روح الوطن قوة حائرة عمياء بالحب، ثم أدركت نفسها في عقل الإنسان المحب ووجدانه فوجد نفسه حائرا وفي نفسه ظمأ في صحراء لاماء فيها غير وهج السراب. هذا هو الإنسان الإنساني الذي بدأ يندثر مع مرور الأيام، وانهيار الإرادة الحرة، وانتشار نفايات البشر شعارهم الشر الأعظم من أجل الانتشاء بلذات عابرة على حساب الأصفياء، فهذه القوة الهوجاء موجودة لإنسان لم يعط له إلا الخيال لإقامة أشباح تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه، فبدأ ينظر إلى الوطن كخراب تلتهمه النيران فما عليه إلا تهريب وسائل متعته، فهل حقيقة الوطن كامنة وراء الخير والشر كما يدعي هؤلاء؟، أم أن الحقيقة التي نريدها هي الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركتها؟. وكيف يمكن أن نربي الناس على حب الوطن؟ وما هي حقيقة هذا الوطن؟. يهتف «ناتان الحكيم»، في مسرحية لسنج: الحقيقة.. الحقيقة؟ إنه يريدها هكذا? جاهزة كما لو كانت عملة. نعم حتى لو كانت عملة عتيقة فلابد أن يمعن فيها المرء النظر فهي لا تزال متداولة. أينبغي علينا أن نحفظ الحقيقة في أذهاننا كما نضع النقود في الحافظة الواقع أن الزائف هو سلب لجوهر الإنسان الذي هو الحقيقة من حيث هي مضمون المعرفة، والتي لا تتجلى في روح الإنسان إلا عبر علم تجربة الوعي، ولذلك أن الوعي المنهار يحول الإنسان إلى تمثال، لأنه فقد هويته الناتجة عن الحقيقة ويشبه هيجل صراع هذا الوعي بالحقيقة بمظهر امتزاج الماء والزيت اللذان لا يختلطان إلا من الخارج لكنهما لا يمتزجان. هكذا يُحرم هذا الوعي من ابتهاجه بالحقيقة، لأنه وهب روحه للسيد الذي أصبح يحركه كعرائس القصب. لأن عقل الإنسان ينمو في عنصر الوعي باعتباره مصدرا لحب الوطن ولذلك يستحق الإنسان لقب المواطن, لكن ما قيمة الكتابة عن الحقيقة والوطن إذا كانت عند الوعي البائس مجرد عملة نقدية توضع في حافظة النقود يتصرف فيها بغية جلب اللذات الحسية؟، وبعبارة أخرى، ما الذي نريده من هذه الثورة النقدية؟، هل نسعى إلى إعادة الحقيقة من خلال إيقاظ الوعي الذاتي من سباته الدوغمائي؟. هل ننقب عن إنسانية الإنسان في محبته للوطن؟، ألا يكون هذا النداء قد فات أوانه، لأنه يتوجه إلى بشر أصابهم داء الصمم؟. لعل هذا الزمن المريض حول الحديث عن الفكر والمعرفة إلى حديث مضلل وسخيف، مادام أن الوعي المنتشر عند الحس المشترك يعتقد بأن الحقيقة ولدت كاملة في الماضي، وأصبحت تورث كالميراث، فلا داعي للبحث عنها، إنها جاهزة ويكفي أن ينطق بها الزعيم ولذلك يتعين علينا أن نعترف بفشل البحث عن الحقيقة في هذه الصحراء، كما ينبغي إلغاء استخدام حدي الحق والزائف، لأن ذات الأفراد قد حققت كمالها في ذات الزعيم المطلق الذي يملك الحقيقة بدون معرفة، يضعفها في جيبه مثل العملة، يعبر عنها في صيغ حفظها عن ظهر قلب تم استظهارها عند اللزوم فهو لا يحتاج إلى البراهين الرياضية والأنطولوجية. لأنه يمتلك سحر البراهين التيولوجية لأن كل شيء زائف إلا ما يقوله هو: أنا الحقيقة، أنا المطلق. لابد من الاعتراف أن مضمون هذا الخطاب الإقناعي ينبني على مقدمات سوفسطائية تؤدي إلى هدم المقدمات البرهانية، لأن غرضها يكون دائما هو التمويه على الحقيقة العلمية مادام أن غايتها هي الانتصار لمذهب ما، يريد السلطة المطلقة والحكم على المواطنين بالركوع بواسطة العنف المادي والرمزي. والوسيلة المستخدمة تكون دائما هي تحريض العوام على الخواص، لأن مثل هذا المذهب يجد أتباعه في الباعة والصناع والأرواح المحطمة، لأن السيطرة تكون إما بالإقناع، وإما بالفكر, فالاعتماد على الإقناع يكون نافعا عندما يكون الشعب لا يعرف حقوقه، محروما من وعيه الذاتي، لا يتمتع بروح المجتمع المدني، بل يستعمل روحه في العبادات فقط ثم يخرج من الروح إلى الجسد في الشهوات الحسية، ولو كانت مصدر ألمه. أما الإقناع بالفكر فيتم بواسطة توحد الأمة في فكرة نهضة الوطن العلمية والسياسية والفكرية. ولن يتحقق هذا الإقناع إلا في أمة يسودها الوعي الذاتي المبتهج بالمحبة، وينام في حضن الحرية الناعم ويقتات من رحيق الكرامة، لأنه يستعمل عقله قبل الوجدان ذلك: «أن المواطنين باستطاعتهم اكتساب كل خير بشجاعتهم وقوتهم، ونمو وعيهم الذاتي، وهذا هو الأساس من أجل القضاء على سلطة الاستبداد». هكذا تبدأ الثورة الحقيقية من الذات، فالحقوق تبنى في ذات الإنسان الذي يستحق لقب المواطن. ينبغي عليكم أن لا تفرحوا فرح الجبان، إذ ليس في استطاعتكم أن تنتصروا من غير أن تقاتلوا كمن يتحرر من العبودية في نومه: «فلا عجب في أن يظهر هذا الشعب الذي يسلك في تحريره سلوك العبودية». لأن تعلم العبودية وتعليمها أصبح حقيقة الحقائق عندنا. ولعل هذا ما يهدد بضياع كل فرح وابتهاج بنهضة فكرية وسياسية، لأن القاعدة انهزمت قبل أن تبدأ المعركة فهل يوجد حقيقة أعماق للعبيد إلا أن لهم سيدا؟ إذ لا يمكن تسمية ذلك حقيقة لأن الحقيقة هي شيء ما حر، لا نسيطر عليه كما أنه لا يسيطر علينا.. والحقيقة لا تتفق مع روح العبودية، مثل الحرية. إنما هي الجمال إذا تصورناها بواسطة الفهم. لا نريد حرية تنام في حضن العبودية.