كان سقراط يتهكم من إلهة الحب عند اليونان أفروديت، لأنها ارتكبت خطأ قاتلا حين ربطت الحب باللذة، وبخاصة وأن اللذة لا تتحقق إلا بين الأضداد التي تنفي بعضها: الارتواء يلغي العطش، الشبع ينفي الجوع، الغنى ينفي الفقر، الصحة تلغي المرض. هكذا جعلت أفروديت من الحب لذة حسية تنفجر كلما حققت كمالها، يتحكم فيها قدر حزين، لا يطمئن إلى الخلود، بل يتشوق للرحيل كطائر مهاجر، أنهكته شباك الأعداء. ولم تتركه ينعم بالسعادة ولو في رحلة واحدة. وفي الحقيقة أن سقراط كان يتهرب من اللذة، باعتبارها مصدرا للاضطهاد وعدم الاطمئنان والسكينة، ومحركا للقلق والألم، مما يجعل هذا الكائن المغترب في الأرض مكتئبا وحزينا في أغلب لحظات وجوده، وسعيدا مبتهجا في تلك اللحظات النادرة، كما هو الحال مع أيام الأعياد التي ما تلبث تبدأ حتى تنتهي: فما قيمة هذه اللحظات الممتعة بالقياس إلى الشقاء الذي ينتظرها؟، ولماذا أن الإنسان يبدع أحزانه عندما يكتشف اللذة وضدها في نفس الآن؟، وما الذي يعجل بانهيار الحب وينقله من أرض السعادة إلى أرض الشقاء؟، وما هو سر هذه المتعة الشرسة؟. يخاطب الفيلسوف محاوره قائلا: "كنت دائما أحب الابتعاد عن ذكر أسماء الآلهة، يابروتارك، إذ أشعر بخوف إنساني يفوق كل خوف، ولكن الآن، سأسمي أفروديت بالاسم الذي اشتهرت به. أما فيما يخص اللذة فإنني أعرف أنها متعددة لا تنحصر في صنف واحد، ولذلك ينبغي أن نتعرف على ماهيتها. وبإمكاننا أن نقول أن الإنسان هو تجليات للذة، ولكنه متقلب في مزاجه، عبارة عن كتلة غامضة من خلال آرائه وآماله الحمقاء التي تضع نفسها رهن إشارة اللذة. أما الحكيم فإنه يهب نفسه للفضيلة، ويعتبر اللذة مجرد متسول متسكع يلوث صفاء الروح". فكيف أصبحت اللذة هي ماهية الحب؟، وكيف أضحى الحب ماهية السعادة؟، بل أكثر من هذا، ما ماهية اللذة نفسها؟. إذا كانت أفروديت امرأة جميلة وجذابة تتربع على عرش مملكة الحب، فإن هذه المملكة مهددة بالانهيار، وبالتدمير العظيم الذي تحدثه اللذة، لأنها استطاعت بمكرها أن تجعل الحب يستسلم لمتعتها بدون أن يميزها عن اللذة الحزينة التي تنتظر العشاق في أرصفة بلا مستقبلين ولا ورود يواجهون شراسة قدرهم، يحاورون أنفسهم، مادام أنهم لن يجدوا من يسمعهم، أو من يدفئهم، ذلك أن الحب تحول إلى كراهية، والخير إلى شر. لأن ترياق الحب هو اللذة التي لا تستمر في الوجود إلا من خلال البحث عن لذة مضاد لها تعجل بذوبانها في العدم، فالإنسان كلما ابتعد عن اللذة، ابتعد عن الألم وقل فساده، بيد أنه لا قيمة للوجود في غياب الحب الذي يتجه نحو الذوبان في اللذة، كما تذوب فراشة الليل في لهيب النار. هكذا يصبح الحب السعيد والحقيقي ينعم بنعمة الموت، أو الفناء في الآخر، ذلك أن الذي يحب وحده يموت، لأن الحب نعمة للفانين، من أجل نسيان تراجيدية الموت. فما هو يا ترى مصير هذا القلق الدائم الذي اختارته اللذة لمن يعشقها؟، وما هي هذه اللذات المضادة لذاتها؟، بل كيف أصبحت اللذة تتلاعب بسيرورة الحب؟ وما الذي جعل روح أفروديت تنتشر في كل أرواح النساء؟، اللذة والنساء من هما، ومن أين جاءا؟. من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة التي سقطت ضحية عشقها للذة، لابد من عقد معاهده سلم مع النفس الإنسانية لتقبل الحقيقة، لأن الحقيقة امرأة تقتل عشاقها بترياق الزمان، كما أنها تقتل نفسها عندما تتعرف على اللذة كمصدر لقوتها. ومن الحكمة أن نعترف أنه من طبيعة النفس أن تعشق الخطأ، ويتسلل الجهل والكسل إلى كينونتها، وتتحول إلى نفس عديمة الأهمية تنعم في الشقاء أكثر ما تنعم في السعادة، حيث تفقد ملكة التمييز بين الحب والكراهية، بين المبتهج والمحزن، ولذلك فإن النفوس الحزينة تقوم بتعميم حزنها. وتحول الوجود إلى مصنع للذة الحسية، يتم استهلاكه مع منتوجاته، بضاعة تستهلك نفسها. هكذا فقد العشاق في زمننا هذا حاسة النظر، باعتبارها تغذية للروح، ولذلك فإن الذين لا أرواح لهم لا يحتاجون إلى هذه التغذية، كما أنهم في غنى عن حاسة النظر، باعتبارها منبعا للفرح والسرور، لأنه لا قيمة للحياة في غياب الرؤية، ولا معنى للحب حين ينعدم النظر. هكذا تتحرك ملكة النظر نحو الحفاظ على الحب، وجعله يعيش عمرا أطول، كلما كان العشاق يفرحون بكينونتهم. فما أعظم هذا الفرح بالكينونة، لأنه الرأسمال الرمزي الوحيد للعشق الذي يمتع الروح من خلال ملكة البصر، على الرغم من أنه ينبت في أرض العتاب والشكوى: "ومشاجرة هؤلاء، يكتب أرسطو، ليست شكاية ولا قتالا... بل إن كان سارا فإنه ينتقم منه بحسن الفعل، ولا يكون هذا كثيرا لمكان اللذة". وفي الحقيقة أن الانتقام بحسن الفعل والشكاية واللوم كلها مقولات تدور في فلك الحب الطاهر، وليس حب العوام الذي ينتهي بانتهاء اللذة والمنفعة، لأن كل واحد منهم يفرح برداءة الآخر، وقد حرموا من الفرح بالكينونة: "وأما في المنفعة واللذة فإنهم يثبتون كثيرا مادام يكتسبون اللذات والمنافع بعضهم لبعض". ومن الظلم أن يجمع العشق بين الأجود والأردأ، ويكونان ملتذين لمكان المنفعة، بيد أن هذا العشق عبارة عن بناية مهددة بالسقوط. لأن العشق يجرد الإنسان من ملكة العقل، باعتباره تخديرا للإدراك، لكن أفما آن الأوان للنفس التي ولدت في أحضان نغم الوجود وحميمية الأشياء أن تهرب من هذا القدر الحزين؟، وكيف يمكن للذة الحسية أن تحول الحب إلى حداد يقتات من تراجيدية الوجود التي تؤسس فرحها على التضاد؟، الذي يجمع العشاق؟. ليس بإمكاننا أن نجيب عن هذه الأسئلة المتألمة في الاغتراب، إلا عندما نختار تلك الإقامة الشعرية في مملكة الحقيقة تحت سقف الفلسفة نتمتع بنداء الوجود الذي ينادينا، ونهب أنفسنا للعقل باعتباره مقياسا للعشق، واستغلال أسمى الخيرات فيه، ذلك أن الحياة السعيدة لا تكمن فقط في اللذة، بل في التعقل. لأن اللذة خير إلى أن ينتهي الخير وكل ما ليس بخير فهو شر. هكذا يتم توجيه الحب من الخير إلى الشر. ويصبح الإنسان الخير ضحية الإنسان الشرير. ويتم حرمانه من السفر إلى جزر السعداء. فما هو دور المرأة في هذه اللعبة الماكرة بين الخير والشر؟، وبعبارة أوضح هل المرأة مصدر خير، أم منبعا للشر؟، بل هل ورثت تحريض حواء لآدم من أجل الأكل من شجرة التفاح وينزل من الجنة إلى الأرض؟، هل ستظل هذه اللعنة تلاحق الرجل مدى الحياة؟.