ببداية ثمانينات القرن الماضي, وقد كنت حينها يافعا, غير مدرك كثيرا لرهانات ودسائس السياسة, ولا مكترث بتموجاتها الخفية, تحاملت على الراحل الحسن الثاني (ملك المغرب) مجاراته الرئيس/الشهيد صدام حسين المجيد في حربه على إيران, لدرجة جعلتني أحقد على الرجلين في قرارة نفسي, وأضمر لهما الضغينة في أقصى مستوياتها لاستهدافهما, بالفعل المباشر من الثاني, بالتبني والتفويض العلني من الأول, أقول لاستهدافهما ثورة إسلامية المنحى, نجحت بانتفاضة جماهيرية وشعبية كبرى, في الإطاحة بنظام عميل (نظام الشاه) حليف لأمريكا ولإسرائيل, معاد للعرب بالمضمر وبالمعلن, لا بل كاتما بقوة على أنفاس جيرانه بالخليج. لم أتفهم, فيما بعد, موقف الحسن الثاني إلا في كونه اصطفافا حول الأمريكان غير مشروط, هو الذي لم يخجل يوما, ولا أخفى موالاته للولايات المتحدة بالسر المبطن, كما بالمعلن المجهر به, كما بالاستقراء, استقراء دلالات المواقف والسياسات. ولم أتفهم موقف الرئيس/الشهيد, بحربه مع إيران, كما بسلوكه معها بعدما توقف القتال, إلا حينما سقط العراق تحت الاحتلال الأنجلوأمريكي المباشر, وحينما أوصى العراقيين, وهو بالأسر, بضرورة التزام جانب الحيطة والحذر من الفرس كما من الأمريكان. حينها أدركت أن "وقوف" الأخيرين معه طيلة حرب الخليج الأولى, إنما كان من باب تقاطع المصالح الصرف, وأن استقراء ذلك من زاوية العمالة, إنما كان من نطاق المزايدات الخالصة, ومن التحاليل المتجاوزة على الحقائق, الموغلة في لي عنق الوقائع. ليس المقام هنا مقام معاودة الحديث في حرب دارت وانتهت, حتى وإن كانت ترسباتها وتداعياتها لا تزال قائمة, وضاغطة بأكثر من مستوى. وليس المقام هنا مقام محاسبة شخوص, ثووا خلف سياسات ورحلوا, موكلين أمر ما قدموا وأخروا, للمؤرخين الصادقين, الثقاة, الصامتين لحد الساعة, بانتظار نشر الوثائق والمعطيات, وتبين الحقائق بجلاء, ومن مصادرها المثبتة. إننا هنا اليوم إنما نريد الاعتراف, ونروم تثبيت حقيقة, أننا لم نكن على صواب بالمرة بنظرتنا تلك للرئيس/الشهيد, كوننا لم نكن بمستوى إدراك طبيعة البطانة التي صك منها, ولا تمثل الخلفيات الثاوية وراء استعدائه لإيران, ثم معاداة الأمريكان له فيما بعد, ثم حصارهم ومحاصرتهم له, ثم قلب نظام حكمه بالقوة, ثم تشويه صورته, قبلما يدفعوا به للمشنقة, ولكأنه من عتاة قطاع الطرق أو من الخارجين عن القانون, أو من المطلوبة رقابهم, كما بالأفلام والأساطير. كان للرجل مشروعه السياسي والاقتصادي والعلمي الواضح, فبنى المصانع وشيد الطرق والقناطر (وأعاد بناءها بسرعة فائقة بعد كل تدمير عمد إليه الأمريكان, في طلعاتهم التي لم تنقطع منذ العام 1991), وأقام صروحا تكنولوجية كبرى بالجامعات ومراكز البحوث, وشدد على تكوين الأدمغة, بعدما أتى على الأمية والجهل, وحمى كل ذلك بمنظومة عسكرية دفاعية وهجومية جبارة, مؤطرة ومنضبطة, فاحتسب كل ذلك, من لدن الأعداء الكثر, الأغراب وذوي القربى, ضمن ميزان أخطائه, التي تحولت تدريجيا إلى خطايا لا تغتفر. وكان للرجل تطلعه القومي الصريح الواضح, فناهض الامتداد الإيراني بالخليج العربي, ليكلفه ذلك حرب الثمان سنوات, أكلت الأخضر واليابس من الجانبين, وجاهر بضرورة تحرير فلسطين من البحر إلى النهر تيمنا بمواطنه, ابن العراق, صلاح الدين, ورفع مبدأ عدم الاعتراف بإسرائيل لمستوى الخط الأحمر, المحرم تجاوزه, فصنف بجريرة كل ذلك بخانة "الخطر الأكبر الغير قابل للمداواة", ولا للتسويغ من لدن الأمريكان كما من لدن صهاينة العالم سواء بسواء. وكان للرجل, فضلا عن كل ذلك, مرجعيته الإيديولوجية الثابتة, العصية على التعاطي مع أنصاف الحلول, ومعينه الحضاري والرمزي الذي لا ينضب, يستمده من أمبراطوريات عربية وإسلامية توالت على حكم بلاد الرافدين, فتركت خلفها تراثا علميا وأدبيا وفنيا ومعماريا ضخما, جعل من العراق مركز المنطقة وقلبها النابض لآلاف السنين, فكان في كل ذلك مقتله, بنقط القوة كما بمكامن الضعف بأعين الأعداء. لم يكن أعداء الرئيس/الشهيد بغفلة عن كل ذلك, بل كانوا يدركون بقوة ما يعتمل بمخيلة الرجل, ويدركون إلى جانب هذا احتكامه على رؤية نافذة وثاقبة, وعزما لا يلين من لدنه, للاتكاء على ذات الرؤية بجهة بناء عراق, أضحت مقومات التقدم الذاتية (البشرية والعلمية والمالية مجتمعة) متوفرة من بين ظهرانيه, دونما نشدان معونة أو استعطاف دعم. وعلى هذا الأساس, فليس من المبالغة في شيء القول بأن صدام حسين المجيد إنما جعل من العراق معادلة صعبة الحل والمنال ب"الحسنى", على الرغم من حصار جائر, أفلح ولأكثر من عقد من الزمن, في مقتل مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ, دونما أن ينجح في تجويع الشعب, أو تأجيجه على رئيسه, أو النيل من مكابرته. إن الذين اغتالوا الرئيس/الشهيد, صبيحة يوم عيد كرم الله من خلاله بني البشر أجمعين, لم يغتالوا الرجل, بقدر ما تغيأوا اغتيال المشروع والفكرة والرؤية, بعدما تعذرت عليهم سبل المساومة, وضاقت بهم طرق الابتزاز, ولم يفلحوا في ترويض الرجل, أو ثنيه عما هو مقبل عليه بثبات, أو تطويعه للارتهان, مقابل بقائه بسدة السلطة حيا يحكم. وبقدر ما لم يفلحوا في ذلك والرجل بجلده المتميز بأعلى هرم السلطة, هناك بالعراق, فإنهم لم يفلحوا في تدمير معنوياته, ولا في استصدار معلومات من لدنه, ولا في دفعه للقبول بإسرائيل, ولا في إقناعه بمخاطبة المقاومة لرفع يدها عن الجنود الأمريكان, مقابل حياته وحياة ولديه وأركان نظامه (كيف له ذلك, وهو الذي رتب للمقاومة, ووزع ملايين قطع السلاح, قبلما يقدم الأمريكان؟)...حتى إذا بلغ بهم "السيل الزبى" (بالأمريكان أقصد) سلموه لعملاء, لو لم يثنهم القرآن جهارة, لكانوا من عبدة الدم بامتياز...تماما كالشعوب البدائية الأولى, التي تأكل لحوم البشر وتسكب دماءها, بهجة وسعادة. إن الذي يتمعن مليا في شريط فيديو الاغتيال, أواخر دجنبر من العام 2007, يدرك جيدا وبالصورة والصوت, أن الرجل لا يستاهل التقدير فحسب (دعك من طقوس الترحم البديهية في الإسلام), أو يستحق الحب, كل الحب فحسب, بل ويستحق أيضا أن نقف إجلالا لروح شهيد, وإكبارا لموفق نادر الحدوث في زمن الردة والخنوع: + فالرجل استطاع أن يتغلب على جسده بقدرة قل نظيرها بالتاريخ, اللهم إلا إذا استثنينا الشهيد عمر المختار, حتى إذا التف جلادوه من حوله, أومأ لهم بعدم وضع غطاء على رأسه (هم الذين لم يتجرأوا على إلباسه ثياب الإعدام الحمراء) فرضخوا صاغرين, ثم ترجل بعقده السابع, وهو المقيد اليدين والرجلين, بجهة المنصة, غير مكترث بجمهرة من الرعاع, كانوا من ذي قبل يقشعرون هلعا لمجرد سماع إسمه, ويختبئون كالفئران بجحور أسيادهم الأجانب, فإذا بهم يحضرون مأتمه, دونما أن يستطيعوا الإفصاح عن وجوههم. لم يظهر منهم أحد بالشريط, حتى أدوات التنفيذ ظهرت ملثمة, فيما هو يتوسطهم شامخا ولكأن لسان حاله يقول: عشت شامخا, وأنا اليوم شامخا, ولن يزدني لف الحبل من حول رقبتي إلا شموخا في شموخ. وكذلك كان حقيقة, ولم يخيل إلينا ذلك على الإطلاق. + والرجل, وهو يستعد للقاء ربه, لم يرد على هتافات الغوغاء الطائفيين من حوله, ردا قد تستشف منه رائحة الطائفية التي مقتها وحذر منها, بل عيرهم بانتفاء المرجلة من بين ظهرانيهم, ونبههم, هم المتعطشون لرقبته, بأن الحيلة (حيلة الأمريكان) لم تنطل عليه, بقدر ما انطلت عليهم, فلم يدركوا (شأن الجهلة والدهماء, المعمية البصر والبصيرة) بأن في طبيعة الهتاف, هتافهم بشخص نكرة من بينهم, نذر فتنة أهلية مقصودة, دفع بهم خصيصا لتأجيج نارها المستعرة. كان الرئيس/الشهيد عربي العرق, سني المذهب, إبن عشيرة أصيل ومتأصل, لكنه لم يكن عنصريا, ولا متعصبا لطائفته, ولا حمال فكر عشائري ضيق, بدليل أن معظم أركان نظامه لم يكونوا إلا في أقلية منهم, عربا أو سنة أو أبناء عشائر كبرى. كانوا بمعظمهم أكرادا وشيعة وسنة ومن شتى عشائر العراق, كلهم كانوا, بتباينهم العرقي والمذهبي والطائفي والديني, محكومين بناظم وطني صرف, انصهر ببوتقة لا يستطيع الخلل أن يتسرب إليها, أو يأتيها العطب من أمامها ولا من خلفها. + والرجل نطق الشهادتين كاملتين دونما أن تنبعث من صوته, وهو بموقف جلل, نبرة رعشة أو ذرة خوف, بل كانت الابتسامة تعلو محياه, بهيا, نقيا كعادته, ولكأنه بمنصة خطابة أو من على منبر, لدرجة بدا لنا معها أنه كان "سيد الخشبة" بامتياز, فيما كان المحيطون به, بضوضاء عامة قبل الاغتيال, أو محملقين حول جثمانه, غير مصدقين السر في تلازم الابتسامة, بعينين مفتوحتين, لا هما جاحظتان ولا هما فارهتان...لم يرتعد ولم يرتجف, بل تحدى الموت, سخر منها بعنفوان, حتى وإن كان يدرك أنها الحق. ولما لم يكن هؤلاء بقادرين على النيل من الشهيد البطل في حياته, فإنه خيل إليهم أن التنكيل بجسده, أو الرقص من حوله (شأن الجهلة والبدائيين) هو نيل منه, هو الذي تبرأ من جسده, وولج من حينه عوالم أخرى, لم يدركها جلادوه, وتصوروا أن الشخص لا يزال رهينة جسد فان...هكذا خيل إليهم, أو أوحى لهم بذلك الشيطان. لست من عبدة الأشخاص, ولم يكن لدي يوما استعدادا ما لتقديسهم, أو السمو بمكانتهم إلى مقامات عليا, تتجاوز البشر. ولم أكن يوما بجانب من رفع الأشخاص لدرجة العصمة والتأليه. ولن أذهب, بحال الرئيس/الشهيد مذهب المبجل, وليس لأحد أن يزايد علي تحصلي كوبونات نفط من لدنه, أو هدايا خاصة من حاشيته, أو تكريما على اجتهاد مني, لخدمته أو الترويج لنظام حكمه. لكني مستعد لأن أجزم, على الأقل بالتأمل في شريط الاستشهاد, بأن الرجل لم يكن عاديا بالمرة, ولا كان بالمطلق من طينة العشرات من الحكام العرب, بعضهم تآمر على الشهيد بالفعل, وبعضهم تآمر عليه بالقول, فيما أوحى آخرون للأمريكان بالتسريع في الاغتيال, مخافة انكشاف المستور وانفضاحه. ولما بات الرجل بين يدي ربه يقتص منه وفق ما قدمت يداه وما أخرت, فإني أزعم أنه يكفي الرئيس/الشهيد فخرا أنه ثوى خلف تفجير المقاومة, في نفس اليوم الذي وقع فيه الاحتلال. بهذه النقطة, فإن مقتل أي جندي محتل أو تابع للحكومة العميلة, سينزل على روحه رحمة ومغفرة وسلوانا. رحم الله صدام حسين المجيد في ذكرى استشهاده الأولى, وهو بقبره مطمئنا, راضيا مرضيا. باحث وأكاديمي من المغرب ""