بسم الله الرحمن الرحيم (1) أوحى لي بكتابة هذا المقال ما عرفته الحكومةُ مؤخرا من بلبلة واضطراب في شأن مشروع قانون المالية، الذي قدمته الحكومةُ للبرلمان، في دورته الاستثنائية، لمناقشته والمصادقة عليه، لكنها سرعان ما أعلنت عن سحبه-صادق مجلس الحكومة المنعقد يوم الأربعاء 28/09/2011 على هذا السحْب-مع ما صاحب هذا السحْبَ المفاجىءَ من تفسيرات وتعليقات وتكهنات من جهات متعددة، حكومية وحزبية وإعلامية، وما تزال الحقيقةُ المتعلقةُ بما جرى بالضبط مجهولةً. وسيادةُ الغموض والتكهنات، وكثرةُ الإشاعات والتأويلات والتحليلات في أمر كان ينبغي أن يكون مطبوعا بالوضوح والشفافية، يؤكد، عندي، أن الموضوع، في صميمه، يتعلق بسلوك مخزني بامتياز. والسبب الذي يدعوني إلى هذا الرأي هو أنه ما من موضوع، وما من قضية، وما من أمر يخص عملَ الحكومة، تختلف حوله التفسيراتُ من داخل مكونات الحكومة نفسها، وتكثر في شأنه الظنونُ والتكهنات، إلا ويكون، في نهاية المطاف، متعلقا بحقيقة دولة المخزن، التي يعلو فيها صوتُ التعليمات على كل الأصوات، ويتغلب فيها قانونُ المخزن العرفي على جميع القوانين، وإن كانت نصوص الدستور الممنوح نفسه. ليس هناك فصلٌ للسلطات على مستوى الملك، ومن ثَمَّ فإن الإجراءاتِ الدستوريةَ والمساطرَ القانونية ليست مُلزمة للملك، كما هي ملزمةٌ لغيره من المسؤولين التابعين، والموظفين المأمورين، والأعوان المنفذين. في دولة المخزن، هاتفٌ من أعلى، أو تعليماتٌ سامية، يمكن أن تُعطّل، عند الضرورة، كلّ الإجراءات الدستورية والمتطلبات القانونية. الفاعل السياسيُّ هو الذي يكون منه الفعل أصالةً، لا تبعية وتلقيا وانفعالا. أما التوابع المتلقيةُ المنفعلة، فهي دائما مفعولاتٌ تؤثر فيها العوامل، فتجعل مواقعها متغيرةً متلونةً بحسب لونِ العامل الفاعل وإرادته. ما معنى ألاّ يكون عند وزير المالية، في حكومة عباس الفاسي، تفسير واضح، لا "دخول" فيه ولا "خروج"، لما جرى في شأن قانون المالية المسحوب من البرلمان؟ ما معنى أن يتكلم الناطقُ الرسمي باسم الحكومة غداة الإعلان عن سحب القانون بكلام في تعليل الفعلِ الحكومي، ثُم يتبين، فيما بعد، أنه كلامٌ غير صحيح، وأن وزيرَ الاتصال كان مدفوعا إلى أن يقولَ أيَّ شيء لتبرير الموقف، وإن كان هو نفسُه يجهل حقيقة ما جرى؟ ما معنى أن تُروّجَ بعض الأطراف الحزبية من داخل الحكومة أن وزيرَ المالية هو السبب فيما جرى، لأنه عمد(هكذا) إلى تغيير بعض المقتضيات في مشروع القانون، ومن ثَمّ كان لزاما على الحكومة إرجاعُه للمراجعة والتعديل؟ وهل هذا كلامٌ يقال عن أعضاء مسؤولين في حكومة تدبر أمورَ دولة؟ وهل يمكن، في دولة المخزن، أن يتجرأ وزيرٌ، في أهمية وزير المالية، أن يغير مشروعَ قانون صادق عليه مجلس الحكومة؟ وأين مجلس الوزراء الذي يترأسه الملكُ في كل هذه الحكاية؟ هل يمكن أن يصل أيُّ شيء إلى البرلمان قبل أن ينالَ التزكيةَ من مصفاة مجلس الوزراء؟ (2) مهما تكن حقيقةُ ما جرى بخصوص مشروع قانون المالية، فإن الذي نستفيده من هذا الحادث، في رأيي، ليس شيئا جديدا في دولة المخزن، التي ليس للوزراء فيها إلا دورُ الأعوان المأمورين والمنفذين "المفعولين". فهناك حوادث كثيرة من هذا النوع في تاريخ دولتنا المخزنية، حيث نجد القراراتِ تُتخذ في شأن قطاع من القطاعات، والوزيرُ المعنيُّ لا علم له، بل قد يصله الخبرُ من طريق الإعلام مثلُه مثلُ سائر الناس العاديين. فقد تكون الأمورُ جاريةً على ما تقتضيه القوانين والمساطر والإجراءات الإدارية، فإذا بأمر ينزل من فوق يُوقف كلَّ شيء، وليس لأيّ كان أن يرفض أو أن يحتج، لأنه ما كان له أن يُقبل، أصلا، في سلك الأعوان المأمورين لو كان من طينة مَن يرفض ويحتج ويدافع عن احترام الدستور وتطبيق القانون. ليس في خدّام دولتنا من يجرؤ على الانتقاد والاعتراض ومناقشة "التعليمات". وحتى إن حصل وتسرب أحد من غير أن تكشفه السدود والقيود والحواجز الكثيرة، فإنه، عندئذ، يخضع لبعض الاختبارات الترويضية التأهيلية، فإن صلح فذاك، وإلا فإنه يُعفى من مهامه. هكذا تجري الأمور في دولة الجبر والتعليمات. وهذه هي قواعد تحمل المأمورية، التي يحفظها جيدا هؤلاء "المفعولين"، الذين يُعجبهم أن يُوصفوا بأنهم "فاعلون" سياسيون، كما يعجب أقطابَ حزب الاستقلال في الحكومة أن يصف الإعلامُ، وخاصة الإعلام الخارجي، حزبَهم بأن الحزبُ "الحاكم". حزب الاستقلالُ هو الحزبُ الحاكمُ في المغرب!! هذا هو الهزْلُ بعينه. هذه هي المضحكاتُ المُبكياتُ لمن لا يعرفها. (3) وقد ذكرت بعضُ الأخبار-وما أكثرَ الأخبارَ في دولة الغموض والتستّر والأسرار- أن الأمانةَ العامة للحكومة هي التي طالبت، باتصال هاتفي فقط بالبرلمان، بإرجاع مشروع القانون الذي أودعته الحكومة. ولو صحّ هذا الخبر، فإنه، في اعتقادي، سيكون من صميم طبيعة الدولة المخزنية، لا غرابة فيه ولا شذوذ، لأن الأمانة العامة للحكومة هي من المؤسسات المخزنية الحيوية، التي يحرص النظام ألا يعين فيها إلا الرجال الثقات الأوفياء. وإدريس الضحاك الذي يوجد على رأس هذه الأمانة اليوم هو من هؤلاء الخدّام الأصفياء. الأمانةُ العامة للحكومة سمّاها بعضُهم، وهو مصيب، مقبرةَ القوانين، لأن الدولةَ قد لا ترضى عن بعض القوانين التي تكون قد نجحت في تجاوز جميع العراقيل، فتلجأ إلى إقبار هذه القوانين المسخوط عليها في الأمانة العامة للحكومة، التي تتماطل وتّسوف وتتأخر في إصدار النصوص التنظيمية لإخراج تلك القوانين إلى حيّز التنفيذ، كما فعلت، مثلا، بقانون منع التدخين في الأماكن العمومية، الذي ظل مقبورا في هذه المقبرة المخزنية لعدة سنوات. أن تكون الأمانةُ العامة للحكومة هي التي طالبت بسحب مشروع قانون المالية من البرلمان بدون علم وزير المالية، هو أمر لا أستغربه، وخاصة-وهذا ما أرجّحه شخصيا- إذا كانت هناك تعليماتٌ نازلة من فوق، تطلب إعادةَ النظر في بعض مقتضيات المشروع واقتراحاته ومضامينه. وقد ذهبت بعضُ الآراء، من بين الآراء التي كثرت في تفسير هذا السلوك الحكومي، إلى أن السبب الحقيقي وراء سحْب مشروع القانون هو أن جهات عليا في الدولة-والغالبُ في اللغة السياسية السائدة عندنا أن يكون المقصودُ بالجهات العليا هو الملك أو عناصرُ نافذة في دائرة مقربيه-لم تكن راضية عن المشروع، فأرادت أن تعيد النظر في بعض محتوياته. وقد أضاف أصحابُ هذا الرأي أن أصحابَ المال والأعمال والأبناك والشركات من الأثرياء قد يكونون وراء هذا الأمر، بسبب ما وجدوه في المشروع من إجراءات تكلفهم بعض الأعباء المالية الزائدة. (4) إن حدث سحب الحكومة لمشروع قانون المالية لسنة 2012 قد أثار كثيرا من العجاج، الذي يمكن أن يحجب الرؤية الواضحة عن كثير من الناظرين. لقد قيل الكثير في تفسير هذا السحب، بين قول جادٍّ أو قريب من الجدّ، وقولٍ سخيف أقرب إلى الهزل منه إلى الجدّ. لكن الذي أراه أقربَ إلى العقل، وأشبهَ بطبيعة الدولة المخزنية وآليات عملها، هو أن الأمر يتعلق بخطأ أو سهو أو تقدير متسرع وقع في المشروع، لم تنتبه إليه الدولةُ، ممثلةً في قيادتها الضيّقة التي تقرر في أمور البلاد الاستراتيجية، إلا بعد أن وُضع المشروع لدى البرلمان، فسارعت، بواسطة الأمانة العامة للحكومة، إلى طلب سحبه، على أن تتولّى حكومةُ عباس الفاسي ووزراؤها المأمورون تلقّيَ ضرباتِ النقاد والمعارضين، كما هو الحال دائما عندما يتعلق الأمر بقبائح الدولة ومفاسدها ومنكراتها وانحرافاتها وأخطائها، فإن حكومةَ الواجهة هي المكلفة دائما بتحمل كل أنواع النقد والطعن والتجريح، على أن تبقى نواةُ الحكومة الحقيقية الخفيّة، التي عنها تصدر جميعُ القرارات الخطيرة والحاسمة في الدولة، بمنآى عن وجع المعارضة ومناوشاتها ومشاغباتها. إن الذي يعرفه السياسيّون أن قانونَ المالية، في أية دولة، هو أداة حسّاسة وحاسمة في تدبير شؤون الدولة، وخاصة في ظروف تتسم بسخونة الشارع، وتوالد الاحتجاجات الاجتماعية وتكاثرها بتصاعد وتيرة السخط الشعبي وفشل السياسات الحكومية. وأنا لا أعتقد أن أداةً بهذه الأهمية والخطورة-أقصد قانون المالية- يمكن أن يغفل عنها الملك، ويتركها تتعرض لما يمكن أن يؤثر في فعّاليتها وقدرتها على بلوغ الأهداف المرجوة. فعلى هذا، لا يمكن أن يكون مشروعُ القانون المسحوب قد وصل إلى البرلمان بغير ضوء أخضر من الملك، رئيسِ الدولة ورئيس مجلس الوزراء، إلا أن هذا الضوءَ الأخضر قد يكون وقع فيه ما وقع-الله أعلم بالسبب الحقيقي، لأن دولة المخزن هي نقيض الشفافية والوضوح- فرأى المسؤولون سحْب المشروع لمراجعته وسدّ ما رأى فيه أصحابُ الشأن من ثغرات. أما الحكومة، فهي الجهاز الذي عليه أن يفسر ويبرر ويَجِد الحيل ويصنع المخارج، ويواجه السياسيين المعارضين، والإعلاميين المُزعِجين، ويبحثَ عن الوصفات المناسبة لتهدئة الخواطر، وطمأنة الرأي العام، وبثِّ الشعور بأن الأمور تسير على ما يُرام. وهذا بالضبط ما رأيناه يوم الأربعاء 28/09/2011، حيث خرج الناطق الرسمي باسم الحكومة، في أعقاب اجتماع مجلس الحكومة، ليخبر الصحافة بأن المجلس قد صادق على السحب النهائي لمشروع قانون المالية من غرفتي البرلمان، وأن ذلك حق الحكومة، وأن القانون يمهلها حتى يوم 22 أكتوبر القادم لتقديم مشروع القانون للبرلمان. أما عن سبب السحب الحقيقي، وعما راج من تعليقات وتعليلات وتكهنات في الموضوع، فلم يقل وزير الاتصال شيئا. وبعد، فمشهدُ حياتنا السياسية، في ظل الدولة المخزنية، تلخصه الصورة التالية: فاعلون سياسيون حقيقيون، يحركون الأدواتِ والدُّمى والصنائع من وراء الستار، ويأمرون ويوجهون ويتصرفون ويقررون، كما يشاؤون، بيدهم مطلقُ السلطات والصلاحيات، لا ينالهم صداعُ النقد والمعارضة والاحتجاج، ولا يخضعون لمراقبة ولا متابعة ولا محاسبة. في مقابل هؤلاء الفاعلين الحقيقيين، هناك مفعولاتٌ سياسية، تشمل مؤسسات الواجهة الديمقراطية، تمثل دورَ الفاعل السياسي، وتواجه الرأي العام على أنها هي "الحاكم"، "الآمر"، "الناهي"، وتتحمل مسؤولية أخطاء الفاعلين الحقيقيين، وتبحث عن المسوّغات والمبررات لسياساتهم وقراراتهم، مهما كانت هذه السياسات والقرارات. وقد أشرت سابقا، أن هذه المسرحية التي يمثل فيها هؤلاء "المفعولاتُ" السياسية دورَ الفاعل الحقيقي، وما هم بفاعل حقيقي، إنما تتم والممثلون واعون بأنهم ممثلون، وبأنهم واجهةٌ للديمقراطية المخزنية، وبأن من مهامهم منع ال"الضربات" أن تصل إلى الفاعل الحقيقي، كاتبِ السيناريو، وموزّعِ الأدوار، ومُحَدِّدِ الرواتب والامتيازات والجوائز والمكافآت. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. majdoub-abdelali.maktoobblog.com