في السبعينات صدر كتاب بعنوان "معالم في الطريق" للكاتب الإسلامي المعروف سيد قطب. وفي أجواء من الصراع السياسي، دفع الرجل حياته ثمناً لأفكاره. والمهم أن الرجل في الخمسينات كان يحمل توجهاً إنسانياً مفتوحاً ظهر في كتابات من نوع "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و"السلام العالمي والإسلام"، وكم تمنيت أن يكون قد طوَّر أفكاره في اتجاه "السلام العالمي"، بدل طروحاته حول "الجهاد" في كتابه "معالم في الطريق"، أو التفسير الموسع الأخير "في ظلال القرآن" في الأجزاء 11 الأولى منه، حيث ضمَّن التفسير أشد آراءه تطرفاً حينما استفاض في الحديث في تفسير سورة التوبة وقال إنه كان عنده شيء من غبش الرؤية ثم توضحت له الأمور. والذي حصل أن الرؤية عنده لم تتوضح بل زادت غبشا. وقاعدته الصلبة الواعية انتقلت من مصر إلى تورا بورا. وما كنا نتحدث عنه قبل عشرين سنة سبق كل تشاؤمنا سوادا فلم يعد العنف محليا، بل تحول إلى وباء عالمي مثل انتشار أمراض الفيروسات أمثال السارز والايبولا والأيدز. ومما ذهب إليه سيد قطب، رحمه الله، في كتاباته أن المسلمين في مكة لم يستخدموا القوة المسلحة لاعتبارات محلية ذكرها في التفسير وكتابه "معالم في الطريق" على حد سواء، حيث إن كتاب المعالم احتوى فصلين سياسيين خطيرين عن معنى التوحيد والجهاد. وقال إن جيل الصحابة لم يمد يده إلى السلاح لقتال قريش لأسباب لها علاقة بالمحيط المحلي ولم ينتبه إلى أنها استراتيجية نبوية، وأن الجهاد هو آلة بيد دولة راشدية، فلا يصح أن يستخدمها فرد أو جماعة أو حزب وتنظيم، ومما ذكر أن العربي اعتاد الحمية والثأر فأراد الإسلام تدريب أتباعه على ضبط النفس، أو أنه لم يشرع خوفاً من حدوث مقتلة عائلية، أو أن آل طالب كانوا يحمون الرسول ص، أو أن العرب كانت تأخذهم الحمية لرؤية رجل يظلم، فهل يمكن رؤية هذا في مجتمعات حديثة أكلها الذل والخضوع؟ وأتذكر أنه شرح ربما ستة أسباب لذلك. والمهم وأنا أذكر هذه الأشياء، أن الأمور وصلت إلى حافة خطيرة بحيث تهدد كل بلد بانفجار، ولذا كان من الضروري الوقوف أمام الجذور الثقافية لظاهرة العنف. وعندما كتب قطب كتابه عن "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أو كتابه الرائع الثاني عن "السلام العالمي والإسلام" بدت عليه المسحة الإنسانية والانفتاح، مما يذكر بالفيلسوف ايراسموس، ولو تابع رحلته الفكرية في الاتجاه نفسه لترك بصماته على الفكر الإسلامي المعاصر باعتبار أن الرجل كان له رصيده بين الشباب الإسلامي وما يزال، ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وكتابه "الظلال" مازال يطبع ويطبع بآلاف لا تحصى من النسخ، ولكن لم يتجرأ أحد بعد على تسليط الضوء على المفاهيم الخطيرة والمركزة والمكثفة من تلك التي يحتويها كتاب المعالم أو تفسير الظلال في أجزائه ال 11 الأولى . وأتذكر فتحي رضوان، المفكر المصري، عندما التقيت به قبل أكثر من عشرين سنة في مصر، أنه قال لي إن حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، قال له إنه في طريقه إلى الانسحاب من العمل السياسي، وإنه يريد تحويل نشاط الجماعة إلى بستان أخلاقي لتربية الشباب على التقوى والخلق الحسن، وأما العمل السياسي فهذا شيء آخر. وهذا البستان الأخلاقي سوف يرفد العمل السياسي بعناصر نظيفة، ولكن ليس هدفه العمل السياسي. وأذكر عبد الحليم أبو شقة، المفكر المصري، رحمه الله، عندما كان يخبرني أثناء زياراته المتكررة لنا في ألمانيا بأن "فكر المعالم لم يتنبه أحد إلى خطورة ما جاء فيه، وفيه جرعات مكثفة خطيرة من التطرف وتحتاج إلى من يعدلها"،. ولم يكن يخطر في بال أبو شقة أن الإرهاب سوف يصبح مشكلة كونية، وأن الاتجاه المسلح الإسلامي سيكون له جنود على قوس الكرة الأرضية، وأن التفجيرات سوق تضرب كل مكان، سواء جزيرة بالي في أندنوسيا أو قطارات مدريد في إسبانيا أو معبد يهودي في تونس أو الاستيلاء على مسرح روسي في موسكو واحتجاز 800 رهينة. وما حدث لسيد قطب أنه عندما أعدم أخذت أفكاره طابع القدسية فخدمه جمال عبد الناصر أكثر ونشر أفكاره بقوة وزخم من حيث أراد القضاء عليها. وهي لعبة سياسية خطيرة. عندما يموت الإنسان من أجل آرائه، فإن أفكاره تأخذ طابع القدسية وتأثر الناس البليغ بها. وفق سيكولوجية (المظلوم) كما نعرف عن المسيح والحسين، فما زال المسيحيون يحملون الصليب الموهوم كل عام إلى جبل (الجلجثة) وتخرج هوليود فيلما جديدا في ربيع 2004 عن ساعات العذاب الاثنتي عشر الأخيرة مغموسة بالدم والألم. ويضرب الشيعة أنفسهم كل محرم بالسواطير والسلاسل. وهو أمر لم يقل به المسيح ولا الحسين، وإنما نصوص فهموها على نهج خاص "اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم". وقطب نفسه يقول إن كلماتنا تبقى عرائس من شمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة. وهذا خلط شديد بين صحة الفكرة وموت صاحبها، فالشيوعيون مات منهم الكثير من أجل أفكارهم وكذلك القوميون وأخلاط شتى من الناس، فلا يعقل أن تكون فكرة ما صائبة لأن صاحبها نام في الحبس من أجلها عشرين سنة أو مات في سبيلها، فيجب الفصل بحدة بين تضحية صاحبها وبين صحة أفكاره. ولكن لا يتنبه أحد إلى الأثر السيكولوجي لانتشار أفكار رجل ما. وأعرف أن كلامي هذا سيلقى معارضة شديدة ولكن لا بد من الحديث فيه لأن الأمور بلغت حدا خطيرا من تفاقم ظاهرة التطرف والمفهوم المغلوط للجهاد. وانتهى إلى ما قاله سيد قطب نفسه: "إن أفكارنا تبقى عرائس من شمع فإذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة؟" وبعد أن أصبح سيد قطب "شهيداً" أصبح "كائناً متعالياً" فوق النقد لا يمازجه النقص ولا يقترب منه الخطأ ولا يلمس بمراجعة. وطبع تفسيره "في ظلال القرآن" وما يزال يطبع بعشرات آلاف النسخ العادية والمسروقة والمصورة. ومعها جرعة سمية مكثفة من مفاهيم سيد قطب على أنها شروحات الرحمن الرحيم. وإذا التصقت الأفكار بذي العزة والجلال أخذت حصانة خاصة. فهو يقول: "قال الله" وخطباء المساجد يقولون: "قال الله"؛ فمن يستطيع مواجهة الله؟ وهذه المشكلة تكرر نفسها مع الفكر الديني المنحرف في كل مكان حيث يزعق أحدهم قال الله؟ ولا يخطر في بالنا كما كان يقول الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين إن اللغة لعبة شطرنج وإن الكلمات بيدق وفيل وحصان وقلعة. وعندما يقول أحدهم فكرة فهي "مفهوم" تولد من عقل تفاعل مع نص بإضاءة خاصة ووفق أدوات معرفية لغوية وتاريخية وثقافية محدودة، وقام "بانتقاء" ما يناسب تلك الخلفية الثقافية، وهو بهذا قول لم يقل به "الله"، بل أقرب أن يكون قولا قاله البشر من انعكاس عقل على النص لاقتناص قدر من الحقيقة، وهي عملية محفوفة بالمخاطر قد يقترب صاحبها من الحقيقة بقدر وقد يبتعد عنها بأميال، ومقدار درجة من الانحراف تبعد صاحبها ألف ميل عن المنزل، كما يقول الفيلسوف محمد إقبال (لحظة إن تغفل يا صاحبي ألف ميل زاد بعد المنزل). وهنا لم يتحدث الله بل البشر المختبئون خلف النصوص. وأهم شيء يجب اللجوء إليه في هذه اللعبة (اللغوية) أن نفك البشر عن النصوص فنقول لأحدهم لم يقل الله بل قلت أنت، وهي مفاهيمك ونظرتك للأشياء، استندت بها إلى نص مقتطع حسب رؤيتك للمشاكل، ولا حرج. وهي عملية محترمة، ولكن هذا هو (فهمك) للنص ونحن نذكرك بالمناظرة القديمة التي قال فيها أحدهم للآخر حينما دعاه إلى المناظرة: "أناظرك على عشر شروط ..."، ثم ذكر أحدهم: "ولا تجوز لنفسك تفسير آية على مذهبك إلا جوزت لي أن أفسرها على مذهبي، وأن تنقاد للتعارف وتؤثر التصادق، وأن يكون بغية كل منا أن يكون الحق صاحبه ولو كان على لسان مناظره". وهنا يصبح النص متعاليا ويصبح النقاش بشريا ولا نصبح في مواجهة الله، بل بشر يناظرون بشرا. وتجلية هذه النقطة في غاية الأهمية لفك الاشتباك وسحب البساط من تحت أقدام المتشددين. وبالطبع هم لن يرضوا بشروط اللعبة الجديدة. ولكن من المهم أن نستوعب نحن هذه اللعبة اللغوية ونلعب حسب قواعدها، حتى يمكن أن نصل إلى شاطئ السلامة أو ما يخيل إلينا أنه كذلك. ولكن أهم ما فيه أننا حيدنا المطلق والمتعالي وبدأت عقولنا بالنبض. وهو ما حصل للفيلسوف كانط حينما تلقى الصدمة العقلية من مصدرين: الأول جان جاك روسو في كتابه "التربية الاستقلالية" في قصة "أيميلي"، والثانية من كتاب دفيد هيوم حول الطبيعة الإنسانية، فيقول إنه استيقظ من رقدته العقائدية ولم يرتح حتى اكتشف نظام العقل الفعال الذي أطلق عليه المقولات العقلية (Categorical Imperative)، بمعنى أن العقل له قانونه الخاص في تنظيم الحواس الخام إلى "مدركات حسية" من خلال مفاهيم الزمان والمكان والعلية، ثم ينتقل من المدركات الحسية ليولد الأفكار وهذه لا علاقة لها بالتجربة والمعلومات. والدليل على ذلك أن البقرة ترى الوجود كما نراه ولكن لا يتشكل عندها أفكارا كما يحصل عندنا. وهذه الفكرة خطرت لي في الريف الألماني أنا شخصيا حينما وصلت إلى هذه الفكرة التي بلورها كانط على نحو علمي في كتابه "نقد العقل الخالص"، فهو لم يرد أن يشطب على العقل بل أن يرينا كيف يعمل الدماغ البشري كآلة. وأما كتاب روسو، فقد أثر عليه إلى درجة أنه تأخر في خروجه اليومي إلى نزهة الفيلسوف وكانت من الدقة أن الناس كانوا يربطون ساعاتهم على نزهته فأدخلت أفكار روس الخلل عليها. وإن من البيان لسحرا. وكما يقول نيتشه إن أردت أن ترتاح فاعتقد، وإن أردت أن تكون من حواريي الحقيقة فاسأل؟ والسؤال كما يقول سقراط يفتح الباب لجواب وسؤالين جديدين في زاوية لا تكف عن الاتساع، فهذا هو الفرق بين العقل النقلي والنقدي. * مفكر سوري المولد كندي الجنسية