يقول القوميون العرب إن القضية الامازيغية قضية مُفتعلة للتشويش على المكاسب التي حققوها في دول شمال أفريقيا خلال أزيد من ستة عقود من الاستقلال، وأنها قد تحوَّلت من مجرد مشكل داخلي إلى وسيلة لتصفية الحسابات بين دول المنطقة، ولا أدل على ذلك التلويح بها من طرف المغرب كسلاح هائل للضغط على الجزائر في حالة لم تتوقف عن التدخل في ملف الوحدة الترابية للمملكة، أي أنه في حالة لم تتراجع الجزائر عن دعم البُولِساريو فالمغرب سيُبادر بدوره إلى الدعم الفعلي، وليس فقط بالبيانات والبلاغات، لاستقلال منطقة القبائل. هذه كارثة للقوميين العرب لأنها، من جهة، تهديد مباشر لأدهى مشروع تخريبي صنعوه على الإطلاق لخلق العداوة بين شعوب المنطقة، أيْ مشروع البُولِساريو، و، من جهة أخرى، تطوُّر خطير سيُؤدي إلى إيقاظ الأمازيغ وهذا من شأنه، لامحالة، أن يُنهي تواجدهم في شمال أفريقيا، أي في وطن الأمازيغ. كل من يتعاطى السياسة في المغرب والجزائر يُدرك جيدا مدلول هذا التحليل، حتى محدودي الفهم منهم وهم كثيرون. بات واضحا، إذن، لدى الجميع أن السياسة الأمازيغية هي البديل الحقيقي للسياسة العروبية التي بلغت مداها ودخلت في أزمة تآكل ذاتي لا ينفع معها أيُّ إصلاح بل هدمها نهائيا هو الأجدى لمستقبل بلدان شمال أفريقيا. لقد تفوَّقت الأمازيغية سياسيا على القومية العروبية بالرغم من أن هذه الأخيرة احتكرت المؤسسات الرسمية والموارد على مدى أكثر من سبعين سنة. هذا التفوُّق أعاد التفاؤل للعمل السياسي، خاصة في المغرب، لأنه جعل اتمام بناء وحدته الترابية أمراً مُمْكِناً على أساس الأمازيغية. هذا مخرج لم يتخيَّله أحد لقضية الصحراء، لم يَدُر حتى في خِلْد الحسن الثاني. ما يُهمُّنا اليوم حقا ليس هو كيف التخلص من الإرث السياسي العروبي المُنهار؟ بل كيف نجعل المنظور السياسي الأمازيغي مُطبَّقا على أرض الواقع؟ مُلَخَّص المنظور السياسي الأمازيغي هو أن الحُكم المبني على الأيديولوجية القومية العربية هو حُكم جائر لأنه تسلُّطٌ على الأمازيغ وغَصبٌ لمُقدّراتهم المادية واللامادية، وبما أنه جائر فهُوَ مرفوض ويجب أن يتوَقَّف وإلاَّ سيُفضي بالمغرب إلى الخراب. معنى هذا الكلام هو أن المنظور السياسي الأمازيغي عبارة عن مجموعة مواقف من قضايا مُحَدَّدَة عاشها ويعيشها المغرب، أي أنه عبارة دالَّة على مضمون الهُوِّية السياسية للشعب المغربي، تلك الهوِّية التي يُحس بها ويُقاوم على أساسها كل ضغط أجنبي يحاول استعماره. لقد فَهِم القوميون العرب جيدا خطورة هذه النقطة بدليل تشبثهم الأعمى بحرفية أيديولوجيتهم، يحفظونها ويستشهدون بها في كل لحظة، يصفون محرِّرِيها بالزعماء المؤسسين، يَأتَمِنون على حفظها، لفظا ومعنى، مؤسسة تسمى جامعة الدول العربية، ويصفون كل اقتراح لتعديلها بالبدعة فيسارعون إلى تسفيه رأي القائل بها. وَلاؤُهُم أوَّلا وأخيرا للقومية العربية ولها وحدها. الوعي بهذه العقلية العروبية المُستبدة، وَهُوَ وعيٌ نابع بطبيعة الحال من المنظور السياسي الأمازيغي، أدَّى إلى الرغبة في تفكيك تلك العقلية على أعلى مستوى، أي المستوى الدستوري، فتمَّت دسترة الأمازيغية كلغة رسمية في المغرب. صفق الجميع لهذه الخطوة التاريخية لكن تبقى غير كافية إذْ يجب أن تتبعها خطوة ثانية أكثر أهمية وإلحاحاً وهي دسترة الأمازيغية كأساس للهُوِّية المغربية. هذه الخطوة هي الكفيلة والضَّامِنة لكي يتوقف الخراب الذي سبَّبَته القومية العربية على الهوِّية المغربية وعلى الوحدة الترابية للمملكة، بشرط أن تُصاحبها عملية تكثيف الإنفاق على الأمازيغية حتى تستطيع القفز، في أسرع وقت ممكن، من الأمية إلى التدوين، من القرية إلى المدينة. هذه ضرورة منطقية ومطلب واقعي وليس مجرد رغبة عاطفية. من يَنْفِيها ويتشبث بالقومية العربية ويدعو إلى العودة إلى أيام جمال عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد لابد له، منطقيا، أن يرفض الواقع، أن ينفي الحاصل، وأن يَستعيد ظروف الاستبداد والقهر، بالمعنى العام للكلمتين. أما إذا تخلَّى عن هذا المُلزَم المنطقي، وقَبِل ولو ببعض نتائج التطور السياسي (حركة 20 فبراير مثلا)، فإنه يلتحق حتما بأنصار الأمازيغية ويترك المجال لآخرين أكثر وفاءً منه لمنطق القومية العربية. لكن منذ الإطاحة بهم نهائيا منذ 2011، يجب أن نَعِي، من جهة، أن القوميون العرب سيستمرون في التواجد بكثرة في كل المجتمعات الأمازيغية بسبب انتشار التعليم النظامي المُعرَّب لعقود متتالية في تلك المجتمعات. ثم يجب، من جهة أخرى، الحذر منهم لأنهم من طينة الأشخاص الغَيْر المستقرين الغَيْر المندمجين، الأشخاص القلقون المُتبرِّمون من التطوُّر المُستمر والتغيُّر السريع، المُتخلفون عن الرَّكب، الكُسالى، الواهمون، بل الفاقدون لصوابهم. لا ضابط، إذن، لِهَؤُلاءِ سوى المنظور السياسي الأمازيغي بكل وسائله الترغيبية والترهيبية.