أديب منبثق من رحم الحرب البوسنية، كتاباته تتسم بصراحة فذة ساخرة، بأسلوب فريد في نقل تناقضات العوالم الإيديولوجية والسياسية والإرث الكبير من الخدوش المشكلة للبوسنة والهرسك، إنه يشكل ذاكرة حرب، لكن ليس بالطريقة المعهودة، إنها ذاكرة تعبر عن نفسها بأسلوب بعيد عن التمجيد الرومانسي أو التبرير السياسي أو البكاء المأساوي، إنها قدر فظيع. لا يملك قارئ كتاباته إلا أن تتوقف أنفاسه أمام قوة قلم متميز غير مهادن، قلم فرض نجاحه بقوة في الساحة الأدبية البلقانية. إنه الأديب البوسني فاروق شيهيتش (Šehić Faruk) الملقب بزعيم "الجيل المهشم". لاكتشاف ثقافة مجهولون أدباؤها عند القارئ بالعربية، وبمناسبة ترجمة روايته "التدفق الهادئ لنهر أَونا" إلى اللغة العربية، أجرت معه الكاتبة خديجة يكن، المهتمة بالأدب البوسني، الحوار التالي: نود منك أن تعرفنا على الكاتب فاروق شيهيتش ومنجزه الأدبي: ولدت في عام 1970 في بيهاتش، في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية. حتى اندلاع الحرب في عام 1992، كنت أدرس الطب البيطري في زغرب، ومع ذلك، انضممت آنذاك وأنا في الثانية والعشرين من العمر إلى جيش البوسنة والهرسك، حيث قدت وحدة عسكرية من 130 رجلا، بعد الحرب درست الأدب ثم بدأت إبداع أعمالي الأدبية. كتابي الثاني "هيت مستودع" (2003) كان أكثر الكتب الأدبية مبيعا على الاطلاق في البوسنة على الرغم من أنه كان ديوان شعر، في هذا الديوان قدمت مشاهد شكلت الموضوع الرئيسي لعدد من أعمالي اللاحقة، مثل الحياة بعد الحرب على هامش المجتمع. هذه القصائد تدور حول الشعور المحلي (والعام) تجاه أسلوب الحياة الرأسمالية المختلطة بالحياة اليائسة لما بعد الحرب وسط الخراب، بقايا مجتمع ميت في سراييفو والبوسنة. أشاد بي النقاد الأدبيون بصفتي زعيم "الجيل المهشم" للكتاب الذين ولدوا في يوغوسلافيا في سبعينيات القرن العشرين، وحققت كتبي نسبة عالية من القراءة في جميع أنحاء البلاد. حصلت مجموعتي القصصية "تحت الضغط" (Pod pritiskom, 2004) على جائزة زورو فيرلاغ. وروايتي الأولى "التدفق الهادئ لنهر أَونا" (Knjiga o Uni, 2011) تلقت جائزة ميسا سليموفيتش لأفضل رواية نشرت في صربيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكرواتيا في عام 2011، وجائزة الاتحاد الأوروبي للأدب في عام 2013. كتابي الأخير هو مجموعة شعرية بعنوان "نهري" (Moje rijeke, Buybook, 2014) حصلت على جائزة ريستو راتكوفيتش لأفضل كتاب شعر في صربيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وكرواتيا في عام 2014، والجائزة السنوية لرابطة كتاب البوسنة والهرسك. تمت ترجمة كتبي إلى اللغات الفرنسية، الألمانية، الإنجليزية، البلغارية، الإسبانية، الهولندية، المقدونية، البولندية، السلوفينية، الإيطالية، العربية والهنغارية. أعيش في سراييفو وأعمل كاتب عمود وصحافي في مجلة سياسية محترمة "BH Dani" (أيام البوسنة والهرسك). عندما نقرأ أعمالك الأدبية، نكتشف علاقة بين النص وتجربة حياة الشاعر، وهذا يجعلنا نفكر في قصة كتابتك، كيف أتيت إليها؟ أجل، من الصعب الفصل بين تجربتي وإبداعي الأدبي، إني أمزج بينهما في كثير من الأحيان. في بداية مسيرتي الأدبية، كنت أكثر واقعية في كتاباتي، ثم تعلمت كيف أصنع الخيال من صورة واقعية واحدة من تجربتي المخزنة في ذاكرتي. هناك كلمة لهذا: الأوتوفكسيون، سرد يجمع بين السيرة الذاتية والخيال، لكنني لا أعتقد أنني أكتب الأوتوفكسيون. لم أحب أبداً أن أكون متموقعا في أي نوع من التعريف، كأن يتمكن أي شخص من أن يقول بسهولة: إن عملك يمثل هذا بالضبط أو هذا. على كتابتي الأدبية أن تكون بطريقة ما سريًة، معنى كتابتي الأدبية يجب أن يكون واضحًا جدًا لفهمه، وأيضًا سريًا ومخبأً في أوجه متعددة لنصوصي. في أشعاري السابقة كانت فكرتي عن الشعر أن يكون مباشرا، أن تكون قصائد وحشية، قصائد حرب عن رفاقي الموتى، أردت إقامة نصب صغير مصنوع من الكلمات، لذلك كتبت قصائد الحرب، قصيرة وصعبة للغاية، مليئة بالصور الشعرية للطبيعة. أردت إظهار عالمين، أحدهما هو عالمنا البشري المليء بأهوال الموت والآخر هو عالم الطبيعة، عالم الطبيعة الذي لا يمكن المساس به، لا يمكنك قتل الطبيعة، النهر، الأشجار أو العشب، الطبيعة هي الخلود، ونحن، الجنود أثناء الحرب، مجرد بشر فانين مفعمين بالحياة. بعد الشعر، بدأت كتابة القصص القصيرة لأني أحتاج إلى مساحة أكبر، لا يمكن العثور على هذه المساحة في الأبيات، لأنني في حاجة إلى جمل. بعد المجموعة القصصية، كتبت رواية شكلت نجاحي الكبير مع القراء وكذلك مع النقاد الذين صنفوا روايتي (Knjiga o Uni, 2011) "التدفق الهادئ لنهر أونا" كرائعة أدبية. أحداث 19921995 لها وجود خاص في كتاباتك، هل لجوؤك إلى ذكرى الحرب هو محاولة لتخليدها أو لنسيانها؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تنشئها قصائدك مع الألم البوسني؟ سبق وأجبت على هذا السؤال في الإجابة السابقة. أنا شاهد وأكتب شهادة أدبية. هذا واحد من أدواري ككاتب. من واجبي التحدث والكتابة حول الموضوع الذي لا يريد الآخرون معرفته أو لا يعرفون كيف يعبرون عن أنفسهم. أنا لست متحدثًا باسم الجنود الشهداء، لكن في العديد من قصائدي وقصصي القصيرة أعطيتهم الصوت، والأسماء، وأعطيت الحياة من خلال الأدب لرفاقي من الجنود القتلى. في تجربتك الإبداعية، لا نرى الفرق بين الكاتب والجندي، أين يلتقي الجندي شيهيتش بالكاتب شيهيتش وأين يقفان بعيدا عن بعضهما؟ كان دوري الحقيقي خلال الحرب أكثر بطولية، لذلك أنا أعيد تقديم نفسي في كتبي؛ ذلك لأنني لا أريد أن أكون شخصًا أنانيًا، فكتبي لا تتحدث عني كشخص حقيقي، بل تتحدث عني في العالم الأدبي، شخصيتي الأدبية أكثر ضعفاً مما كانت عليه أثناء الحرب، كنت جنديا، والآن جزء من هويتي وذاكرتي سيظل معي دائما كندوب على الجسد، أنا أعرف كيف أعيش مع ندوبي. تعكس نصوص كتاباتك لغة ساخرة، وتكشف عن وحشية ما حدث على المستوى العسكري والسياسي والاجتماعي والأيديولوجي. هل هذا يعكس غضباً وجودياً تجاه الذات البوسنية؟ في كثير من الأحيان، أنتقد المجتمع، النخبة السياسية التي لا تبالي بالناس العاديين الذين قاتلوا بشجاعة خلال الحرب، لا أحد يهتم بالمقاومين القدامى، لا أحد يهتم بالفقراء، أنا دائما إلى جانب الناس الذين هم على هامش المجتمع. أسلوبك الأدبي فريد في التأمل والتعبير، وتتميز قصائدك بطولها وروحها السردية، هل هي رؤية مختلفة للأدب لعبت دورًا في تشكيل أسلوبك الخاص؟ نعم، أنت على حق، أحاول دائماً أن أصنع، أن أنشئ كتابتي الخاصة، كتابتي الخاصة والفريدة، لا أحب أن أكون في ظل أسلافي الأدباء في بلدي ويوغوسلافيا السابقة، جذوري في الأدب العالمي. أعتقد اعتقادا راسخا أننا جميعاً جزء من شيء عملاق وواسع الوجود، وهو نوع من الروح المشتركة بين جميع البشر، بعد كل شيء، كلنا نحب هوميروس والخيام، بورخيس والرومي. لدي انطباع بأن أدبك قد يصنف ضمن أدبيات الحرب، هل توافق على هذا الانطباع؟ لست أخشى من ذلك، أكتب عن أكثر من موضوع واحد، الحرب هي مجرد موضوع، دائما ما أكتب عن أشياء كثيرة. هل سبق وأن حلمت بأن تصبح كاتبا؟ كنت دائماً أحلم بأن أصبح كاتباً، لأنني أحب القراءة، كل قارئ متعطش هو كاتب محتمل، كنت قارئا متعطشا والآن أنا كاتب، أحلامي تتحقق. أنت صحافي وكاتب عمود في صحيفة أيام البوسنة والهرسك، كيف ترى أيام المستقبل في البوسنة والهرسك؟ لا أرى مستقبلا جيدا لبلدي، ما لا يقل عن 150 ألفا من الشباب غادروا البلاد إلى أوروبا للعثور على وظيفة وحياة أفضل. بلدنا مقسوم بخطوط عرقية، نحن نعيش في توقع مستمر لحرب جديدة. ليس من السهل أن تكون دولة ذات أغلبية مسلمة في أوروبا، وأعتقد أننا أوروبيون، لكن يبدو أن الاتحاد الأوروبي لا يشاركني رأيي. لقد أعطوا أعداءنا المزيد من الرعاية والدعم السياسي أكثر مما قدموه لنا. بمعنى ما، نحن وحدنا، أعني البوسنيين كأمة، لكن البوسنة ما تزال تواجه مشكلة مع قومية الجيران. سنفوز في النهاية، كما نفعل دائما في تاريخنا الدموي، البوسنة هي أرضنا وبلدنا، ليس لدينا دولة احتياطية.