، واستمع للمرأة لكن فكر ألف مرة قبل القدوم على أي عمل قد يفني شبابك. فانظر إلى نفسك اليوم . ألم تسمع قول الله " إن من أزواجكم وأولادكم عدو لكم فاحذروهم" صدق الله العظيم . ألم يكن الصلاح في أن تعيش حياتك ، وتمرح وتفرح كغيرك عوض أن تدفن رأسك في المشاكل، وأنت تتحمل القروض ، ومشاكل الأبناء الزائدة ، فسقطت ضحية سوء تقدير لما نتج بعد قيامك بخطوات غير محسوبة، هدمت كل ما بنيت طيلة سنوات ضيعت فيها نفسك ، فحققت مستقبل أبنائك ، لكن أين حق نفسك عليك؟؟ كنت أستمع إليها ، وأنا أشعر بالذنب الذي اقترفته في حق نفسي ... لقد كانت طموحاتي أكبر من قدراتي ، ماذا عساي أن أفعل اليوم ؟ أأهدم كل ما بنيت مرة واحدة ، فأطلق نعيمة...أم أمنحها شقة لتطمئن بعد خوفها من أن ترمى للشارع بعد موتي ، وهي التي لا تدري من السابق أجله من بيننا ...لقد وقع الفأس في الرأس...وثبت أنني لم أكن الرجل الذي كانت تضمره أمي، وإنما الذكر الذي كانت تبحث عنه زوجتي لتحصل على أبناء ثم تبتعد عني بعد ذلك . زبدة تجربتي أنه لو كانت لي الكرة ما كلفت نفسي قطميرا لبناء مستقبل أطفال وبناء ديار وأنا أتعدى قدراتي وإمكاناتي، .بل أعيش حسب مستواي وقدراتي وألا أغامر مغامرة تخرجني من صنف الرجال وتدخلني صنف الذكور الذين يصلحون لإنجاب الأطفال وخدمتهم فقط ثم يُتَخلى عنهم .وكم هم كثيرون هذا الزمان.