من بين عيوبنا، نحن العرب وغالبية المسلمين، منذ القديم، أننا لا نفرق بين الشخص وفكره، بين الإنسان ومواقفه، بين شكله وأطروحاته، بين ذاته وما يصدر عن هذه الذات، ولذلك نجد أن نقاشاتنا ظلت حُبلى بالغل والسب والقذف... وإذا عدنا إلى العصر الجاهلي، والعصور التي تلته، نجد أن من أغراض الشعر هناك غرض يسمى "الهجاء" وفيه يسمح الشاعر لنفسه، ومن تلقاء نفسه، أن يذُمَّ المهجُوَّ بكل شيء، وأن يُعيِّره في عِرضه ونسبه وخلقته وأخلاقه... ولذلك استمر عقم ثقافتنا طويلا، وحين وضعت، بعد عمليات قيصرية، وضعت معرفة مشوهة، وتطورا نقديا شاذا، وناشئة معطوبة الرؤى والأفكار... إننا أمة لا يميز أفرادها، في الغالب، بين ما أنتَ وبين ما يصدر عن هذه "الأنت" إن جاز لي التعبير، وحين نريد أن ننتقد، نتَّقدُ وَنَنْفعلُ بدلَ أن نتفاعل، وحين ننفعل، معناه، بالضرورة، أننا نقحم ذواتنا، وهذا الإقحام يقذف بنا بعيدا عن الموضوعية التي هي أساس كل تقدم فكري. سبب هذا الكلام هو هذا اللغط الكبير والتشهير والاستهزاء الذي شايعَ تواجد المفكرة والدكتورة والروائية نوال السعداوي في المغرب، أواخر سنة 2017 في طنجة، أناسٌ أكاد أجزم أن سوادهم الأعظم لم يقرؤوا لها يوما، لا الأعمال الأدبية، ولا الفكرية، ولو فعلوا -ويا ليتهم فعلوا-لأدركوا كم أنهم يظلمون المرأة. إن لفظة "نقد" في اللغة تعني -من بين ما تعنيه- تمييز وتوضيح وتِبيان جمائل الشيء ومساوئه، وحين نقول فلان نقد الشيء، أي: بيَّن حسنَه من رديئه، ومن هنا جاءت تسمية المال بالنقود، نقول "نقد الدراهم" بمعنى، ميزها، نظر فيها ليعرف جيدها من رديئها، (معجم الوسيط،) إن فهمنا للهدف من النقد، وتمثله، الذي هو تبيان المساوئ والمحاسن، لا يتعلق بشكل الإنسان وجسده ولونه وعرقه وطبقته، وإنما يتعلق بأفكاره وما يصدر عنه من مواقف وسلوكات. لماذا؟ الجواب سهل وبين، لأننا لا نختار شيئا من ذلك، من منا اختار موطنه، أو اختار جنسه، من منا اصطفى لونه، أو صوته، من منا اجتبى نهده وفمه وعيونه وطوله وذقنه وسحنته... بالتالي، نحن لسنا مسؤولين عن جمال، أو لا جمال هذه الأشياء فينا. وفي المقابل، نحن من يختار أفكاره وأراءه ومواقفه. ومن هنا، تتحدد مسؤوليتنا اتجاهها، ومن هنا أيضا، يحق للآخر أن ينتقدها، مبينا حسنها، من سيئها... لذلك، فالذين يعيِّرون نوال السعداوي، يعيرون شكلها، فهم يحاسبونها على شيء هي مُسيرة فيه وليست مخيرة، ولا دخل لها فيه، إنها أشياء ارتضتها الطبيعة لها، بتعبير المدرسة الطبيعية، وهي أشياء ارتضاها لها الله، وفق الذي يؤمن بوجود إله يختار ولا يسأل عن اختياراته، "لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون"، (سورة الأنبياء). أما الأغرب في كل هذا، هو تلك الانتقادات الصادرة من بنات جنسها، فهذا يعكس أنهن ما زلن يلخصن كينونتهن ومعنى وجودهن في مطبخ وسرير، وأن حياتهن المُمَكْيَجَةِ هي التي تعطيهن قيمتهن الوجودية... وإلا، فإن الأصل أن يحترمن المرأة، ويُحيينها، وإن اختلفن معها في طرحها لقضايا الدين والمرأة والسلطة والجنس... سأورد موقفا واحدا لنوال السعداوي كافٍ، في نظري على الأقل، لأن تُحترم المرأة، وهو أنها درست واشتغلت طبيبة، تبعا لرغبة والديها، وحين توفيا، قررت أن تستقيل من الطب لتمارس ما تحب، وهو الكتابة... وبذلك، أرضت طموح والديها، وطموحها. ولا يجب أن ننكر أنها قد حققت إنجازات كبيرة، حتى وإن كنا نختلف معها في بعض القضايا. نحن الشباب، شباب النصف الأول من القرن الواحد والعشرين، لا عذر لنا، إن لم نرتقِ وَنَرْتُقَ توب النقد الممزق من طرف أجدادٍ لم يجيدوا شيئا إجادتهم للتكفير والسخرية والتشهير. *أستاذ وباحث جامعي