لطالما اعتبرت لفظة "الإضراب" لفظة مشؤومة، إذ كانت تخلف حين هيجانها جرحى وقتلى ومكلومين. وأرى سر شؤمها في جذرها اللغوي: الضرب. هاك مستملحة: "ماذا تصنع يا بني،" يستفسر الأب ابنه. "أحفظ جدول الضرب أَبَتِي،" رد الابن بعفوية. "الضرب !" أوسع الأب الجاهل ابنه ضربا لاعتقاده أنه يتعلم أشياء قبيحة. والفعل نفسه كانت تصنعه الغوغاء بممتلكات الشعب، فالإضراب: سرقة ونهب وتدمير للممتلكات. الآن، حلت لفظة جديدة: المقاطعة. لفظة جلية شفافة. بمعنى أن السلوك المدني المتحضر حل مكان السلوك الهمجي. وهذا السلوك ليس منبعه المجتمع المدني، مثل جمعية المستهلكين. كلا. منبعه وسائل التواصل الاجتماعي. ولعل فئة المقاطعين بلغت بعض أهدافها. برهان ذلك: رد الفعل المتشنج من طرف بعض المسؤولين، مثل اتهامهم بخيانة الوطن. وكأن جمهور المقاطعين سلموا الوطن في قدر ذهبي أخاذ لأعداء الوطن. وبتعبير آخر، ثمة اتهام للمقاطعين بتدمير الاقتصاد الوطني ومس الوطن في مصالحه الحيوية. وهذا الطرح، في نظري، طرح متهافت، لأن المقاطعين أبدوا وجهات نظرهم في منتوجات اقتصادية يريدون رؤيتها مستقبلا بمعايير أفضل. سؤالي: ما الذي جعلهم يشددون لهجتهم تلقاء هذه المنتوجات؟ أرى أن دنو رمضان يفسر، مثلا، موقفهم من حليب شركة معينة، كما أن كثرة الأمراض المتفشية يخلق لديهم موقفا معينا من ماء القارورات الذي يطالبون بتبخيس ثمنه. ولعل لقدوم الصيف والرغبة في السفر قد يدفعهم للمطالبة بتخفيض ثمن المحروقات أو قل إن ثمن المحروقات همٌّ يومي، ثم إن حديث وسائل الإعلام عن شخصية سياسية معينة واحتكارها لمجال اقتصادي معين وخلقها للحدث السياسي قد يفسر بعضا مما يحدث الآن. حقا، هذا لا يفسر كل هذه المقاطعة. ولكن ما الذي جعل عيني المغربي واسعتين الآن أكثر مقارنة بالماضي؟ ألا ترى، يا صاحبي، أن العالم غدا قرية صغيرة. فالمغاربة صاروا يقارنون، مثلا، بين الماء المعبأ المحلي وثمنه وبين الماء المجتلب من الخارج من لدن أقاربهم وثمنه وعذوبته. أنا، مثلا، أعجبتني جبنة اجتلبها معه صديق طنجي من سبتة وقارنتها بالجبنة الوطنية التي أستهلكها دأبا. فهل إذا قلت أن هذه الجبنة الأجنبية ألذ أعتبر خائنا؟ وهل إذا اشتريتها، دون الجبنة الوطنية، أعتبر كذلك خائنا؟ إن شرائي للجبنة الأجنبية ليس خيانة، بل بحثا عن الجودة. وبالمنطق ذاته، فمن يستورد منتوجا أجنبيا عبر شركته، فهو كذلك خائن والمسؤولون الحكوميون الذين رخصوا لشركته هم كذلك خونة. أما كان الأولى أن تكون ثمة دراسات ميدانية للسوق الوطني واستفسار المواطن عن رأيه في منتوج وطني معين. فإِذَّاك ليس عيبا ان تطور شركة ما أداءها وتقدم للمواطن ما يرتجيه في المنتوج الوطني. فالمقاطعون يريدون المنتوج الوطني، ولكن بجودة أكبر وثمن معقول. فهل، في ذلك، خيانة؟ إن الخائن الأكبر هنا هو الكسل الفكري. فالمطلوب في أي شركة وطنية محترمة أن تخصص ميزانية معتبرة لتطوير منتوجها عبر وحدة البحث العلمي وتجويده، خاصة في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. ففي ظل أي هفوة يصير يسيرا التقاط العيب وترويجه بين الجماهير المختلفة، ثم، إن هذه الجماهير صارت ذا وعي غذائي أكبر وهي تستمع لنصائح خبراء في التغذية، من قامة الدكتور الفايد الذي عبد الطريق أمام الشركات والمواطنين لاستثمار الخيرات المحلية بطريقة صحية. فالرجل الذي يقف شامخا أمام العولمة الثقافية أسهم في توعية المواطنين بالمخاطر الصحية لأي استهلاك غير رشيد للمنتوجات الغذائية، كما جعلهم يدركون قيمة الأرض الوطنية وخيراتها الطبيعية. ومن شأن مثل هذا الوعي أن يخضع أي منتوج للثقافة الغذائية السليمة. فالمواطن يطلب الجودة، لكن الرفق أيضا بجيبه، أي منتوجا يحترم قدرته الشرائية. هاك مثالا شخصيا: أنا من مستهلكي الماء المعدني الوطني بشراهة بنصيحة من الطبيب. هذا الماء يكلفني حصة مالية سنوية. ومع أني أفعل ذلك منذ سنوات مع شركة معلومة، فإن هذه الشركة تأخذ مالي بتلذذ دون حافز مستقبلي. فهل اتخذت هذه الشركة لمن يفعلون ذلك مثلي من الأوفياء بطاقة ممغنطسة، مثلا، لخصم قدر مالي معين تحفيزا؟ لم تفعل. وهي بذلك تكتفي بأن تكون الرابحة دون إشراك زبونها الوفي في ربحها، كما لا تهمها صحة هذا الزبون. فلو تخلت عن كسلها الفكري وأجرت دراسة على المصابين بالكلي في المغرب، مثلا، فستجد الجماهير سوقا محتملة مخبوءة. إنه الكسل الفكري عينه حين ملاحظة شخصية سياسية هاجمها المقاطعون. ولو قارناها بشخصية أخرى من مليارديرات المغرب مثل الراحل الحاج الشعبي رحمه الله أو السيد رحال، سنجد البون شاسعا. هل دعا أحد آنفا إلى مقاطعة الحاج أو رحال؟ كلا. والسبب أنهم عرفوا كيف يسوقون أنفسهم إعلاميا. فكنا نشاهد في التلفاز مدرسة حديثة للطالبات في منطقة نائية تشتد فيها الحاجة إلى مثل هذه المنشآت، ثم ندرك أن الحاج من أنشأها أو أنك تمر في المدينة القديمة قرب ملعب لكرة القدم للصغار، ثم تدرك أن السيد رحال من أنشأه وتعلم بعدئذ أن السيد رحال يساعد الجمعيات على القيام بأعمال اجتماعية تطوعية، فهل تظن أن المقاطعين سيدعون إلى مقاطعة أمثال هؤلاء؟ فقد تعوَّد المشاهدون أن يروا نخب المجتمع تبذل جهدا اجتماعيا راقيا إسهاما في لحم النسيج الوطني الاجتماعي، كما يفعل ذلك السيد الفاضل بيل غيتس أو كما تفعل ذلك الممثلة الفاضلة انجلينا جولي. إن جمهور المقاطعين هم جمهور المستهلكين وهم لم يدعوا إلى أي منتوج أجنبي منافس. إنهم يريدون فقط تبخيس الثمن وتجويد المنتوج. ولو أن أي شركة أجنبية وجدت مثل هذا الجمهور في بلدها لالتهمته التهاما. فلا يعقل أن أكون فاعلا اقتصاديا ولا أخضع لرغبات معقولة لزبنائي المستلكين.