عندما استعادت القوات الموالية للحكومة مسقط رأسها من الثوار السوريين، رضخت نسرين لصفقة الاستسلام نفسها التي قدمتها الحكومة لعشرات الآلاف من السوريين، رحلة الحافلة ذات الاتجاه الواحد نحو مقاطعة إدلب الشمالية الواقعة تحت سيطرة الثوار، مكان لم تره نسرين ولو لمرة في حياتها. ومع اندلاع الحرب في سوريا، تضاعف عدد سكان مدينة إدلب والنواحي بسبب نزوح مزيج متنامٍ من المدنيين النازحين، والمتمردين المهزومين، والجهاديين المتشددين، وأشخاص مثل نسرين حملوا عبء عائلاتهم ليصلوا بهم إلى حافلات الاستسلام التابعة للحكومة. وبالتزامن مع إنهاء القوات الحكومية للحملة العنيفة التي شنتها على الغوطة الشرقية، أصبح الكل يترقب توجيه نظام الأسد أفواه مدفعياته صوب إدلب. حينها، لن يجد السوريون مكانا للاختباء أو للهرب. "ربما هذا هو الجزء الأخير من الثورة" ، هكذا جاءت كلمات نسرين، معلمة سابقة للغة العربية في منتجع مضايا السياحي خلال مقابلة أجرتها عبر الإنترنت مؤخراً. وأضافت نسرين ذات الأربعين ربيعا: "السوريون يقتلون السوريين. لم يعد شيء يهم بعد الآن. قررنا أن نموت مرفوعي الرأس. أنا حزينة على الثورة، وكيف أصبحت، وكيف دعا الناس إلى الحرية في الوقت الذي تبخر فيه كل شيء". وتعتبر إدلب، الإقليم الصغير المحافظ الذي يقع على مقربة من الحدود التركية، أكبر منطقة في سوريا واقعة تحت سيطرة الثوار، ومن بين أول الجهات التي أعلنت عن ثورتها ضد الرئيس بشار الأسد، وهو في الغالب المكان الذي ستأفل فيه الشمس الحارقة لثورة دامت لأزيد من سبع سنوات. وقد شنت طائرات تابعة للحكومة السورية، بمعية حليفتها روسيا، غارات جوية على إقليم إدلب استهدفت مستوصفات ومستشفيات ومدارس ومحالات البقالة. في الأيام الأخيرة، تم نقل أزيد من 10 آلاف مقاتل ومدني عبر حافلات من غرب الغوطة صوب مدينة إدلب. ويصل معظمهم في حالة يرثى لها مصطحبين أطفالا يعانون من سوء التغذية نتيجة أعوام من الحصار القائم على سوريا. وترى الحكومة محافظة إدلب كقاعدة تدفن فيها من لا تريده في أراضيها، حيث يعتبرها بشار والموالين له وكرا كبيرا يعج بالجهاديين. وتتشكل الغالبية العظمى من إدلب من المدنيين وناشطين غير مسلحين قد يتم اعتقالهم وتعذيبهم في المناطق الحكومية. يأخذ مروان حباب، الذي نجا من قوات النظام في الغوطة الشرقية عبر اختبائه في قبو هو وزوجته وابنته الرضيعة ياسمينة، عائلته هذه المرة إلى إدلب. إنه خيار صعب، إدلب ممتلئة عن آخرها بالنازحين، لذا سيتعين عليه ترك والدي زوجته وراءه لأن احتمال إيجاد مكان يأوي فيه كل أفراد عائلته ضعيف جدا. وإن لم يقم بهذه التضحيات، سيصبح مستقبله مرهونا إما في دهاليز سجون الرئيس بشار الأسد أو في الخدمة العسكرية. وقال مروان: "أمامي خيارين مرين؛ المغادرة إلى المجهول، أو البقاء في قبضة يد الأسد". الهرب يؤخر القدر فقط وقال مهران عيون، عضو مجلس المعارضة في المنفى بضواحي دمشق، التي تجتمع في تركيا، "إنه عار على العالم (...) إذا أقريتم بجريمة الحرب المرتكبة ضد الشعب السوري جراء الإجلاء القسري، فعلى الأقل تأكدوا من عدم وقوعها مجددا". وكانت إدلب تحت سيطرة مزيج من المتمردين المتصارعين، بعضهم يتلقى التعليمات من القادة المنشقين من الجيش المدعومين من الولاياتالمتحدة الذين يطالبون بدولة مدنية، والبعض الآخر كالموالين للقاعدة، يرحبون بمقاتلين أجانب ويقومون بضم مجموعات من الأيديولوجيات الإسلامية. ومع ذلك، فقد أصبحت الأفضلية في يد المتطرفين الذين يلعبون على إعطاء الحكومة صورة مغلوطة للمنطقة من خلال خلق توترات مع السكان الذين يعارضونهم. وفي خضم هذه الظروف، يجد المدنيون في إدلب أنفسهم مستهدفين جوا من طرف الطائرات التابعة للحكومة، وبرا من المتطرفين وقوانينهم التي لا تطاق. وانضمت نسرين إلى الثورة منذ اندلاعها سنة 2011، حيث نادت بالديمقراطية المدنية والعلمانية. شأنها شأن عشرات آخرين من سكان إدلب، تم استجوابهم عن طريق الهاتف أو البريد الإلكتروني، وطلبت أيضا عدم الكشف عن هويتها بشكل كامل خوفا من العقاب. واستقلت نسرين الحافلة إلى إدلب العام الماضي بعد أن نجت من الحصار الذي دام لمدة سنة، على أمل أن ابنها عبد الله، البالغ من العمر 10 سنوات، لن يموت جوعا كبعض الأطفال في بلدتها مضايا. في البداية، كانت متحمسة للم شملها مع زوجها، الذي كان يدرس القانون قبل الثورة وانضم إلى المقاتلين الثائرين قبل ذهابه إلى إدلب منذ سنتين. لم تندم نسرين على مغادرتها مضايا. فبعد استيلاء الحكومة على المنطقة، تم تجنيد شقيقها وإخوان زوجها وأرسلوا إلى الجبهة مع الحد الأدنى من التدريب، ليلقوا حتفهم جميعا في المعركة. ومنذ حلولها بمدينة إدلب، شعرت نسرين بالانزعاج من اللوحات الإعلانية الجهادية وفرض الخمار والمقاهي التي تفصل بين النساء والرجال ومنع الناس من التدخين. فعندما ترتدي غطاء الرأس المعتاد ومعطفا متواضعا، تتلقى محاضرات من طرف القائمين على تنفيذ الأحكام الدينية لعدم تغطية وجهها. سرعان ما فقدت أعصابها إزاء تكلم أحد الجيران باستمرار حول محاربة الشيعة، وليس حول بناء دولة جديدة، لتدخل معه في مشادة كلامية عندما قالت له: "لماذا تركبون على موجة الثورة؟ لم أنضم إلى الثورة ليكون مآلنا هو محاربة الشيعة". كما كافح زوجها أحمد، الذي كان مقاتلًا متمرداً في مضايا، للعثور على طريقة لمواصلة القتال من أجل القضية التي يؤمن بها. وبعد انضمامه لفترة وجيزة إلى اثنين من الفصائل الإسلامية الرئيسية في إدلب، ترك القتال ليصبح مساعدا قانونيا. وقال احمد في هذا الصدد: "يعتبرونني كافرا وأنا أراهم متطرفين". وكانت الفاجعة التي صدمت نسرين هي عندما جاءها ابنها بعد أن سمحت له باللعب لأشهر قليلة مع أطفال إدلب، وقال لها: "أريد الانضمام إلى الجهاد". لم يكن ذلك الحدث فاجعا فقط، بل شكل العامل الأساسي وراء عزمها على خلق بدائل تربوية وإطلاقها لحملة إيقاف تجنيد الأطفال في المدارس الدينية المتشددة والفصائل المتمردة. وساهمت أيضا في إنشاء مشروع "ضمه" (عناق)، وهي منظمة تهدف إلى تقديم الدعم النفسي والقيام بأنشطة ثقافية. واتخذت أم عبدو، أستاذة الفلسفة بجامعة حلب ذات 36 عاما، نهج المواجهة، وقد فرت إلى إدلب في عام 2014 خشية أن يتم اعتقالها بعد اعتقال زوجها. وقالت: "لن أسكت أبدا"، "لا أهاب الموت، بل مرحبا به في أي وقت". وتحت هذه الظروف لا تغادر أم عبدو منزلها بدون سلاح. لم تتمكن من العثور على عمل في جامعة إدلب نتيجة حظر الفلسفة باعتبارها "شركا بالله"؛ لذلك أصبحت طبيبة تقليدية، تتعامل بشكل كبير مع النساء؛ إذ وجدت أن حرياتهن المحدودة بالفعل قد تقلصت أكثر مع سيطرة المتشددين على إدلب. جاءها طلاب تم غسل دماغهم لكي ينعتوا آباءهم بالكفار، وصادفت حالات لبيع فتيات مراهقات تحت قالب الزواج. وذات يوم حلت في عيادتها امرأة غير قادرة على الكلام، اتضح فيما بعد أن زوجها ضربها بشكل عنيف بعد أن ضبطته يخونها. بدأت أم عبدو، الحاصلة على الإجازة في الشريعة الإسلامية، تدافع عن المستضعفين في المحاكم الإسلامية، وساعدت المزارعين على هزيمة الفصائل التي حاولت الاستيلاء على أراضيهم، وربحت قضية طلاق لفائدة امرأة كان والدها قد باعها لمقاتل أجنبي الذي بدوره اغتصبها وضربها. وقالت: "عندما بدأنا الثورة، كان ذلك ضد القمع والاضطهاد، لكننا نواجه اليوم اضطهادا من نوع آخر". تشكل الحياة في محافظة إدلب تحديات للجميع من سكان دمشق السابقين، وخاصة النساء غير المتزوجات. وصلت ريما، سجينة سياسية سابقة، من مضايا إلى إدلب، مطلقة وبدون روابط عائلية أو أقارب ذكور لحمايتها. كان عدد قليل من أصحاب العقارات يستأجرون لها، بينما طردها أحدهم عندما أبت أن تمكنه من نفسها. وقالت: "حتى سائقي سيارات الأجرة يسألونني لماذا أنت بمفردك؟ هل ليس لك أخوة؟" في الآونة الأخيرة، أعلنت السلطات المحلية في مدينة إدلب أن النساء غير المتزوجات سيضطررن للعيش في مخيمات خاصة. بالنسبة لريما، تم حل المشكلة عندما تقدم أحدهم لخطبتها، وهو أيضا يريدها أن ترتدي الخمار. وقالت: "سأفعل ذلك ليس لأنني مقتنعة بل لأنني أحبه"، مضيفة: "ما يزال التلاؤم يمثل تحديًا، ولكن لا توجد خيارات كثيرة"، واعتبرت أنه إدلب "لم تكن هي الخيار الأفضل، لكن كانت الخيار الوحيد." تم استجواب الأشخاص من طرف آن بيرنارد وهويدى سعد اللتين قامتا بتغطية الحرب في سوريا لمدة 6 سنوات.