في الوقت الذي تُسارع فيه وزارة الأوقاف إلى إعداد مشروع استراتيجية لتحديث أساليب تسيير مؤسسة الأوقاف، بعد أن وجّه الملك محمد السادس أمرا بهذا الخصوص إلى كل من وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف، تَجْري تلاعبات في أملاك حبْسية في المدينة القديمة بسلا، حوّلت سكان حيّ قديم إلى معاناة. "الفْنادق" داخل أسوار مدينة سلا القديمة، يوجد عدد من التجمّعات السكنية تُسمّى "الفْنادق"، كانت في قديم الزمان عبارة عن فنادق ينزل بها التجار القادمون إلى سلا من مناطق بعيدة، قبل أن تتحوّل هذه "الفنادق" إلى ما يشبه إقامات سكنية تقطنها مئات الأسَر، وتعود ملكيتها إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. "فْندق" الحاج بوبكر الخضارين رقم 45، واحد من هذه "الفنادق"، يكتريه شخص يُدعى "ب.ع" من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بمبلغ لا يتعدى 1900 درهم في الشهر، ويُعيد تأجير غُرفه للأسَر البالغ عددها أزيد من أربعين أسرة، مقابل 15 درهما للغرفة في اليوم. بعملية حسابية، يربح "ب.ع" 18 ألف درهم في الشهر، مُضافا إليها 6000 درهم يجنيها من كراء أربعة دكاكين في "فندق" الحاج بوبكر الخضارين، كانت في السابق عبارة عن غرف، قبل أن يحوّلها إلى دكاكين تجارية، بشكل غير قانوني، يؤجرها ب1500 درهم في الشهر. الوثائق التي اطلعت عليها هسبريس خلال زيارتها إلى "فندق" الحاج بوبكر الخضارين، تكشف جُملة من الخروقات والتلاعبات في أملاك الأحباس؛ أوّلها أنّ العَقد الذي يربط "ب.ع" بالوزارة، عبر نظارة الأحباس بسلا، انتهى منذ مدة، ومع ذلك ما زال السكان يدفعون له سومة الكراء يوميا. وثيقة صادرة عن نظارة الأوقاف بسلا، بتاريخ 18 أبريل 2018، تؤكّد فيها النظارة أنّ الفندق الحبسي الحاج بوبكر الخضارين كان مكريا ل"ب.ع"، وبتاريخ فاتح نونبر 2015 تم إيقاف كراء الفندق، وتوجيه إنذار قضائي إلى المكتري من أجل فسخ العلاقة الكرائية. ورغم أنّ نظارة الأوقاف بسلا أقرّت في وثيقة رسمية بأنّ عقد الكراء الذي كان يربطها ب"ب.ع" تم إيقافه سنة 2015، فإنّ هذا الأخير ما زال يستخلص السومة الكرائية من سكان الفندق، ويتساءل السكان المتضررون من أين يستمدُّ القوة التي تجعله يتصرف في مِلْك عقاري تابع للدولة. وبالنبش أكثر بين الوثائق التي اطلعت عليها هسبريس، تنكشف معطيات أخرى تطرح أكثر من علامة استفهام، فالعقد الذي قالت نظارة الأوقاف بسلا إنها فسختْه سنة 2015، وُقّع لمدّة سنة واحدة، تبتدئ في يناير سنة 2002، وتنتهي في شهر دجنبر من السنة نفسها، لكنّه لم ينته في هذا التاريخ. وبالعودة إلى مدونة الأوقاف، فإنّ المادة 92 منها تنص على أنّ "انتهاء المُدة (مدّة الكراء) من بين الأسباب التي ينقضي بها الكراء"، بينما ينص الفصل 689 من قانون الالتزامات على أنه "إذا أبرم الكراء لمدة محددة، ثم انتهت، وظلّ المكتري واضعا يده على العين، فإنه يتجدّد بنفس الشرط وبنفس المدة". وإذا افترضنا أنّ نظارة الأوقاف بسلا عمِلتْ بقانون الالتزامات، بعدما ظلّ "ب.ع" "واضعا يده على العين"، وبالتالي تجديد الكراء "بنفس الشرط وبنفس المدة"، فإنَّ سكان الفندق الحبسي يتساءلون عن السبب الذي جعل نظارة الأوقاف بسلا لم تُفْسخ عقد الكراء الذي يربطها بالمكري. لم نتمكّن من أخذ رأي نظارة الأوقاف بسلا، بعد أن اتصلنا مرات عدة برقمها الهاتفي، لكنَّ السكان المتضررين يحمّلون النظارة مسؤولية التلاعب الذي يطال الفندق الحبسي، ويقولون إنهم قصدوا مكتب الناظر غير ما مرة، لكنه تعاطى مع شكاواهم ببرودة. وحسب إفادات السكان لهسبريس، فإنَّ الذي أرغم نظارة الأوقاف بسلا على رفع دعوى قضائية لفسخ عقد الكراء هو مجيء قائد جديد إلى القيادة التابعين لها، الذي شدّد إجراءات منحهم الوثائق الإدارية، حيث يُلزمهم بالإدلاء بفواتير الماء والكهرباء أو عقْد الكراء، وهو ما لم يكن مُتاحا بالنسبة لهم، فلجؤوا إلى الاحتجاج أمام النظارة، وهو ما أرغمها على رفع دعوى فسْخ العَقد. في المقابل، يقول عبد الغني عماري، محامي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في تصريح لهسبريس، إنّ استمرار عقد الكراء بين المَكري والمكري له، إلى غاية إعلان نظارة الأوقاف بسلا فسْخه، ليس فيه ما يخالف القانون، على اعتبار أنّ العقد، وكما ينص على ذلك قانون الالتزامات، يتجدد تلقائيا، مشيرا إلى أن القضية بيد القضاء. ومنذ أكتوبر سنة 2015، أوقفت وزارة الأوقاف الوجيبة الكرائية التي كانت تتحصّل عليها من إيجار فندق الخضارين ل"ب.ع"؛ ما يعني أنّ هذه الوجيبة، ومقدارُها 1900 درهم شهريا، تدخل إلى جيب هذا الأخير، لتُضاف إلى الأرباح التي يجنيها من تأجير غرف الفندق الحبسي لسكّانه. خرق القانون وإذا كانت نظارة الأوقاف بسلا عبرت في المقال الافتتاحي المرفوع إلى رئيس المحكمة الابتدائية بسلا أنها لم تعُد راغبة في تجديد عقد الكراء الذي يربطها ب"ب.ع"، فإنَّ سكان فندق الحاج بوبكر الخضارين يتساءلون لماذا لا تراقب نظارة الأوقاف مدى احترام الشخص الذي أكرتْ له الفندق لشروط العقد الذي يربط بينهما. داخل فندق الحاج بوبكر الخضارين توجد عدد من الأسَر مُهدّدة بالإفراغ من الغرف التي تقطنها منذ أزيد من خمسين سنة، بعد أن رفع ضدّها "ب.ع" دعاوى قضائية بهذا الشأن، رغم أنها تدفع له السومة الكرائية بشكل منتظم، بل أكثر من ذلك يطالبها بأداء مبالغ مالية تصل قيمتها في بعض الحالات إلى عشرين ألف درهم، وفق مضمون الدعاوى التي اطلعنا عليها، حيث يقوم بإعادة "إكراء" الغرف بعد الحصول على تسبيق مالي مهم. في رسالة موجهة إلى عامل عمالة سلا، بتاريخ 25/10/2016، يقول السكان المتضررون إن "ب.ع" أقدم على إفراغ أربعة أشخاص من غرف كان يؤجرها لهم، وحوّلها إلى محلات تجارية بشكل غير قانوني. هسبريس عاينت هذه المحلات، فتبين أنها كانت في الأصل غُرفا تمّ تحويلها إلى محلات تجارية، تُؤجّر ب50 درهما في اليوم، أي 1500 درهم في الشهر. يقول عبد المجيد، واحد من سكان فندق بوبكر الخضارين بسلا القديمة، يكتري محلا تجاريا لدى "ب.ع"، "كاين الناس هنا دوزو شهر دْ الحبس باطل، خرّجْهوم "ب.ع" من بيوتهم وحْوّلها للحوانْت تْفتحات بالليل". ما صرح به عبد المجيد، يؤكّده حُكم ابتدائي صادر عن المحكمة الابتدائية بمدينة سلا بتاريخ 21/07/2016، بناء على مُلتمس رفعه رئيس جماعة سلا بتاريخ 04/05/2016، بعد أن أجرت مصلحة التصاميم بالجماعة محضر البناء بدون رخصة، وأحيل المحضر على وكيل الملك بابتدائية سلا. المحكمة الابتدائية بسلا أدانت المتهم بتهمة البناء بدون رخصة، وحكمت عليه بغرامة مالية قدرها 3000 درهم، مع هدم ما قام به من بناء، لكنّ المحلات التجارية التي فتحها المحكوم عليه ما زالت، إلى حدود اليوم، مفتوحة رغم حُكم المحكمة، حسب ما عاينت هسبريس. مآسي إنسانية يعيش سكان فندق الخضارين بسلا القديمة في أوضاع أقل ما يُقال عنها إنها مأساوية. على يمين مَدخل باب الفندق الحبسي توجد ثلاثة مراحيض مشتركة بين جميع سكان الفندق. السكان يضطرون إلى قضاء حاجاتهم الطبيعية في الخلاء، لأنّ المراحيض الثلاثة المشتركة يستحيل الدخول إليها، لكون أرضيتها تعجّ بالفضلات البشرية. سبب تعفن المراحيض الثلاثة هو أن السكان لا يتوفرون على الماء، بعد إقدام "ب.ع" على قطعه عنهم. ثمّة صنبور واحد لكن لا تنزل منه قطرة ماء واحدة. أما الكهرباء فقد تمّ جلبه إلى الغرف من عمود كهرباء مباشرة بدون المرور عبر عدّاد، في خرق تام للقانون. حينَ تلج غُرفَ فندق بوبكر الخضارين، تجد مآسي إنسانية في كل مكان. داخل إحدى الغرف يرقد شابان قيل لنا إنهما يعانيان اختلالا عقليا، ومع ذلك أقدم "صاحب الفندق" على رفع دعوى قضائية ضدهما لإفراغ الغرفة التي يقطنانها، وغيرَ بعيد عن غرفتهما توجد غرفة السعدية؛ سيّدة مُصابة بشلل نصفي رُفعتْ عليها بدورها دعوى الإفراغ. "ما خلصتوش يومين حتى جاتني استدعاء من المحكمة، بغا يخوِّيني"، تقول السعدية، التي تمتهن التسوّل بعد أن يساعدها سكان الفندق على الخروج إلى الشارع، وتضيف، بعد أن خذلتْها الدموع: "ولْدي كيبيع غير الكارو، و"ب.ع" باغي يلوحني للزنقة باش يبيع الحانوت". غير بعيد عن الغرفة الضيقة حيث تقطن السعدية، توجد مأساة إنسانية أخرى تتجلى في حالة المختار. رجُل شبه معاق، يعيش وحيدا، ويتحرك بصعوبة. هو أيضا رفع ضدّه "ب.ع" دعوى بالإفراغ، بداعي أنه لا يدفع له السومة الكرائية، لكنّ المختار يؤكّد أنه يدفع كل ليلة 15 درهما ل"ب.ع". يشرح عبد الرزاق العوني، الذي وكّله سكان فندق الخضارين مهمة الحديث باسمهم، أنّ "ب.ع" لا يمكّن سكان الفندق من وُصولات الكراء، حتى يتسنى له اتهامهم في أي لحظة بأنهم لا يدفعون له السومة الكرائية، ومن ثم رفع دعاوى قضائية ضدهم بالإفراغ وأداء غرامات مالية ثقيلة. ويضيف المتحدث ذاته أنَّ سكان فندق بوبكر الخضارين يعانون الأمرّين، ويطالبون بإيفاد لجنة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للتحقيق في الخروقات التي تشوب المِلْك الحبسيَّ التابع لها، في غياب التفاعل المطلوب لنظارة الأوقاف بسلا مع مطالبهم، وبعدما خاب ظنهم في القضاء، الذي يقولون إنه لا يُنصفهم في الدعاوى التي يرفعها ضدهم "ب.ع". وحذّر عبد الرزاق العوني من أن يؤدّي التماطل في الاستجابة لمطالب سكان فندق بوبكر الخضارين إلى نتائج لا تُحمد عقباها في حال عدم النظر في قضيتهم، مشيرا إلى أنّ سيدة أقدمت على إفراغ مادة حارقة على نفسها وكادت أن تضرم النار في جسدها لولا تدخل السكان، مضيفا: "واش نتسناو حتى توقع شي كارثة هنا عاد باش يتدخلو الناس الكبار؟". ويؤكّد محمد الزعفراني، وهو واحد من السكان المتضررين، أنّ سكان فندق الخضارين بسلا لا يتهربون من أداء ما عليهم من واجبات كرائية، لكنهم يريدون التعامل مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مباشرة، قائلا: "حنا ما كنهربوش من الواجبات الكرائية، ولكن لا يعقل هاد السيد (يقصد "ب.ع") ياخذ 3 ملايين فالشهر والوزارة ما كاتاخد والو، وكيْحكم علينا بالإفراغ والغرامات من الفوق". سكان فندق الخضارين بسلا القديمة يقولون إنّ السبب الذي جعل "ب.ع" يفعل ما يريد، دون أن تردعه أي جهة، هو أنه يملك نفوذا، ولديه شبكة من العلاقات يستغلها لحمايته. موضوع سكان فندق الخضارين بسلا القديمة يحفل بكثير من الغرائب، من ضمنها أنّ "ب.ع" تمّ تسجيله في لائحة الأشخاص المتوقع أن يستفيدوا من مساكنَ في إطار المشروع الكبير الذي أطلقه الملك لإخلاء البيوت الآيلة للسقوط بسلا القديمة، رغم أنّ السكان يقولون إنّه يملك مشاريع كثيرة تدر عليه الملايين، ومنها شركة لسيارات النجدة بسلا، إضافة إلى الأموال الكثيرة التي يجنيها من إكراء فندق بوبكر الخضارين. وحسب لائحة الأسماء التي اطلعت عليها هسبريس، فإنّ "ب.ع" لمْ يُدل في اللائحة الممهورة بخاتم مصالح وزارة الداخلية بأي معطيات عنه، بخلاف باقي السكان، بل إنه لم يُدل حتى برقم بطاقة تعريفه الوطنية! هذا المُعطى فسّره السكان الذين تحدثنا إليهم بكون المعني بالأمر يرغب في التستّر على هويته، لكونه يدرك أنَّ كشفها سيحرمه من الاستفادة من مشروع إعادة إيواء سكان المدينة القديمة، لأنه ليس فقيرا، ولا ينتمي إلى الفئة المعوزة التي يشملها المشروع المَلكي.