البوليساريو تنهار… وتصنيفها حركة ارهابية هو لها رصاصة رحمة    لماذا يستحق أخنوش ولاية ثانية على رأس الحكومة المغربية؟    سانشيز يشيد بتعاون المغرب لإعادة الكهرباء    مالي والنيجر وبوركينافاسو.. جلالة الملك يستقبل وزراء خارجية دول الساحل    أسعار الذهب تبصم على ارتفاع كبير    رئيس الحكومة الإسبانية: استعدنا 50% من إمدادات الكهرباء.. ونعمل على استرجاع الوضع بالكامل    الأمن يفكك شبكة إجرامية متخصصة في تأسيس شركات وهمية والتزوير    "حريق تغجيجت" يوقف 4 قاصرين    عضو في الكونغرس الأمريكي يؤكد دعم "انتفاضة الشعب التونسي" ضد قيس سعيّد    اضطرابات في مطارات المملكة بسبب انقطاع التيار الكهربائي في إسبانيا    الملك يستقبل وزراء خارجية بلدان تحالف دول الساحل    الملك محمد السادس يهنئ بنكيران    ببلوغ نهائي كأس إفريقيا للأمم .. "لبؤات الفوتسال" يتأهلن إلى المونديال    فاتح ذي القعدة غدا الثلاثاء بالمغرب    حصيلة الدورة 30 للمعرض الدولي للنشر والكتاب    انقطاع الكهرباء في إسبانيا والبرتغال وفرنسا يوقف خدمة الإنترنت لشركة أورونج في المغرب    وزير العدل.. مراجعة الإطار القانوني للأسلحة البيضاء أخذ حيزا مهما ضمن مشروع مراجعة القانون الجنائي    التوفيق: إجمالي المكافآت التي قدمتها الوزارة للقيمين الدينيين في 2024 بلغ مليارين و350 مليون درهم    "الأخضر" ينهي تداولات البورصة    برلمانات الجنوب العالمي تعوّل على منتدى الرباط لمناقشة "قضايا مصيرية"    الرباط.. انعقاد الاجتماع ال 11 للجنة العسكرية المشتركة المغربية-الإسبانية    تداعيات الكارثة الأوروبية تصل إلى المغرب .. أورنج خارج التغطية    مهنيو الصحة بأكادير يطالبون بحماية دولية للطواقم الطبية في غزة    الكهرباء تعود إلى مناطق بإسبانيا    ‪بنسعيد يشارك في قمة أبوظبي ‬    الرياح القوية تلغي الملاحة البحرية بميناء طنجة المدينة    دوري أبطال أوروبا.. إنتر يواجه برشلونة من دون بافار    شبهات هجوم سيبراني بخصوص الشلل الكهربائي الشامل في إسبانيا    نزهة بدوان رئيسة لمنطقة شمال إفريقيا بالاتحاد الإفريقي للرياضة للجميع    يضرب موعد قويا مع سيمبا التنزاني .. نهضة بركان في نهائي كأس الكونفيدرالية الإفريقية للمرة الخامسة في العقد الأخير    أزيد من 3000 مشاركة في محطة تزنيت من «خطوات النصر النسائية»    الدار البيضاء.. توقيف عشريني بشبهة الاعتداء على ممتلكات خاصة    بوتين يعلن هدنة مؤقتة لمدة ثلاثة أيام    منتدى الحوار البرلماني جنوب- جنوب محفل هام لتوطيد التعاون بشأن القضايا المطروحة إقليميا وقاريا ودوليا (ولد الرشيد)    منظمة الصحة العالمية: التلقيح ينقذ 1.8 مليون شخص بإفريقيا في عام واحد    مزور يؤكد على التزام المغرب بتعزيز علاقاته الاقتصادية مع الصين في إطار المنتدى الصيني العربي    أزيد من 403 آلاف زائر… معرض الكتاب بالرباط يختتم دورته الثلاثين بنجاح لافت    هشام مبشور يفوز بلقب النسخة الثامنة لكأس الغولف للصحافيين الرياضيين بأكادير    مصر تفتتح "الكان" بفوز مهم على جنوب إفريقيا    ترايل أمزميز.. العداؤون المغاربة يتألقون في النسخة السابعة    ندوة توعوية بوجدة تفتح النقاش حول التحرش الجنسي بالمدارس    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    انطلاق جلسات استماع في محكمة العدل الدولية بشأن التزامات إسرائيل الإنسانية    خط جوي مباشر يربط الدار البيضاء بكاتانيا الإيطالية    دراسة: متلازمة التمثيل الغذائي ترفع خطر الإصابة بالخرف المبكر    بريطانيا .. آلاف الوفيات سنويا مرتبطة بتناول الأغذية فائقة المعالجة    اختيار نوع الولادة: حرية قرار أم ضغوط مخفية؟    ثروة معدنية هائلة ترى النور بسيروا بورزازات: اكتشاف ضخم يعزز آفاق الاقتصاد الوطني    شهادات تبسط مسار الناقدة رشيدة بنمسعود بين الكتابة والنضالات الحقوقية    "جرح صعيب".. صوت عماد التطواني يلامس وجدان عشاق الطرب الشعبي    مي حريري تطلق " لا تغلط " بالتعاون مع وتري    العرائش: عزفٌ جنائزي على أوتار الخراب !    التدين المزيف: حين يتحول الإيمان إلى سلعة    منصف السلاوي خبير اللقاحات يقدم سيرته بمعرض الكتاب: علينا أن نستعد للحروب ضد الأوبئة    مصل يقتل ب40 طعنة على يد آخر قبيل صلاة الجمعة بفرنسا    كردية أشجع من دول عربية 3من3    وداعًا الأستاذ محمد الأشرافي إلى الأبد    قصة الخطاب القرآني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الواقعية الانتقادية في رواية (زينة) لنوال السعداوي - الجزء الثاني


ذ.الكبير الداديسي
بعد مقالنا الأول الذي خصصناه للواقعية الانتقادية التي وسمت رواية زينة نولال السعداوي ، نحاول في هذا الجزء الثاني إبراز بعض تجليات هذه الواقعية التي اقتصرت فيها الروائية على انتقاد الواقع وكشف عورته دون أدنى محاولة تدفع بالأبطال نحو تغيير واقعهم ، فكان انتقادها شديدا لم يسلم منه أحد بمن فيهم الله وإبليس ...
تميزت رواية زينة بعدة خصائص سردية تكاد تفردها عن غيرها من الروايات فقد كتبت الرواية بتدفق سرد طبعه التكرار دون أن تعمد الكاتبة إلى تقسيم المحكي إلى فصول ومشاهد فلم تتضمن الرواية أية عناوين أو أرقام... ليجد القارئ نفسه ينتقل من حدث إلى آخر ، ومن مكان إلى آخر ، ومن شخصية إلى أخرى ومن الحاضر إلى الماضي ... دون مؤشرات تساعده على ذلك الانتقال ، وكأننا بالساردة، من خلال تداخل الأحداث، تتعمد ذلك في إحالة على مجتمع انعدمت فيه القيم واستشرى فيه الفساد، وتداخلت فيه أدوار المؤسسات الإعلامية ، بالسياسية، بالدينية، بالأكاديمية ، فلم تجد الساردة أمامها سوى تقديم مادة حَكيِها مادة هلامية لا يفصل بين مكوناتها حدود ، عصية على التصنيف والتبويب يسهل فيها على الأبطال الانتقال من اليسار إلى اليمين ، أهم ما يربط بين الشخوص هو النفاق والخيانة والتلوين والظهور بخلاف ما في الباطن ... صور تكرر نفسها في واقع ممسوخ، لذلك تجاوزت المؤلفة طرق التكرار المألوفة ؛ كتكرار الجمل والمعاني إلى تكرار نفس الأحداث والأوصاف والقضايا بل وتكرار مقاطع وفقرات بنفس الكلمات حتى ليشعر القارئ وهو يتقدم في القراءة، وكأنه يعود لقراءة مقاطع وصفحات سابقة أو أن هناك أخطاء في الطبع نتج عنها طبع تلك المقاطع أكثر من مرة، والأكيد أن لذلك مبرره عند المؤلفة، فقد تكون تتغيى محاكاة النصوص الدينية التي ما انفكت تسخر منها، وتوجه انتقادات لاذعة للنصوص المقدسة الثلاثة ( القرآن، الإنجيل والتوراة) التي تقلل من شأن المرأة في نظرها.. كما قد يكون في الكاتبة باعتمادها على التكرار توجيه سهام نقدها لثقافة تقوم على اجترار قيم وأحكام جاهزة متوارثة "منبوذة" خاصة في التعامل مع المرأة فتكررت في الرواية مرارا أحكام تعتبر المرأة ناقصة عقل ودين، المرأة مدنسة، النظافة من الإيمان والنجاسة من النسوان (النسوة أسوأ المخلوقات، النسوة حليفات الشيطان )[1]...
الرواية نقد لاذع للواقع العربي، وللفكر الذكوري في هذا المجتمع ، حتى ليمكن أن نطق عليها (رواية رأي)، ذلك أن الكاتبة تكاد تمرر مواقفها عبر مختلف شخصيات الرواية، فلم تكن مجيدة سوى صوت نوال السعداوي في الرواية وكذلك كانت زينة، وتقمصت بدور نفس الدور فغدت تنطق بأفكار في السياسة والدين طالما كررتها نوال في حياتها، فنجد الساردة تتخلى عن دورها في سرد أحداث الحكاية إلى الانفعال والاحتجاج بل تجنح أحيانا إلى مقارعة القارئ المفترض وتحاول إقناعه بصواب رأيها، تتصيد أي موقف أو كلام من الشخصيات لتمرر رسائلها ، ومهاجمة الرجل الذي ترى فيه نموذجا لكل أنواع الشر يغتصب الأطفال لا يحركه إلا الجنس ولا يتورع في اغتصاب كل ما يحمل نسمة أنثوية أو جنسية حتى الدمى، لا تفرق في ذلك بين الطفل الصغير و الرجل الكبير هكذا قدمت رجل الدين والأمير أحمد الدامهيري وهو ابن ثماني سنوات يغتصب دمية بدور وكأنه مدمن جنس (أخذها معه تحت السرير خلع عنها الثوب الرقيق من الدانتيلا تمزق الكيلوط الوردي الشفاف بين يديه وهو يشده أسفل ساقيها بحثت عيناه وأصابعه عن الشق بين الفخذين دون جدوى .. كان الطريق أمامه لا يقوى على اختراقه ...)[2] . مما يجعل أي قارئ يتساءل هل يوجد فعلا نموذج لهذا المستوى من البشر ، وهل تتملك الرغبة الجنسية الجامحة طفلا ابن ثماني سنوات إلى هكذا سلوك ... وإذا كانت الرواية قد قدمت الطفل بهذه الصورة ،فلا غرابة إن جعلت الرجل الكاتب المتزوج يغتصب طفلا أعرج من أبناء الشوارع ، ويتكلم بعكس ما يبطن، يسرق مجهود النساء المادي والمعنوي، ورمزا للخيانة ، (عقله فارغ ليس فيه إلا الحيض والنفاس والرضاع)[3] بل أن الكاتبة تدفع شخوص الرواية الذكور إلى تكرار نفس الأحكام فتجعل الطبيب النفسي يقول لصديقتها صافي ( إنتي يا صافي أستاذة عظيمة عندها عقل ) ويضع كل الرجال في كفة واحدة فيقول لها : (كل الرجالة ورق، كلهم مرضى ، كذابين منافقين مزدوجين)[4] وحتى الشخصية التي نزلت عليه كل سياط نقدها (زكريا الخرتيتي) جعلته يعترف في آخر الرواية بعد ابتعاد بدور عنه فيقول (نحن الرجال لا نتراجع عن الخطأ حتى تجبرنا المرأة على ذلك... نحن لا نعرف قيمة المرأة حتى نفقدها هناك شيء معطوب في الرجال .. إنه تاريخ مكتوب قبل أن نولد ، كتبته الآلهة والرسل والملوك والفراعنة نحفظه عن ظهر قلب مند الولادة حتى الموت ..) [5] وهو كلام نوال السعداوي ، ولا يمكن أن يصدر عن رجل تقدمه على أنه أناني سلطوي لا يرى في المرأة إلا مصدر متعة يجري وراء الفتيات يغتصب الأطفال لا يهتم لزوجته أبدا ..
يتضح إذن أن رواية زينة تكاد تقتصر على انتقاد الواقع فترصده نوال السعداوي من خلال نظارتها السوداء، فلا ترى فيه ذرة خير، انعدمت فيه القيم، وتساوت فيه كل المتناقضات، المرأة فيه محتقرة مضطهدة ، والرجال أشرار قساة لا يرحمون، والعلاقة بينها مبنية على الصراع وغاية كل طرف تدمير الطرف الآخر، وإن كانا يعيشان تحت سقف واحد، وكل ما يحمله أو يلمسه بطل قادر على أن يتحول إلى أداة جريمة، فأصابع الرجال قضبان حديدية تغتصب النساء ، والسكين في يد بدور تقطع به الخبز تتصور يخترق صدر زوجها زكريا ..
وبقدر هجومها على الرجال تقسو الرواية بعنف أيضا على النساء المستسلمات المتخاذلات الفاشلات في انتزاع حقوقهن من الرجل زوجاً كان أم أباً، أخاً أم قريبا . بل إن الرواية لم تختر من الأبطال إلا الذين يعانون انفصاما وازدواجية في الشخصية ، فجعلت معظمهم (بدور وزوجها وأبوها وابنتها مجيدة وصديقتها صافي وابن عمها ) يترددون على طبيب نفسي و يتناوبون على نفس الأريكة يبوح كل منهم بما يجثم على صدره: (فوق الأريكة ذاتها كان زوجها زكريا الخرتيتي ممدودا يشكو للطبيب آثامه وأحزانه، وابنتها مجيدة تمددت أيضا فوق الأريكة، تفتح قلبها للطبيب النفسي، .. وصافي صديقة بدور والأمير أحمد الدامهيري تمدد فوق الأريكة ..)[6] والأغرب أن الطبيب، الذي يقصدونه، مريض في حاجة لمن يعالجه (يستخدم الأريكة لعلاج نفسه من الحرمان الجنسي ينكح من النساء ما يشاء أحل الله له النكاح بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الطب النفسي )[7] وأكثر من ذلك ترى فيه ازدواجية منذ طفولته تقول فيه الساردة (أدرك الطبيب النفسي أنه مريض، يحتاج إلى طبيب يعالجه، الانفصام بين عقله ووجدانه، عقله غير مؤمن، لكنّ وجدانه مؤمن، لا أمل له في الشفاء، محكوم عليه بالازدواجية منذ الطفولة) .
ما قدمته نوال في روايتها عالم فوضوي، عالم سرَى فيه الفساد، واندحرت في المبادئ والقوانين، وغدا الشاذ مصدر القياس بعدما مسخ المجتمع طبقة واحدة تشابهت فيها مختلف طبقات المجتمع وشرائحه فالأغنياء كما الفقراء ، والسياسيون والصحفيون ورجال الدين والأساتذة الجامعيون وغيرهم شخصيات شاذة تعاني انحرافات خطيرة في السلوك دون أن تراعي نوال السعداوي في ذلك خصوصية المسجد، الكنيسة، البيت، الجامعة فتساوى في نظرها الماركسي برجل الدين، تقول في أحد المقاطع على لسان صافي (كانوا شبه بعض في كل حاجة،في الشغل السري، في النشاط السياسي، في النشاط الجنسي، شبه بعض في كل حاجة، حتى الخيانة والكذب والمراوغة وعشق السرية والتخفي، وإخفاء الفساد والتشدق بكلمات كبيرة أوي، تحت اسم ربنا الله، أو ربنا كارل ماركس ...)[8] ... وكأن هدفها كشف عورة المجتمع المصري على امتداد تاريخه الحديث ابتداء من الملكية ، مرورا بثورة الضباط الأحرار وشعاراتها الاشتراكية، فمرحلة الانفتاح وانتهاء إلى مرحلة تحالفت فيها مصالح الخطاب الديني المتطرف مع خطاب رجال السياسية والعسكر ضد تطلعات الفئات الفقيرة...
تبدو اللغة في رواية (زينة ) مكتوبة بطريقة مسترسلة متناثرة وكأن الكاتبة لم توليها عناية المراجعة الأخيرة قبل الطبع، صحيح أن الرواية خالية من الأخطاء المطبعية الفجة، ولكن طريقة كتابتها في حاجة إلى إعادة تنظيم الأفكار ، وحذف المقاطع المكررة ، كما أن الرواية تحمل بين طياتها أحكاما قاسية على المجتمع المصري برجاله، أطفاله ونسائه، وقد يجد القارئ صعوبة في تسويغ كيف تمكنت زينة المولودة سفاحا والتي عاشت على حواف المجتمع ورغم قساوة حياتها .. وأن تنشأ بتلك الشخصية القوية والجمال الأخاذ، فلم تتوان نوال السعداوي لحظة في أن تُلبس زينة من أوصاف الجمال والثقة في النفس وقوة الشخصية ... حتى كادت في بعض اللحظات أن تجعل منها ملاكا يمشي على الأرض ، ففي زينة التقت كل تناقضات الجمال (العينان سوداوان زرقاوان مشتعلتان بالضوء، متوهجتان مثل قطعة من الشمس، نظرتها خارقة للحُجب والأقنعة، نظرة تعرّي السطح وتنفذ إلى القاع، نظرة تنظر وترى، ترى ما لا تراه العيون) [9] واستطاعت بعزيمتها أن تفرض نفسها على الجميع ، فجعلت منها الرواية شمسا تنمحي أمامها كل الكواكب والنجوم ، وإذا غنت اهتزت القلوب وما تحت الجوانج ودار حولها المعجبون (كما تدور الأرض حول الشمس) وكأن الكاتبة تريد تمرير فكرة أعداء الأسرة (أندري جيد ، سارتر ,نيتشه) الذين لا يرون في الأسرة إلا تكبيلا للفرد ، وقيودا تمنعه من تحقيق رغباته، وتحد من حريته... فما دام أبناء الشوارع قادرين على كسب كل هذه الثقة والكاريزم في الشخصية فلا داعي إذن حسب نوال السعداوي للأسرة التي لا تنبني حسب الرواية إلا على الخيانة، والفساد والكراهية: الزوجة غير متفاهمة مع الزوج تعرف أنه يخونها مع الخادمات والسكريتيرات (في الليل يتسلل من فراشها إلى الخادمة في المطبخ،أو السكريتيرة في المكتب، لا يشتهي إلا الفتيات الصغيرات من الطبقة الدنيا)[10]. و( إن قال لها أنه خارج لحضور اجتماع أو مؤتمر تدرك أنه ذاهب لليلة حمراء مع إحدى النساء أو البنات)[11]. وإن سئل يحاول أن يبرر أفعاله .. وخيانته لزوجته بقوله (زوجتي لم تمنحني إلا التعاسة ، أنا زوج تعيس لم يذق طعم اللذة في سرير الزوجين)[12] ... والبنت تقف شاهدة على أبيها يمارس الجنس على معاق قاصر من أبناء الشوارع. والمرأة المثقفة (صافي) جربت الزواج بكل أصناف الرجال الماركسي ، رجل الدين ، والكاتب المثقف..) ولم يكونا سوى صورة واحدة للنفاق والخيانة... لتحكم الكاتبة على الأسرة بغياب التفاهم بين الزوجين ومن تم الفشل في تربية الأبناء (العائلة الواحدة تضم التيارات المتضاربة يخرج من ضلع الأب المؤمن ابن ملحد، ومن رحم الأم المسلمة ابنة ماركسية، ينضم الزوج إلى حزب اليمين ، وتدخل زوجته حزب اليسار ، يصبح الأخ مع الحكومة ، وأخته في المعارضة،... تتجمع العائلة في المآتم والأفراح يتبادلون العناق والقبلات ، ثم يخرجون إلى ساحة الصراع يوجهون بعضهم إلى بعض الضربات من تحت الحزام ومن فوقه)[13]
عكس كل ذلك تطلع زينة طاهرة عفيفة ذات موهبة عالية في الموسيقى غناء وعزفا، أخلاقا وسلوكا ، رمزا للعفوية والطبيعة ، ونموذجا للحب الصافي والحرية لم يتمكن أكثر الرجال ممارسة للاغتصاب من النيل منها وهي بعد صبية غرة تقدم نفسها بقولها: أنا... لست ابنة الآلهة أو الشياطين ، أنا زينة وأمي زينات أمي أعز عني من السماء .. أنا ابنة الخطأ والخطيئة، أنا ابنة الشرف والفضيلة ..) [14] .
هكذا تجعل الرواية من عالم الشوارع وعالم حواف المجتمع، مدينة فاضلة يسودها العدل والإخلاص والتضامن عالم (يحظى فيه اسم الأم بالشرف الكامل ... لا تفرق فرقة مريم بين دين ودين ) [15]خلاف المجتمع بقوانينه الوضعية والشرعية والذي يفسد السليقة والفطرة، الأطفال على براءتهم ( يتلقون الضربات والصفعات والركلات بكعب الحذاء، يملأون آذانهم الصغيرة بأبشع أنواع السباب من أول يا أولاد الزنى ، إلى يا أولاد القحبة والشرموطة ) فمن الطبيعي أن تنتقد الكاتبة عالما (يرقد فيه الأطفال على الأرض في غرفة واحدة مع كبار القتلة ، وتجار المخدرات والقوادين والحشاشين ، يعتدي الذكور الكبار على الأطفال، يتم الاغتصاب في الليل داخل الصمت تذوب صرخات الطفلة أو الطفل في الشخير الذكوري)[16]
وفي كل ذلك طرح ونظرة رومانسية ترفض واقعا مريرا تجسدت فيه كل مظاهر الفساد والشذوذ... وتنشد عالما مثاليا للمرأة فيه وضع اعتباري.... لكن رغم رومانسية الفكرة فإن الكاتبة تناولتها بانتقاد شديد للواقع، ولم تهرب إلى الطبيعة لتبكيها أحزانها بل سلطت معول انتقادها على كل من تعتبره مسؤولا عن هذا الوضع .. وكأننا بنوال تعود في أواخر عمرها لمعالجة قضايا أطفال الشوارع التي سبق أن تبنتها وقدمت بشأنها مشروعا للسلطات المصرية تطالبها بحق أبناء الشوارع في اسم يليق بهم ويصون كرامتهم ، والدعوة إلى اقتران اسم الولد أو البنت باسم أمها وهو ما سعت الرواية إلى تكريسه من خلال ربط زينة بزينات حتى وإن لم تكن أمها الحقيقية وجعل زينة ترى في ذلك مصدر قوتها ولم تتوان لحظة في الافتخار بأمها التي ربتها ، في مقابل ذلك تخشى وتخجل مجيدة من ذكر اسم أمها رغم مكانتها في المجتمع.. فألفينا الكاتبة تدفع زينة إلى كتابة اسم أمها (فوق السبورة أمام أعيننا دون حياء ، تفتخر بأمها زينات ، كنا نحن نخجل من ذكر أسماء أمهاتنا بصوت مسموع ، ولا يمكن أن نكتبه فوق الكراسة فما بال السبورة ، لم تكن أمي خادمة بيوت مثل كانت أمها ، كانت أمي الأستاذة الكبيرة ...)[17] وبذلك تنجح نوال في الرواية فيما لم تنجح فيه بالواقع ، بنجاح زينة التي تعتبر النسب إلى الأم مصدر افتخار واعتزاز..
الرواية إذن رواية انتقادية بامتياز فأينما وليت وجهك تجد انتقادا لاذعا فالرواية تنتقد الرجل كما تنتقد المرأة الخانعة، تنتقد المجتمع ، تنتقد الأعراف والتقاليد، تنتقد القوانين الوضعية والشرائع السماوية، تنتقد الحاكمين والمحكومين، تنتقد الفقراء والأغنياء،، تهاجم اليساريين واليمينيين ، ولم يسلم من نقدها اللاذع أهل الصحافة والأدب والثقافة والفكر فهي تكرر في الرواية أكثر من مرة أن النقاد ليسوا سوى ماسحي أحذية ، وأن مهنتهم مهنة طفيلية تقتات على دم الآخرين (مهنة النقد الأدبي متطفلة على الأدب الحقيقي والفن ، مثل الديدان الشريطية، نحن نقاد الأدب لسنا إلا مبدعين فاشلين نغوص في فشلنا بنقد أعمال الآخرين .. نحاول الوصول إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين نحن مثل ماسحي الأحذية ) [18] في الرواية إذن لم يسلم أحد عدا (زينة) من نقد نوال السعداوي ويطال نقدها الشيطان والله أيضا فتضعهما في كفة واحدة ، الله والشيطان اللذين يحتقران المرأة ، يتسللان لعقول الرجال لترسيخ النظرة الدونية للمرأة فالمسؤول عن نظرة زكريا للمرأة في نظر الكاتبة هما الله والشيطان تقول ( الله وإبليس كانا قد تسلل إليه مع لبن الأم، أصبحا راسخين في أعماقه كالإسمنت المسلح ، هما معا ، لا يوجد كونٌ دون إله وشيطان ، ولا يشغلهما شيء إلا النساء ، مثل الذكور)[19]، وأحيانا كثيرة تضع أبطالها في وضعيات يصعب عليهم التمييز بين صوت الله وصوت إبليس تقول على لسان بدور وهي تخاطب نفسها ( هذا صوت الشيطان يا بدور ليس صوت الله، وإن كان صوت الله فما الفرق بيه وبين صوت إبليس.... إن منعك الله من لذة الحياة الحية ، فهو ليس الله، إنه إبليس يا بدور ...)[20] .. فكانت الرواية بذلك ثورية على كل ما في المجتمع لكن ثورتها كانت فوضوية انتقادية لم تقدم حلولا وكأنها رفض من أجل الرفض فقط، ولكن الكثير من هذه التناقضات والمفارقات التي لا يقبلها عقل سواء ما تعلق منها بالفوارق الطبقية الاجتماعية خاصة إذا ما قارن القارئ بين مجيدة وزينة ، أو بالفوارق السردية إذ لم تترك الكاتبة الحرية للشخصيات ليتطوروا مع الأحداث وإنما كانت مواقفها هي الطاغية على كل خطوة يخطوها أبطال الرواية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.