(ردا على ادعاء ذ. حسن إمامي) فوجئت، مثل كثير من مثقفي مدينة وجدة العتيدة وأدبائها وفنانيها ومفكريها، بالمقال الذي كتبه الصديق المحترم حسن إمامي تحت عنوان "وجدة عاصمة عربية للثقافة" على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 31/03/2018، والذي أقل ما يُقال عنه أنه مجرد خاطرة أخطأت حدسَها، وانطباع مبني على تمثل سلبي سابق عن مدينة وجدة عامة، وعن حركيتها الثقافية خاصة، تولد عنه كلام غير مؤسس على أية معطيات كمية أو نوعية البتة، وإنما ينمُّ عن جهل كبير بالحركية العلمية والثقافية والفنية بالمدينة. هاته الأسطر بيانٌ للحقيقة أكثرُ من كونها ردا على المقال المذكور، لذا سأتحدث عما ورد فيه حول المدينة وثقافتها لذاتهما، وأترك رد وزارة الثقافة لها بخصوص ما يعنيها وواجباتها ومشاريعها التي يسائلها عنها الكاتب، والتي أتفق معه حول كثير منها. ادعى الكاتب في المقال المذكور أن مدينة وجدة غير مؤهلة لتحتضن شرف عاصميَّةِ الثقافة العربية. فقد ذكر – دون مواربة – فراغ ساحة المدينة من كل تأسيس للفعل الثقافي [كذا!!]، ومن كل بصمات الجمال التعبيري، من حروف اللغة إلى نوتات الموسيقى [كذا أيضا!!]. ثم أسس على هذا الجهل – ووصف الجهل هنا لغوي بريء يقابله العِلم، ولا انتقاص فيه البتة – نتيجته الاستلزامية القاسية التالية: "الاحتفال بوجدة كعاصمة للثقافة يبقى بهرجة مناسباتية وموسمية، لا تشرف الحدث، ولا تجعله مناسبا لهذا الاختيار"، وهي نتيجة جاءت كطعنة غير متوقعة عشية بدء سريان السنة الثقافية الجديدة المحتفية بالمدينة. طبعا، يمكن ببساطة نقض هذا الكلام من أصله لأنه لم يؤسس على أي دراسات ميدانية، بل ولا على أي معطى موضوعي مذكور، ولأنه حشر ما ليس من الكلام فيه، كإرجاع اختيار وجدة عاصمة للثقافة العربية إلى مناسباتيةٍ وموسمية ما، مع العلم ألا علاقة مباشرة للأمر بأي مناسبة ولا موسم معروف، وإنما عاصميةُ الثقافة العربية هي الموسمُ نفسه، ولا مناسبة له إلا الحركيةُ الثقافية والأدبية النشيطة التي تعرفها المدينة نفسها، والتي يُسهم فيها سكانها وأبناؤها وأبناء الجهة الشرقية عامة، بمُهجهم وإمكانياتهم الشخصية المتواضعة، إن لم نقل الضئيلة، حتى أضحت معها وجدةُ حاضرة من حواضر إنتاج المعرفة وترويجها، لا سيما بعد منعطف 2005، وهي سنة تأسيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية الذي رفع شعار "نحو بحث علمي يُصغي إلى أسئلة المجتمع، ومجتمع يسترشد بالبحث العلمي"، وهو المركز الذي أصبح قبلة طلاب العلم والباحثين بالمنطقة، ومحضنا لطاقات فكرية وعلمية وأدبية مختلفة. هذا طبعا دون أن ننسى أدوار الهيئات والجمعيات والمقاهي الثقافية النشيطة الأخرى التي يعرفها الجمهور المثقف الوجدي جيدا، والتي أسهمت في تحول النظر العامِّ إلى المدينة من اعتبارها مدينة حدودية للعبور إلى مدينة نشيطة ثقافيا، وهو ما جعلني أعتبرُ – في تصريح سابق لوكالة المغرب العربي للأنباء - الاحتفاء العربيَّ بها عاصمةً ثقافية "اعترافا رمزيا رفيعا بالتبريز الثقافي الذي تضطلع به المدينة حاليا". وحتى لا يتحول هذا المقال إلى كشف حساب، سأقتصر على بعض من مشاهد تلك الحركية الثقافية في المدينة خلال هذه الأيام القريبة، والتي لم تكن المدينة إبان إنجاز كثير منها قد دخلت بعدُ زمن العاصمية الثقافية العربية، حتى لا يُحسب أن تلك الأنشطة مجرد فرقعة للاستهلاك الإعلامي. فبالأمس مثلا (31 مارس)، حين نشرت الجريدة مقال الكاتب المنتقص من المدينة وفعالياتها الثقافية كان مركز الدراسات المذكور آنفا منكبا على تنظيم ندوة علمية حول "الرؤية الاستراتيجية 2015-2030، من التصور إلى التطبيق (قضية التعليم العتيق)"، وهي مجرد حلقة من 12 حلقة مستمرة تتناول كافة قضايا الرؤية الاستراتيجية، بمشاركة الباحث د. سمير بودينار، وفضيلة الشيخ د. مصطفى بنحمزة، وباحثين آخرين. هذا صباحا، أما مساء فكان الصالون الأدبي بالمركز نفسه مشغولا بكل صدق وتجرد وفعالية على إنجاح فعاليات مسابقة الإبداع الشعري الوطنية، في دورتها الخامسة (دورة محمد علي الرباوي)، والتي هي مستمرة منذ 2013 دون انقطاع، في واحدة من أنبل الأنشطة الأدبية التي تجمع بين فضيلتي الاعتراف والاكتشاف: الاعتراف برواد الشعر العربي محليا وفي المغرب من خلال إطلاق علم من أعلامه على كل دورة (حسن الأمراني، المرحومان محمد بنعمارة والطاهر دحاني، محمد لقاح، محمد علي الرباوي)، واكتشاف الطاقات الأدبية الشابة وتشجيعها وتحفيزها. وأثناء إنجاز نشاط الصالون هذا، كانت جمعية النبراس الثقافية التي فاق عمر وجودها الفعليِّ النشيطِ للغاية الثلاثةَ عقود تنظم مهرجانا فنيا كبيرا من أجل القدس وفلسطين، إحياء ليوم الأرض، بحضور تمثيلية رسمية عن السفارة الفلسطينية بالمغرب، ورئيس الجمعية المغربية لنصرة القضية الفلسطينية. وقد تضمن النشاط مشاركة مجموعة "الْعْوافي" الوجدية العريقة، سليلة مجموعة "الْمْشاهب"، ومسابقة تلاميذية في الشعر والقصة والتشكيل. واليوم فاتح أبريل الموالي، نظمت مكتبة "الساورة" البلدية لقاء مفتوحا مع الشاعر الناقد الطيب هلو، ضمن برنامج أسبوعي غني ابتدأ منذ أكثر من شهر، وفي اليوم نفسه نظمت الجمعية الشرقية للتنمية مسابقة للكفاءات الفنية في صناعة البلوزة الوجدية. كما ستنظم شعبة الاجتماعيات بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة يوم 2 أبريل قراءة في كتاب "البعثات التعليمية في اليابان والمغرب: تباين المقدمات واختلاف النتائج" للباحث يحيى بولحية، وهو الكتاب الفائز بجائزة المغرب للكتاب. أما جامعة محمد الأول بوجدة فستنظم بدورها ندوة علمية حول أدب الجهة الشرقية احتفاء بأساتذة كلية الآداب المحلية مصطفى رمضاني ومحمد قاسمي ومصطفى سلوي يومي 2 و3 أبريل، تتناول ثلاثة محاور رئيسة هي الدرس الببليوغرافي والكتابة النسائية بالمغرب، والحركة المسرحية بوجدة. وقبل أيام فقط (24 مارس) احتفى المقهى الأدبي بوجدة كعادته باليوم العالمي للشعر بأمسية شعرية جمعت أسماء من ثلاثة أجيال شعرية بالجهة ونواحيها (من جيل السبعينيات إلى جيل العقد الثاني من الألفية الثالثة)، والمقهى منكب الآن على آخر التحضيرات لاستضافة الملتقى الرابع للرواية عما قريب، والذي عودنا على استضافة أسماء عربية وازنة خلاله. وفي اليوم نفسه التأمت مجموعة من المثقفين في ندوة من تنظيم جمعية النبراس حول "الواقع الثقافي للجهة الشرقية: ذاكرة وتحولات". وفي اليوم نفسه كذلك نظمت مكتبة الساورة لقاء مفتوحا مع الشاعر الباحث علي علوي. وقبله بيوم فقط (23 مارس) نظم مستشفى الأم والطفل بالمركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بوجدة معرضا فنيا تحت شعار "الفن والمرأة في مواجهة السرطان"، كما وقع الشاعر الباحث يحيى اعمارة آخر دواوينه صدورا "فوضايَ تكتب نثرها" بمكتبة وجدة. وفي يومي 23 و24 مارس نظم مركز الدراسات ندوة دولية في موضوع "مدونة الأسرة: المشاكل والحلول"، وبعدهما بيوم (25 مارس) نظمت جمعية "الْرْسام" التي تعنى بالثقافة الشعبية الملتقى الثاني للشعر بوجدة حول "القصيدة البدوية وإيقاع الذاكرة". هذا غيض من فيض الثقافة البانية بوجدة، أما إن ذهبنا نوسع دائرة سرد الأنشطة الثقافية إلى مدن الجهة، لا سيما بركان وزايو والناظور، فإن القائمة ستطول كثيرا. لا يحتاج القارئ اللبيب إلى أية مقارنةٍ بين ما ورد في مقال الانطلاق وكل هذا الزخم الثقافي والفني المتنوع حتى يخرج بنتيجة مفادها أن ما ورد بالمقال ادعاء باطل، لا صلة له بالواقع إطلاقا، ولا أساس له من الصحة البتة، اللهم إلا إن كان ينظر الكاتب إلى الثقافة من زاوية سياحية (نمطية) كما يوحي بذلك قوله "فلننظر إلى جاذبية السفر الثقافي والسياحي الذي يحققه اختيار وجدة عاصمة للثقافة العربية"، وهي نظرة لا تختزل السياحي في نمط معين مما تروجه الرأسمالية المستثمرة في الإنسان الكادح فقط، ولكن الأخطر هو أنها تختزل الثقافيَّ في السياحي النمطي، في بُعد كبير عن مفهوم السياحة الثقافية الأرقى، مما لا يناسب المثقف غيرُه. إن عاصميَّةَ مدينة وجدة للثقافة العربية اعتراف وتكريم مُستحقان، بعيدا عن كل المراسيم الشكلية، والبهرجة الظاهراتية، ولكن عيب المدينة الوحيد أن مطلعها الشرق، مما جعلها لا تُحسن الإفصاح عن ذاتها الثقافية المتَّقدة عبر وسائل الإعلام المحكومة بثنائية المركز والهامش الحديدية، وتلك قضية أخرى يضطلع فيها القدَر الجغرافي والسياسي بدور يفوق دور الأفراد والمؤسسات ولو اجتمعت، وشتان بين الفعل الثقافي والصناعة الإعلامية، وليس هذا مقام الحديث عن ذاك.