الكثير من المفاهيم الدارجة عندنا تحتاج إلى إعادة بناء مثل الشهادة والاستشهاد، والردة، والمحرم، والخلافة، وتحريم الموسيقى والصور والتماثيل، والنقد الذاتي، والجهاد، والنسخ، ولباس المرأة والحجاب، وولي الأمر، والحاكمية، وتفسير القرآن والولاء،.. بكلمة مختصرة، العالم الإسلامي في معظمه يحتاج إلى إعادة تصحيح المفاهيم حتى ينشط من الشلل الذي يعاني منه. وأنا في كتابي في جريدة «المساء» المغربية، أحاول تناول الأمراض المتشابهة في الثقافة الإسلامية من حلكو والناصرية حتى آسفي وسميمو لفك استعصاء أمراض الثقافة المشتركة.. ومن هذه المفاهيم الخطيرة معنى الشهادة واختلاطها بالقتل، ويجب ألا نتعجب حين نسمع عن الشهيدة سوزان الراقصة التي قتلها عشيقها المصري الثري بسكين وذبح، وبذلك تضيع المفاهيم العظيمة في أوحال الثقافة المتردية.. فليس هناك من كلمة تهز الوجدان مثل الشهيد. ولا توجد كلمة أسيء استخدامها مثل كلمة الشهيد. ولا توجد كلمة غامضة مثل الشهيد. ولا توجد كلمة مضللة مثل كلمة الشهيد. ولجرس هذه الكلمة الساحر عند الناس، فعلى الأنظمة الشمولية تجنيد هذه الكلمة في الحرام، فيصبح كل من هب ودب وقتل في صراعات شيطانية، لقضية ودون قضية، أن يتحول إلى شهيد يدخل الجنة. مع هذا، فلا توجد آية واحدة في القرآن، تفيد بأن معنى الشهادة هو القتل والقتال، بل بمعنى مختلف تماما. وأنا شخصيا شدهت حين وصلت إلى هذه الحقيقة، فقلت لا بد من عرضها على الناس، مع كل قناعتي بأنها ستثير غضبهم أكثر من استحسانهم، ذلك أن سيطرة المفاهيم على عقول الناس تحول القرآن إلى قيمة محنطة، ويبرز قرآن جديد من المفاهيم المسيطرة، فيحكم سلوكَ الناس اليومي، والويل لمن شكك في قرآن مزور؟ أما في القرآن الصحيح، فقد جاءت مفردات هذه الكلمة من الشهيد والشهادة 82 مرة، ولم يكن مرة واحدة، في ما يريده ويكرره الناس، أن كلمة شهيد تعني القتل! وما زلت أذكر من الحقبة الناصرية، حين كنت طالباً في المرحلة المتوسطة، وكان لا يمر اليوم واليوم إلا وخرجنا بمظاهرة حاشدة، مسيرة في عيون المخابرات، نهتف بحياة شهيد ما من الشيوعيين والقوميين وانتهاء بصانعي الانقلابات. ولأن كلمة شهيد لها رصيدها الجماهيري، فقد وظفت المخابرات المقدس بالمدنس. وفي يوم، كانت المظاهرة للهتاف بحياة «الشهيد» (باتريس لومومبا) وكان الناس يتهامسون من يكون هذا الرجل؟ وفي يومٍ، مررت على قبر المجرم (عبد الكريم الجندي) في السلمية، وكان نجمه يوما قد سطع في سماء سوريا المظلم، كجلاد ورئيس مخابرات ثوري، فقرأت فوق قبره «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون؟». وكان الرجل المذكور يحب ضرب كرام الناس بنعله (الشاروخ) على وجوههم، ولم ينجو أحد من يده بمن فيهم النساء. وفي يوم، وقع تحت يده رجل دين مسيحي، فقال له: أعلم أن الفاتيكان سيتدخل لإنقاذك، ولكنك ستمضي عندي يومين، هما في عمر الزمن سنتان، ثم أمر بحبسه في دورة المياه؟ وفي 22 يوليوز من عام 2003م، انتهت حياة (قصي وعدي) في الموصل قتلاً، كما قتلا الكثير من الناس، فذاقا من نفس الكأس التي تجرعها البؤساء كأسا دهاقا. وأتبعوا في هذه لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين. وفي بلد عربي اجتمع الناس لتلقي العزاء على سيدي شباب أهل الجنة السبطين الكريمين عدي وقصي؟ ولا يستبعد أن تمتلئ كتب التاريخ بقصة (شهادة) البطلين وهما يقارعان العلوج الأمريكيين، كما اعتدنا على الكذب في كتب التاريخ التي تدرس في المناهج العربية حتى اليوم للطلبة المنكوبين. وفي يوم، انتشرت في العالم العربي موضة تلقيب أبنائهم بأسماء لا علاقة لها بالبيئة، وهكذا فمنهم من سمى ابنه (ستالين) وآخر ابنته (جيفارا) وثالث (سيد قطب)، والأولاد يحملون أوزارا غير مسؤولين عنها. وعندما قتل (آرنستو تشي غيفارا) الطبيب الأرجنتيني في غابات بوليفيا، اعتبره الثوريون العرب سيد الشهداء مثل حمزة بن عبد المطلب. وعندما يفجر الفلسطيني نفسه في حافلة، فيقْتِل ويُقْتَل، يعتبر ذلك عند مفتي الجمهورية شهادة في سبيل الله، لا يقترب منها شهداء القادسية واليرموك، أما اليهود فيسمون الفاعل إرهابياً. وفي يوم، اعتبرت روما (سبارتاكوس) إرهابيا، فصلبته مع ستة آلاف من أتباعه، على طول الطريق إلى روما، وهو اليوم في السينما بطل تاريخي. وما يحكم على عملٍ ما ليس الفتاوى والنصوصُ بل العواقب. وقل كلٌّ متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى. وعندما يتصارع فريقان فيقدمان (قرابين) بشرية، يعتبر القتيل في عين أهله شهيدا، وفي أعين خصومه مجرما. والفرق بين (الجريمة) و(الجهاد) شعرة. كما أن الفرق بين (الزنا) و(الاغتصاب) و(الزواج) أقل من شعرة، فكلها ممارسة عمل جنسي، ولكن الأول يقوم على (السرية)، والثاني على (الإكراه)، والثالث على (الرضى والقبول والإشهار). وعندما جاهد (الخوارج) لم يكن عملهم جهادا. وإذا أراد الجراح استئصال زائدة دودية في سوق الخضر، فإنه يعد قصاباً ولو كان سيد الجراحين، فهذه الفروق لا يستوعبها الشباب المتحمس، وهو نصف معذور، ولكن أئمة الفكر المنحرف هم الذين يسقون عقول الشباب بهذه السموم. وليس هناك من أمر أكثر إثارة من (الجهاد والاستشهاد)، كما لا يوجد موضوع أكثر خطرا وضبابية منهما. وفي يوم، كان أحدهم يكلمني فقال: ألا تقرأ قوله تعالى: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين»؟ قلت له ألا تقرأ قوله تعالى: «ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة»؟، وقوله تعالى: «والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»؟ والقرآن حينما يقرؤه أحدنا، لا يجد في نهايته فهرساً للموضوعات، مثل القتال والشهادة والوضوء والتيمم والحيض والحلف، كما لا توجد شروط الجهاد بالأسئلة الخمسة المحورية: متى؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ بل يجد آيات متناثرة مثل النجوم في قبة السماء. وإذا كنا في نجوم القطب نصل بينها بخط، فنعرف الشمال من الجنوب ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر، كذلك الحال في آيات القرآن المنجمة. ورؤية فراغية بنيوية من هذا النوع مفيدة في فهم آيات القرآن. والمشكلة مضاعفة في معالجة نظام الفكر، فالعقلية النقلية هنا تواجه العقلية النقدية، وهي مشكلة أعترف بأنها ليست سهلة الحل، ولكن لا بد من خوض غمارها واقتحام لججها. وابن لادن اعتبر أن تفجير أبراج نيويورك عين الجهاد وقمة الشهادة، وضرب الكفار في دار الحرب حيث يستباح كل شيء، وأن العملية كانت ضد قارون وهامان وفرعون، فأما قارون فخر في صورة برجين، وأما هامان فصفع بالبنتاغون، وأما فرعون فنجا ببدنه ليكون لمن خلفه آية. ويمكن لكل فريق يتصارع سياسيا مع آخر أن يجند كل النصوص النقلية والعقلية لصالحه. في الوقت الذي اعتبرت فيه أمريكا أنها جريمة نكراء قام بها انتحاريون مجرمون. وكل الضجة كانت حول ماذا حصل ولكن لم يشر أحد بأصبعه إلى جدل الأحداث.. لماذا حدث ما حدث؟ ولجنة كيسنجر لم تتابع طريقها من أجل هذا السؤال الحرج. وكما يقول (نعوم تشومسكي)، الناقد الأمريكي، إن قرصاناً ألقي القبض عليه في زمن الإسكندر، فبدأ في توبيخه كيف يزعج البحر؟ قال القرصان: أنا أنهب في البحر بسفينة صغيرة فأسمى قرصاناً، أما أنت فتنهب شعوب العالم بأساطيل فتسمى إمبراطورا؟! وعندما انتشرت مفاهيم (الجاهلية) من فكر (سيد قطب) في الستينيات من القرن العشرين، اعتبر البعض أن احترام (إشارات المرور) هو احترام الجاهلية، وأن خرق أنظمة المرور هو عين التقوى، لأنه تمزيق شبكة المجتمع الجاهلي، وعلى المسلم الذي يعيش في مجتمع جاهلي (عضوياً) ويحاربه فكريا أن يتحول إلى الجانب العملي، في تدمير مرافق هذا المجتمع الجاهلي؟ ومع أن القرآن يذكر كلمة (الشهادة) ومرادفاتها 82 مرة (شهيد 36 مرة والشهداء 20 مرة والشهادة 26 مرة) فإنها لم تذكر مرة واحدة بصدد القتل والموت، بل بثلاثة معانٍ مختلفة: منها الحضور الواعي، (أو ألقى السمع وهو شهيد) (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا) (والسماء ذات البروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود) (والله على كل شيء شهيد) (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) (عالم الغيب والشهادة) (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين). أو تأتي بمعنى الإقرار والاعتراف (قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا). أو الجمع بين الأمرين (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا بلى شهدنا. أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين). وبهذا تكون (الشهادة) ليس ما يعنيه الناس من الموت في سبيل الله قتلا حصرا بل على نحو أدق حياة وحضورا بالتمثيل المميز (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ومنه جاءت كلمة (الشاهد) في المحكمة، لأنه إنسان عاين الواقعة بدقة، بأذن واعية وألقى السمع وهو شهيد، فهو يدلي (بشهادته) أي يفيد بما حدث صدقا وعدلا. و(الشهادة) بذلك، أي الدخول في الإسلام والنطق بالشهادتين، هي الاعتراف والإقرار بصدق ووعي بأن (لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله). ولكن السياسيين يطلون أصنامهم بدهانات إسلامية فيخطئون مرتين: أولاً بنسبة ما للألفاظ ما ليس فيها، وثانياً بالخطأ في ما يريد القرآن من هذا اللفظ فيوظفونه في القتل والإجرام. وهذا الكلام يفيدنا في أن نرجع فنحرِّر المعاني، كما يقول (ابن خلدون) ثم نكسي المعاني ثوب الألفاظ. ونحن في العالم العربي مغرمون بالألفاظ، فنضيع في غبار الكلمات، فيخسر الواقع حقيقة، ويكسب القاموس لفظة كما يقول (النيهوم)، فنسمي الشهيد من يقتل في سبيل قضية وبدون قضية. والشهادة بمعنى الحضور الواعي للعالم، والإدلاء بالرأي شيء لا علاقة له بالإرهاب والقتل والجريمة. ستكتب شهادتهم ويسألون؟ وتحت هذا المفهوم قد يدخل من يموت صادقا، في سبيل قضية إنسانية كبرى، وهنا يؤدي دور الإقرار والاعتراف لصدقه، وتعلقه بفكرته والإخلاص لها، بغض النظر عن صحة الفكرة. وليس هناك من صدق أكبر من أن يقدم الإنسان حياته في سبيل قضية كبيرة. وقد يقتل الناس من أجل عفونات كثيرة من الصراع القومي والعرقي والطبقي والفئوي. ويحصد الناس حصدا في الحروب الأهلية مثل الذباب، كما حدث في لبنان ورواندا والجزائر والعراق. كما قد يموت أناس من أجل حفنة دولارات، أو مصالح تافهة، أو صراع على أرض. ولا تساوي كل الأرض سفك دم إنسان واحد. ولا توجد أرض مقدسة في نظر الإسلام، فالقدسية لا تخلع على التراب، ولكنها تستمد قدسيتها من (القدوس) السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون. وهنا يجب التفريق بين (الموت) من أجل فكرة و(صدق) تلك الفكرة، فليس كل من يموت من أجل فكرة يعني تلقائياً (صحة الفكرة). ومات الكثير من الشيوعيين والبعثيين والفاشيين والنازيين والملحدين من أجل أفكارهم، فلا يعني هذا أن الشيوعية كبد الحقيقة، أو أن الفاشية منتهى التاريخ، والبعثية سدرة المنتهى وشجرة التقوى. وهناك أناس تافهون ماتوا من أجل قضايا تافهة. وتذكر صحفية مصرية، راقبت المشنوقين على يد (العشماوي)، أن أثبت الناس جنانا كان تاجر مخدرات، دخَّن سيجاره قبل الموت، وضحك لمن حوله، وقال: هل هي سوى موتة واحدة، وهي موتتي، وكل الناس تموت، ولا يفر أحد من الموت، وسنموت على كل حال بشكل وآخر. فعاش مجرما ومات فيلسوفا. وأمام هذه الحقيقة، عندما كان الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) يسأل: هل عندك استعداد أن تموت من أجل أفكارك؟ كان جوابه: لا .. لأنني قد أكون مخطئاً فأموت عبثا؟!. وفي الفلسفة المسيحية، ينقل الإنجيل في أعمال الرسل أن البذرة حتى تتحول إلى شجرة يجب أن تدفن. وعلى ما يبدو أن الأفكار تخلد وتنتشر بهذه الطريقة. وهي تفسر طرفاً من الآية، أن من يقتل في سبيل الله حي عند الله بطريقة وأخرى. ومن يموت من أجل أفكاره يدفع الحياة في أفكاره. وكسبت أفكار سيد قطب طابع القدسية بعد شنقه، فخدمه عبد الناصر أكثر مما آذاه، فنشر أفكاره من حيث أراد القضاء عليها. والرجلان الآن بين يدي رب العزة والجلال يختصمان. ومن ظلمات الديكتاتورية والظلم، ولدت ظاهرة (الظواهري) فانتقل إلى أفغانستان، فكان عبد الناصر مثل الجراح الخايب، الذي فتح بالسكين على السرطان، فلم يستأصله، بل نشر السرطان بأشد مما كان. ونفس سيد قطب يقول إن «كلماتنا تبقى عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة». ولكن الكلمات منها الصحيح ومنها القاتل، فإذا عاد فرانكنشتاين إلى الحياة، تعدى أن يكون مزحة ثقيلة. ومع إعدام مروان حديد في سوريا غرق البلد في حرب شبه أهلية. ومع محاولة اغتيال حافظ الأسد، دفع ألف شاب حياتهم صبرا في سجن تدمر في ليلة واحدة. ومحاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية دمرت الإخوان تدميرا، كما دمر هتلر الشيوعيين بعد حرق الرايخستاغ. فهذا قانون، وكل كتاب ممنوع ينتشر أكثر. وكل محظور مرغوب. وكل أشجار الجنة لم تكن كافية لآدم، فذهب إلى الشجرة الوحيدة المحرمة، فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما. وليس ألذ من اتصال جنسي في الحرام. وترك الملك إدوارد الثامن كل الملك والمال من أجل عيني امرأة؟ وسقط سور الصين من أجل محظية جنرال. يحضرني لخرافة عيد الشهداء في بعض البلاد العربية أنه، وفي هذه المناسبة، تبارى الخطباء في تمجيد الشهداء، وكان ذلك بحضور مجموعة من الأمهات، حتى جاء دور رجل، فتوجه إلى الأمهات قائلاً: لا يغرنكم قول هؤلاء، فلم يزد أولادكن عن قرابين بشرية جديدة للأصنام الحية والميتة، فلا تخدعن بظاهر القول. احمرت الأحداق، وتمت لفلفة الموضوع، ولكنه نجا من أيديهم، وخرج من بينهم بدون أن يضربوه بالنعال على الوجوه والأدبار، كما حصل يوما لابن تيمية، فطارت عمامته بضرب النعال، وأودع السجن، وعزره قاضي الحنابلة في دمشق على هرطقته.. فهل نفهم الآن سر العطالة في العالم الإسلامي؟؟