الكل يبحث عن السعادة. لكن ما هي السعادة؟ وأين نبحث عنها؟ إذا تأملنا حياة الناس فإننا نجد البعض منهم يصرح بأنه سعيد، والبعض الآخر يعلن أنه يشعر بالتعاسة، كما نجد من يحس بأنه سعيد الآن وينتابه إحساس بالشقاء في لحظة أخرى. ولعل هذا يدل على أن السعادة والشقاء نسبيين، وتختلف درجتهما من شخص إلى آخر، بل وتختلف هذه الدرجة لدى الشخص نفسه من لحظة زمنية إلى أخرى. ونحن نجد أن شخصا جاهلا قد يحس بالسعادة أكثر من العالم، وربما دل هذا على أن السعادة لا ترتبط بالضرورة بالعقل والعلم. كما نجد شخصا منغمسا في الشهوات واللذات الحسية (المخدرات، الخمر، الأكل، الجنس...) ومع ذلك لا يحس بالسعادة. وهذا يجعلنا نميز بين السعادة واللذة؛ إذ هناك ولا شك فرق بينهما. كما يمكن أن نميز بين السعادة والفرح؛ إذ تجد شخصا يحس بالفرح وهو يرقص أو يشاهد مباراة في كرة القدم، لكنه ما إن ينتهي من هذه الحالة حتى يحس بالتعاسة والشقاء. وهذا يعني أن الفرح يتسم بطابعه الحركي والمؤقت. ومن هنا رأى البعض أن السعادة هي حالة ارتياح دائم وتام للذات، يتميز عن الفرح لحركيته وعن اللذة للحظيتها. ولذلك يفترض أن السعادة هي حالة يشعر فيها الكائن البشري بالارتياح الكامل والدائم في الوقت نفسه، وهذا ما لا يتوفر في الفرح أو اللذة الحسية مثلا؛ لأن الأول يرتبط بحركات انفعالية وغريزية وجسدية، بينما تظل اللذة عابرة ومؤقتة. فكم من إنسان يبدو لنا سعيدا وهو يرقص في حفل أو يتجرع كؤوس خمر أو منغمس في الاستمتاع بأكلة شهية، لكن ما نلبث أن نجد حاله قد انقلب في وقت وجيز من حال الفرح واللذة و"السعادة"، إلى حال الحزن والألم والشقاء. بل إننا نجد الفرد منهمكا في اللذة ومع ذلك يشعر بالتوتر والحزن والشقاء. ونجد أن هناك من يبحث عن السعادة في الموسيقى أو في ممارسة العبادات أو في السفر والترحال، وهناك من يراها في الصحة أو يراها في العلم والمطالعة وممارسة التفكير العقلي وغير ذلك. ومن هنا نجد الناس يسلكون سبلا متنوعة لمحاولة الظفر بالسعادة؛ إذ تعتبر هذه الأخيرة كما يرى الفارابي هي الغاية التي يتشوق إليها كل إنسان، وهي أعظم الخيرات جميعا، كما أنها غاية مطلوبة لذاتها؛ إذ هي نهاية الكمال الإنساني، وأقصى ما يسعى كل امرئ من أجل بلوغه. ولذلك يحق لنا التساؤل: أين تتمثل السعادة بالضبط؟ هل يمكن وصفها بدقة؟ وهل لها مدلول واحد؟ وإذا كانت السعادة هي الغاية القصوى التي يبحث عنها كل إنسان، فهل يعني ذلك أننا نعرف بالضبط ما هي السعادة؟ وهل يمكن للعقل انطلاقا من اللغة أن يعبر لنا بدقة عن مفهوم السعادة؟ ثم ألا يمكن القول بأن لكل واحد منا تمثله أو تصوره الخاص للسعادة؟ ألا يجعلنا هذا نذهب إلى أن هناك مدلولات، وأيضا معايير، مختلفة للسعادة؟ لعل التأمل في الحياة اليومية للناس يبين أن كل واحد منهم يبحث عن السعادة في اتجاه ما، ويرى أن قيامه بهذا العمل أو ذاك، أو ممارسته لهذه الهواية أو تلك تجعله سعيدا. وهذا قد يجعلنا نعبر عن السعادة بمدلولات ومعاني مختلفة، كما يجعلنا لا ندرك السعادة إلا من خلال الفعل والممارسة؛ فأنا لا أكون سعيدا إلا حينما أعزف على القيثارة إذا ما كنت من هواة العزف على هذه الآلة الموسيقية، كما قد لا أكون سعيدا إلا حينما أكون منغمسا في ممارسة لعبة كرة القدم مثلا، أو منهمكا في قراءة رواية أو كتاب إذا كنت من محبي القراءة وعشاق الكتاب، ويمكن قول الشيء نفسه بالنسبة للغارق في بحر المخدرات وشرب الخمور، أو المزاول لمهنة من المهن، أو من يمارس الطقوس والشعائر الدينية تقربا إلى الله، أو غير ذلك من الأعمال والأفعال المتعددة التي يزاولها الناس بشكل دائم في حياتهم اليومية والمعيشية. وقد تبدو بعض هذه الممارسات والأعمال متناقضة ومتعارضة في ما بينها. ولكن مهما يكن من تناقض وتعارض بينها، فإن هذا يدل من جهة على أن السعادة تتمثل للناس في أشياء وممارسات مختلفة ومتباينة، كما يدل من جهة أخرى على ارتباط السعادة بالأفعال والتجارب المختلفة للناس؛ إذ لا يمكن أن نكون سعداء بشكل نظري وقبل القيام بأي فعل معين؛ فالممارسة الفعلية هي التي تجعلنا سعداء أو تعساء. وهذا يعني أنه من الصعب تعريف السعادة بشكل نظري أو إعطاؤها مدلولا لغويا محددا. وفي هذا السياق يمكن القول مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط بأن السعادة مثل أعلى للخيال وليس للعقل؛ ذلك أنه يتعذر على العقل بمقولاته وأطره المجردة والقبلية أن يقبض على السعادة ويقدم لها صياغة نظرية واحدة ونهائية، بل تظل السعادة موضوع تخيلات مختلفة من طرف الأفراد؛ إذ كل واحد منهم يتوهمها ويتخيلها في القيام بهذا الفعل أو ذاك. وبالرغم من أن كل واحد من الناس يرغب في أن يكون سعيدا ويبذل كل ما في وسعه من أجل بلوغ السعادة، إلا أنه مع ذلك يصعب عليه تقديم تصور عقلي محدد لما من شأنه أن يجعله سعيدا. وهذا ما جعل كانط يرى أنه من الصعب إعطاء أي مدلول عقلي دقيق لمفهوم السعادة، وجعله يربطها بالتجارب العملية للبشر. وحيث إن تجارب الناس مختلفة ومتنوعة، فإنه يتعذر أن نقول إن السعادة تكمن في القيام بهذه التجربة أو تلك؛ فلا الملذات ولا الثراء ولا كثرة المعارف ولا الصحة ولا العمر الطويل ... بإمكانها أن تحدد لنا ما تكونه السعادة!! ولذلك تظل السعادة حسب كانط غامضة وغير قابلة للتحديد النهائي؛ إذ لا يمكن اعتبارها مفهوما عقليا قابلا للصياغة الواضحة والدقيقة، بل إنها تظل تصورا خياليا ينبني على أسس تجريبية وحسية لا متناهية، تختلف لدى الأفراد حسب مختلف الحالات التي يمرون بها. لكن هل يعني أن كل الأفعال والممارسات التي يقوم بها الناس تؤدي إلى السعادة؟ ألا يمكن القول بأن هناك أفعالا حسنة وأخرى سيئة، أفعالا نافعة وأخرى مضرة؟ أليس الفعل السيئ يلحق الضرر بصاحبه وبالغير وبالمجتمع؟ وهل يمكن لفعل سيء وضار أن يجلب لصاحبه السعادة وراحة البال؟ وفي المقابل، أليس الفعل الخير والحسن والنافع هو الذي يجلب للفرد وللمجتمع السعادة؟ هنا نجد أنفسنا بصدد علاقة السعادة بالأخلاق؛ إذ يبدو أن السعادة تكمن في القيام بأفعال مطابقة للمثل والقواعد الأخلاقية، وكل سلوك مناف للأوامر الأخلاقية من شأنه أن يجعل صاحبه شقيا، حتى ولو توهم أن ذلك السلوك يحقق له السعادة والبهجة والسرور. ومن هنا فقد نجد بعض الأشخاص يتعاطون للمخدرات أو يمارسون بعض أعمال السرقة والإجرام، وبالفعل قد يحسون في غمار قيامهم بتلك الأفعال وما شابهها بالنشوة والحبور والسرور، لكن لا يمكن لهذه النشوة وذلك السرور أن يكونا مطابقين لما ننعته بالسعادة، لأنهما يظلان مؤقتين وغالبا ما يعقبهما الضرر والألم والندم. فالذي يتعاطى للمخدرات يحس بالألم بمجرد فقدانه لها أو عدم تمكنه من التعاطي لها، كما أن هذا التعاطي يلحق بالجسد أمراضا وأضرارا ستشكل مصدر تعاسة وشقاء بالنسبة لصاحبها. كما أنه غالبا ما يجد السارق أو المجرم نفسه في غياهب السجن، أو يعيش محتقرا ومنبوذا من طرف الناس، وهذا ما من شأنه ولا شك أن يجعله يحس بالشقاء وعدم الاطمئنان النفسي والروحي. وانطلاقا من هذين المثالين، وما شابههما، يمكننا أن نخلص إلى أنه من الصعب تصور سعادة حقيقية خارج إطار الأفعال المطابقة للواجبات الأخلاقية. ولعل هذا يبين العلاقة الوطيدة القائمة بين السعادة والأخلاق؛ إذ من شأن امتثال الفرد للأوامر الأخلاقية، وقيامه بكل ما هو حسن ونافع، أن يكسبه احترام وتقدير الآخرين، ويجعله يحس بقيمة وأهمية ما يقوم به من أفعال نافعة له ولغيره من الناس. وهذا الإحساس هو الذي من شأنه أن يمثل مصدر سعادة وطمأنينة بالنسبة للشخص. وقد رأى الفيلسوف المسلم أبو نصر الفارابي أنه يسهل على الناس فعل ما هو قبيح، نظرا لما يجلبه لهم من لذة حسية، بينما يجدون صعوبة في فعل ما هو جميل وخير لأنهم لا يجدون فيه اللذة نفسها التي يجدونها في القبيح والشرير. ولذلك يعتقد الكثير من الناس أن السعادة تكمن في اللذة الحسية، وهو ما يرفضه الفارابي، ويجعله يعتبر أن اللذات الحسية غالبا ما تشكل عائقا يحول بين الإنسان وبين بلوغه السعادة، بينما اللذات المرتبطة بالمعرفة والعلم وممارسة السلطة السياسية هي التي من شأنها أن تجعل الإنسان سعيدا أو على الأقل مقاربا للأخلاق المحمودة. وهذا يعني أن العقل والأخلاق هما السبيلان الوحيدان لبلوغ السعادة. وإذا كان الفارابي قد حدد السعادة في الجانب العقلي، فلأن العقل هو أشرف ما يوجد لدى الإنسان وما يميزه عن سائر الحيوانات. ولهذا لا يمكنه أن يبحث عن السعادة إلا في الجانب العقلي الأشرف لديه، وليس في الجوانب الجسدية التي تمثل الجانب الحيواني لديه، والتي يشترك فيها مع باقي الحيوانات. وقد اعتبر الفيلسوف الروماني القديم سينيكا أن السعادة تكمن في جعل العقل السليم يدبر كل أمور وجودنا وشؤون حياتنا، وهو يرى أن السعي وراء الشهوات واللذات المادية يجعل الإنسان تعيسا ومحروما من السعادة، لأن هذه الأخيرة تكمن في حسن استعمال العقل وإدراك الحقيقة، سواء حقيقة الذات أو الحياة أو العالم. ولن ينال الإنسان السعادة حسب سينيكا إلا بالاستقامة الأخلاقية، وبالقناعة والرضا بما هو حاضر، وعدم المبالغة في التفكير في المستقبل، لأن هذا النوع من التفكير يجلب له التعاسة والشقاء. وهكذا يعلي سينيكا من شأن العقل الأخلاقي كخاصية تميز الإنسان عن سائر الحيوانات، وتمكنه من السيطرة على دوافعه الغريزية، وهذا ما من شأنه أن يجعله يحس بالسعادة الحقيقية. كما يدعو إلى الرضا والقناعة وعدم الجري المحموم وراء الشهوات الحسية، لأن هذا يجعله تائها ويجلب له الضجر والدمار، مما يحتم ضرورة تدخل العقل من أجل عقلنة الغرائز وتوجيهها توجيها صحيحا، وبشكل يجعلها لا تمس سلبا بسعادة الإنسان وصفائه الروحي. وإذا كانت التغذية والنمو والغرائز هي مما يشترك فيه الإنسان مع النبات والحيوان، فإنه وجب حسب الفارابي البحث عن السعادة في الجانب الذي يخص الإنسان وحده المتمثل في العقل والفكر. وبذلك فالسعادة تكمن في ما هو حق وخير وجميل، أي في الفضائل الأخلاقية الكاملة. وإذا كانت السعادة ترتبط بالأخلاق وبالعقل الأخلاقي، فإنه لا معنى ولا قيمة للأفكار والقيم والمبادئ العقلية الأخلاقية إذا لم تترجم إلى سلوك فعلي ملموس ونافع. وهذا ما يتطلب العمل والجهد من أجل القيام بأفعال أخلاقية حسنة ومفيدة. ولذلك يعتبر الفيلسوف اليوناني أرسطو أن السعادة ليست ملكة فطرية متاحة للجميع، بل هي فعل يتطلب الجهد والمثابرة، فضلا عن ارتباطها بالفضيلة وبالأفعال المطابقة للمبادئ الأخلاقية العليا. ولذلك لا يمكن في نظره أن تتمثل السعادة في اللهو، بل إننا ننالها عن طريق الكد والجهد والمثابرة. ومن هنا يرفض أرسطو التمثلات الشائعة حول السعادة، التي تجعلها تتحدد إما في الثروة المادية أو في ما هو بهيمي وغريزي، أو تحددها في التهافت على المجد والشهرة والتشريفات... ويرى على العكس من ذلك أنها تتمثل في حياة التأمل الفكري والعقلي، الذي من شأنه أن يجعل صاحبه يدرك الفضيلة بشكل نظري ويجسدها على المستوى العملي. وبالرغم من تأكيد العديد من الفلاسفة على ارتباط السعادة بالعقل، فإن هذا لا يعني أنها لا ترتبط بما هو حسي، لأن تلبية الشهوات الحسية للإنسان هو أمر ضروري للإحساس بالسعادة، لكن ينبغي طبعا تلبيتها بشكل معقلن وأخلاقي. ولهذا لا يمكن أن نعتبر اللذات الحسية عائقا أمام بلوغ السعادة، لأن تلبيتها في حدود معقولة يساهم أيضا في تحقيق السعادة للإنسان، مادام أن هذا الأخير كائن مزدوج الوجود يعيش بالعقل والحس معا؛ فهو جسم وروح، غريزة وعقل، ولذلك فسعادته لا تكون ممكنة إلا بأخذ هذين المكونين معا بعين الاعتبار أثناء البحث عن السعادة، شرط أن يتم ذلك في إطار من التوازن والمعقولية الأخلاقية.