عن التعصيب مرة أخرى ما الذي أزعجكم؟ قلتم: إن الذي وقع هو أن الهالك ينتقل إلى ربه، ويترك البنت فيأتي العم من أقاصي القرية أو الجبل أو من هناك بعيدا، ويريد أن يأخذ نصيبه من سكن لا تملك غيره. وبالصراحة المعهودة عن أهل العلم: إن هذه النازلة مخوفة مرعبة. ولكن كيف نعالج هذه المأساة(حتى مع التسليم لكم بها)؟ ثم قلتم: لتجنب هذه الكارثة، يجب إلغاء التعصيب. هكذا اهتدى العقل إلى هذا المخرج. وتساءلنا ماذا تقصدون بالضبط؟ فإن التعصيب أنواع مذكورة في كتب الفقه، مذكورة في مدونة الأسرة التي يحتكم إليها المغاربة؟ ووجدنا تفسيرات الموقعين يخالف بعضها بعضا. وإذن فأنتم بحاجة إلى عريضة من مائة توقيع لمن يريد إلغاء التعصيب بالنفس، وعريضة ثانية لمن يريد إلغاء التعصيب مع الغير، مع أن التعصيب مع الغير تستفيد منه المرأة أساسا، وهو في صالحها دائما. ونحتاج إلى عريضة ثالثة من مائة توقيع لمن فهمه هو إلغاء التعصيب بالغير. وأما من فهم من العريضة جميع التعصيب فله أن يجمع مائة تناصره في إلغاء التعصيب جملة. هكذا تصورت تعليقا على العريضة التي جمعت أوزاعا من الفهوم، من خلال التفسيرات المتفاعلة مع القراء والكاتبين، ومن خلال الفهومات التي سبق أن أعلن البعض عن رأيه فيها قبل التوقيع. ماذا تقصدون؟؟؟ إن المنطق المختار من طرفكم بإلغاء التعصيب سيدخلنا في سرداب مائة توقيع معاكس للمقترح. لأنكم إذ قلتم إن البنت قد تضررت من العم وابن العم وإن نزل...فسيرى هؤلاء الذين تريدون إلغاءهم والتشطيب عليهم، سيرون أنفسهم متضررين، وسيناضلون بمائة توقيع ضدا على من يريد إلغاء حقهم. هذا هو منطقكم. المتضررون عليهم البحث عن الموقعين. ماذا تقصدون؟؟؟ إذا كان القصد إلغاء التعصيب لأن طرفا في نظركم متضرر منه، فهل إذا فتحتم هذا الباب لكم، سيكون بمقدوركم إحكام غلقه على من تضرر إعمالا منه لفكرتكم. هل ستمنعون المتضررين من توقيع العرائض للمطالبة بإبقاء ما كان على ما كان؟؟ بل، هل ستمنعون من يرى الميراث بالفرض يجلب الضرر له، أن يبحث عمن يشاركه في المضرة لإلغاء الإرث بالفرض. هذا هو المنطق الذي عولتم عليه، وهو أن الضرر يستوجب الإلغاء. وساعتها سنصبح ونمسي كل يوم على إلغاء وإبقاء. فلا التركة وزعت، ولا المتضرر وغير المتضرر قد استفاد. فما هو الحل؟ إن الحل عند العقلاء، هو: 1 إما إلغاء نظام الإرث الشرعي كليا، والبحث عن نظام آخر جديد يوفر الاطمئنان عليه من الجميع، وسنكون بحاجة إلى استفتاء شعبي لا عريضة مائة توقيع. وما أعتقد أن نتيجة الاستفتاء ستكون مع فكرة أصحاب عريضة إلغاء التعصيب المائة. 2 وإما أن نبقي على هذا النظام الإرثي الشرعي، ونصلح مشاكل الإرث المعروضة عليه، من خلال قواعده وكلياته ومقاصده...ساعتها ستجدون العلماء والفقهاء والعقلاء إلى جانبكم، وسيدلون بمقترحاتهم التي قد تكون نافعة في الباب، ويعجبكم نبوغ أهل الاسلام في البحث عن الحلول لأمتنا. الإرث الشرعي ليس قطع غيار من كان عنده مشكلة مع نظام الإرث الشرعي، فلينحه جانبا من تفكيره، وليقدم لنا نظاما لا يختطف منه جزئية من جزئياته تغريه. فليبدع وليجتهد بعيدا عنه وعن نسقه وكلياته وجزئياته، وسينظر المغاربة في اجتهاده وإبداعه، إما لقبوله، أو أن يكون مستعدا لنقده ونقضه. وعلى هذا الإبداع الجديد أن يجيب عن جميع الاحتمالات أو غالبها، ويبين لنا أن جميع العيوب والمشاكل قد حلت به، وليتريث من التقديم قبل أن تقذف في وجهه أمهات المشاكل. من عنده مشكلة مع نظام الإرث الشرعي فليسامحنا أن نطلب منه متأسفين أن لا يأخذ منه قطعا تعجبه، ويركب منها إلى جانب قطع أخرى من دين آخر، أو قوانين أخرى شيئا عجيبا، هو في الأخير مسخ، وقص ولصق، لا علاقة له بالإبداع وفتح أبواب التجديد والاجتهاد. فلا المسلمون يقبلون بالتعضية، ولا أهل الملل الأخرى يقبلون منك أن تتصرف في أنظمتهم بعمل العاضه، من الذين قال فيهم الحق سبحانه:" كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ". فليست الأنظمة وإن كانت مختلفة متباينة سوقا للمتلاشيات عندك، تختار منها القطع التي تعجبك. بل أبدع بعيدا عنها حتى نرفع القبعة لك. السياق التاريخي لنظام الإرث واعتمد في دفوعات العريضة لإلغاء التعصيب على أن آيات الإرث نزلت في سياق تاريخي. ويفهم من هذا أن جميع النصوص الشرعية وأحكامها، لها تاريخ، ونزلت في تاريخ، وهي محكومة بتاريخ. فيجب أن تستبدل بأحكام جديدة تخضع لتاريخنا الجديد المعاصر. وكل زمن إلا وسيجد أهله أنفسهم غير مقيدين بتلك الأحكام والنصوص، لأن ما رآه أصحاب العريضة اليوم تاريخانيا، لا يلزم من سيأتي بعدهم بعقد أو عقدين أو ثلاث.. واليوم عريضة على التعصيب لأنه من الأحكام التاريخانية، وغدا الفرائض فإن المناخ والتاريخ والجغرافية مشتركة معه. وإذن، لا معنى للدين، ولا لأحكامه، ولا لأبديته، ولا لأبدية القواعد والكليات والمقاصد. خصائص نظام الإرث في الاسلام بالقطع المجمع عليه بين طوائف أهل الاسلام وأئمته، أن نظام الإرث المقرر في القرآن الكريم نظام في دنيا الناس لا يوجد له نظير في الإتقان والعدالة البالغة، لما يتمتع به من خصائص ثلاثة، عرضها الحق سبحانه وتعالى على البشرية للتأكد منها، وبذل الجهد لبيان عدم صحتها إن كان كلامهم في الموضوع بالعلم وقواعده. وهذه الخصائص الثلاثة، هي: الأولى: العلم الثانية: الحكمة. الثالثة: الحلم وهي التي وردت في آيات المواريث: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾. ﴿وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾. ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. تأكيد الله عز وجل أن هذه القسمة قد تمت بعلم، وحكمة، وحلم. وتكرار العلم ثلاث مرات، كأنه تأكيد على أن أي قسمة أخرى قسمة جاهلة، وقسمة غير حكيمة، وغير حليمة. وها هي ذي أنظمة الإرث عند البشرية القديمة والمعاصرة. وها هي كل الدول ومنها غير الاسلامية، تعرف سنة الموت في أبنائها ورعاياها كل يوم. فما هو النظام الإرثي الذي تعمل به، ويتقاضى الناس عندنا في المحاكم؟ وعند المقارنة المنصفة، يحق لنا ولغيرنا أن يتساءل: أيهم بالعدلة والكرامة أحق؟ وأيهم يتمتع بالحكمة التي لا تنكرها الفطر السليمة؟ وأيهم يمتاز بالحلم على جميع الفئات من غير ظلم أو شطط؟ ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾. المشاكل دائمة مع الإنسان وما بقي إنسان ستبقى مشاكله، وما بقي على قيد الحياة اجتماع بشري إلا وستظهر إشكالات موضوعية أو بصناعة الانسان. فيكون مطالبا بإبداع الحلول لما نزل بالناس. ولذلك وجدنا الفقهاء قد انبروا لتشييد القواعد الإرثية التي يجب أن نفزع لها عند كل نازلة، لنضم ما شرد منها إليها، إبقاء على المنطق التشريعي التي تتحقق من ورائه خصائص نظام الإرث الثلاثة السابقة. وإذا رفض كل جيل جزء من نظام الإرث إرضاء لجهله، ظنا منه أنها حلول لمشاكله، فإن قادم الأجيال سيجدون أنفسهم أمام جاهلية الأهواء في التقسيم، كما عليه حال كثير من الدول الغربية اليوم، والتي وصل الحال عندها إلى الاعتراف القانوني بحق صاحب المال رجلا أو امرأة أن يتصرف في حر ماله وإن كانت الضيعة ماحقة بعائلته وزوجه. فيوصي بجميع ماله لصديقه أو صديقته، أو لهيئة أو جمعية أو حتى حيوانا من الحيوانات. فتقبل بعض هذه الدول بهذا دون أن تنكره. ولها في ذلك مستند على قيمة الحرية وغيرها من القيم المعتمدة. هل خلا نظام الإرث من مشاكل الإرث يوما من الأيام؟ مباشرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بدأت مشاكل الإرث تظهر للجيل الفريد، فلم نسمع أن أحدا منهم تبرم من نظام الإرث الشرعي بسبب مشاكله، وإنما فهموا أن للإرث القرآني: بقواعده، ومقاصده، وشروطه، وموانعه...القدرة على مواجهة المستجدات التي ظهرت مشاكل حقيقية. فقرروا إعمال هذا النظام في المشاكل التي عرضت، وأنتجوا بناء على هذا النظام الرباني الإبداع في الحلول. لقد كان الجيل الفريد يكفيهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ما يأتي به الناس من نوازلهم. وبعد وفاته نهض أعلام الصحابة بالمهمة بناء وانطلاقا من ذلكم النسق الذي رأوا فيه الكمال. لما ظهرت مشاكل الإرث، قام الصحابة يعتصمون بنظام الإرث لحل مشكلاتهم. نذكر من هذه المشاكل: المثال الأول: المشركة: قضى الصحابة فيها بحرمان الأشقاء وتوريث الإخوة لأم مع الزوج والأم، إعمالا للقاعدة: ألحقوا الفرائض بأهلها...وانصرف المعنيون دون احتجاج. ثم جاءت نازلة وفاة مثلها، هلك فيه هالك تاركا زوجا وأما وإخوة لأم وأشقاء، فأعملوا الحل فيها مثل النازلة السالفة. غير أن الأشقاء احتجوا على القسمة، واصفين الهالك بأنه حمار أو حجر ملقى في اليم، فأين هو احترام المنطق التشريعي الإرثي في الحرمان؟؟ افرض أن أبانا حمارا لا اعتبار له وبه، فأسقطه يا أمير المؤمنين، واستحضر أن الأم التي ورث الإخوة من أمنا بها نشترك فيها جميعا، فهي أمهم وأمنا، بها ورثوا، فيجب أن نرث نحن بها أيضا. قالوا: فإذا لم ينفعنا الأب، ففلا ينبغي أن يضرنا". وأخذ الصحابة هذه المشكلة، وهذا الاحتجاج في الاعتبار. وقدموا الحلول، ومنها حل عمر بن الخطاب بالتشريك والذي مال إليه غالب الصحابة. المثال الثاني: ميراث الجد والإخوة: والتي من مشاكله أن قال الفاروق: سلوني عن عضلكم(أي مشاكلكم العويصة)، واتركونا من الجد لا حياه الله ولا بياه". وبمثله يروى القول عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه قال:" سلونا عن عضلكم، واتركونا من الجد، لا حياه الله ولا بياه". ومنها: هل الجد أب أم لا؟ المثال الثالث: الشواذ من مسائل الإرث: وهي مما اعترض الأوائل من مشاكل الإرث فتكلموا فيها، وكان كلامهم الاجتهادي قد تيسرت منه حلولا وليس حلا واحدا. وغيرها من المشكلات التي دفعت أهل العلم منذ القديم إلى الوقوف عند المنطق التشريعي لنظام الإرث، ثم الانصراف بعد إحكامه لحل هذه المشاكل على وفقه. ولم يؤثر عن أحد منهم أنه استسلم لهذه المشاكل لرفض نظام الإرث كليا أو جزئيا. بل انطلقوا في الإبداع من خلال هذا النظام الأجوبة التي تقنع العقول، وتطمئن القلوب إلى مخرجاتها. وكان ذلك الاجتهاد منهم هو الذي جعل نظام الإرث بقواعده وكلياته ومقاصده هو الحاكم الذي يحتكم إليه. فهذا فرق ما بين من يهجم على نظام الإرث بشبهة أو شبهات، أو مشكلة أو مشكلات، ومن يجرد الحلول للمشكل من خلال نظام الإرث، ويفري الشبهات ببيان إعجاز هذا النظام. مدارس الإرث: ومن الإبداع لمواجهة هذه المشاكل ظهرت مدارس علمية إرثية مبكرة. فظهرت الأجوبة للمشاكل من خلال ما عرف في مجال الفرائض: بالمدارس الإرثية. لقد كان المنطق التشريعي لنظام الإرث هو الذي أبدع لنا مدارس في حل هذه المشاكل، حيث نجد العلماء يذكرون عند تعرضهم لمشاكل الإرث، بالقول: ** هذه المسألة حلها على مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه. ** هذه المسألة حلها على مذهب ابن عباس رضي الله عنه. ** هذه المسألة حلها على مذهب معاذ بن جبل رضي الله عنه. ** هذه المسألة حلها على مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه. إلى آخر المدارس الفرضية التي استظلت جميعها تحت نظام الإرث في القرآن الكريم، والذي أكدت السنة القولية أو العملية للرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه الحلول في الفقه المقارن الإرثي لا تزال لم تحض بالتنقيب والبحث والتجويد، للاستفادة منها في باب المشكلات الإرثية. هل نناقش مشاكل الإرث؟ لا ينبغي أن يفهم من سابق كلامنا أننا نريد إيصاد الباب أمام مناقشة نظام الإرث ومشاكله، أو أي نظام من أنظمة الاسلام في أي مجال. كلا، وألف كلا أن يكون ذلك غرضنا، أو أن نذهب إلى هذا المذهب. فمرحبا بالمناقشة على مستويين: الأول: من لم يعترف للإسلام بريادة وأحقيته في مجال توزيع مال الهالك، فليكن ذلك عن هذا النظام وعن الأنظمة الموجودة بين أيدي الناس. بل ومن آنس في نفسه أن يبدع لنا نظاما يعتقد فيه العدالة فليظهره لنا. وسنكون سعداء إذا قدم لنا وللبشرية ما لا تنتقضه وتنقده. الثاني: فإن كان الإيمان بتميز نظام الإرث. فيلزم عنه أن ما تميز به من قواعد ومقاصد، وجب أن تكون المعيار في الفصل بين كل ما يكون من المشكلات. وغير هذا الصنيع، فإنه من إطلاق الكلام العاري عن اجتهاد منشئ أو مؤسس. وهو كلام غير منتج، والسلام. الخلاصة وعندما عرضت على الصحابة والأئمة هذه المشاكل، كانت هذه الخصائص جامعة بينهم حتى وإن اختلفت الحلول المقدمة. إن أي نظام في الكون، وفي أي مجال، إذا رد بسبب المشاكل التي تعترض سبيله بسبب تعقيدات الناس وتصرفاتهم، فإن ذلك معناه الفوضى واللاستقرار. وإذن، يجب التساؤل: هل هذا النظام موفق وسديد؟ أم لا؟ وعند الجواب بالإيجاب، فالمشكلة إذن في مشاكل التطبيق وتطبيقات، وفي مشاكل حقيقية تحتاج إلى إعمال الفكر والنظر من طرف المجتهدين، لإيجاد الملائم من الحلول للمشكلة. ولا أنس أن أؤكد أنه إلى جانب هؤلاء المعادون لنظام الإرث، توجد طائفة مدافعة عنه بجهل، وانتصار له بحميه، فتجيب عن عقد مشاكله بجهل، فتزيد في تعقيد المشكلة وهي تتدثر بالانتصار للدين، وليست مساهمة في الحل بما تقوم به. وذلك ما قد نعرض له في القضايا الآتية إن شاء الله تعالى. *أستاذ التعليم العالي للدراسات الاسلامية/ الدار البيضاء