بسم الله الرحمن الرحيم (1) ودّ الكارهون للإسلام، والحاقدون المحاربون للإسلاميين، من كل الألوان والأطياف، أن تكون مصيبتُنا في ديننا. أمّا المسلمون، الذين يؤمنون بالله وباليوم الآخر، فهم يلازمون بابَ الله، صباح مساء، في كل وقت، وفي كل مناسبة، يدعونه ألاّ يجعل مصيبَتَهم في دينهم، وألا يجعلَ الدنيا أكبرَ همّهم، وألاّ يسلطَ عليهم من لا يرحمهم، كما يدْعُونه، آناءَ الليل وأطرافَ النهار، أن يجعلَ ثأرَهم على من ظلمهم، وأن ينصرَهم على من عاداهم. وما أكثرَ ظالمِي المسلمين، اليومَ، ومُعاديهم. يدعو المسلمون الصادقون ربّهم، وهم موقنون بالإجابة، ويرجون من الله ما لا يرجوه أعداؤهم والمتربصون بهم أن تكون مصيبتُهم في دينهم. (2) أماّ مصيبتُنا السياسيةُ الكبرى، التي لها، ولا شك، تأثيرٌ في شؤوننا الدينية، فهي النظامُ المخزني الذي ما يزال يسومنا، منذ قرون، الخسفَ والهوان، والتردّيَ بعد الترديْ، في مختلف المجالات. مصيبتُنا هذا الاستبدادُ الخانق الحارق الحالق، الذي جعل درجتَنا بين الأمم تستقر في الحضيض، وإعلامُنا الكاذبُ الفاجر سادر في لهوه وغوايته وضلاله، يُحسّن القبائح، ويغطي الفضائح، ويمدح الظالمين، ويُعلي من شأن السفهاء الفاجرين، ويجتهد ليظل الناسُ مخدَّرين خاضعين مطيعين، وهيهات هيهات لِما يتمنّون ولِما يبيّتون. ويرتبط بهذا المصيبة العظمى سكوتُ العلماء عن بيان الحقّ للناس، وخضوعُهم-إلا من رحم ربّك، وهم قليل- للسلطان، يخدمونه بما يريد، يسمعون ويطيعون، ويفعلون ما يؤمرون. يُضلّون الناس من ورائهم، يؤبّدون الأغلال في أعناقهم، ويتكلمون ليخمدوا فيهم جذوة الاحتجاج والاعتراض والثورة. وتنتعش في ظل الاستبداد وعلمائِه الرسميّين الساكتين جراثيمُ اللادينية الخبيثة، التي تسلّلت إلى ديارنا، في ركاب الاستعمار، وفرّخت برعاية ورثة الاستعمار، وبات لها اليوم بين ظَهْرَانَيْ المسلمين منابرُ مشهورة، وأصوات مسموعة، وخُطط مرسومة، ومشاريع منشورة، وأساليب شيطانية مدروسة، وأهداف محددة مطلوبة، وإمكانيات مادية وغير مادية موفورة، تجَنّدُ الجُندَ، وتكثر الأتباعَ والأنصار، وتوجّه السياسات وتؤثر في القرارات. (ويمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين). ومهما مكروا وأنفقوا وبذّروا، ومهما كادوا وتربصوا واحتالوا، فإن جندهم مهزوم، وكيدَهم بائر، وأمرهم إلى خسار، ما دام في الأرض إسلام، وما دام في المسلمون قائمون يغارون ويُقْدِمون ويستبسلون، ويموتون ولا يهينون ولا يستسلمون ولا يُبدّلون. (3) أماّ عن الإسلاميين، فأذكّر القارئ الكريمَ أني أقصد بهم، حسب ما هو شائعٌ اليوم في الاصطلاح السياسي، السياسيّين المناضلين، الذين يقوم مشروعُهم، في الفكر والتربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد وغيرها من شؤون الإيمان وشؤون العمران، على المرجعية الإسلامية، التي لا تفرّق بين الدين والدنيا، والتي شأنُ الدنيا فيها موصول بشأن الآخرة، وأمرُ المسجد لا ينفك عن أمور الكدْح المعاشي، والنضال السياسي، والتدبير الاقتصادي، والإبداع الفكري والفني والأدبي. والإسلاميون في المغرب، حسب اختياراتهم السياسية، عموما، نوعان، مخزنيّون مشاركون في اللعبة السياسية كما يفرضها النظام المخزني، بفلسفته وقواعده وملعبه وحدوده وأهدافه، لا يحيدون عنها قيد أنملة، يسمعون ويطيعون. أمّا فيما بين المشاركين الخاضعين المطيعين، فلا بأس أن يتهارشوا ويتلاعنوا ويتصارعوا ويتكايدوا، ما دامت حدودُ اللعب مرعية، وأصوله محترمة، وثوابته محفوظة. وقلت مرارا وتكرارا إن وصف الإسلاميين الذين اختاروا المشاركةَ في اللعبة السياسية المخزنية بأنهم مخزنيّون هو وصفٌ لما هو واقع ومعيش ومحسوس، بل حقيقتُه تفقأ الأعينَ إلا عند من يتعامى ويتجاهل ويتغافل. المخزنُ، في الاصطلاح السياسي، عند الباحثين المتخصصين، داخل المغرب وخارجه، يُطلق على نظام سياسي أساسُه ملكيّة وراثية "تنفيذية" مطلقة، أي يَستبد فيها الملكُ بكل السلطات، ويرتفع فيها على كل المؤسسات والهيآت، لا يُتابَع ولا يُحاسَب، ولا يُناقَش ولا يُراجَع. هذا هو نظامنا السياسي، الذي جاء الدستورُ الممنوح، في نسخته الأخيرة(يوليوز 2011)، ليرسّخه ويؤكده. فعندما نصف حزبا ما بأنه مخزني، فهذا يعني أنه لاعب في ملعب المخزن، مؤمنٌ بالفلسفة التي يقوم عليها نظامُه، لا اعتراضَ عنده عليه بما هو مخزن واستبداد، وإنما اعتراضُه على القشور والجزئيات دون الكليات الجوهرية. بهذا المنظار والفهم، أصنف، مثلا، أحزاب "العدالة والتنمية"، و"الاستقلال"، و"الاتحاد الاشتراكي"، و"التقدم والاشتراكية"، بأنها أحزاب مخزنية، أي قابلةٌ بالنظام المخزني، في جوهره وكليّاته، لاعبةٌ في ملعبه، وخاضعةٌ لقواعده وأحكامه، وإن كان في قواعد هذه الأحزاب أفرادٌ معارضون لدولة المخزن، وأصواتٌ لا تفتأ تحتح وتنتقد وترفض المسار الذي تسير فيه قيادتُها. هذا هو النوع الأول من الإسلامين. أما النوع الثاني، فهم الإسلاميون المعارضون للنظام المخزني، بما هو نظام استبدادي لاديمقراطي، قوامُه مؤسساتٌ قائمةٌ، وخاصة المؤسسات الحساسة التي لها وزن في الدولة وتسيير دواليبها، على تنفيذ الأوامر العليا، والتعليمات السامية. وهؤلاء الإسلاميون المعارضون ليسوا طبقة واحدة، ففيهم المعارضون الثوريون، وفيهم المعارضون الإصلاحيّون. وهؤلاء الإسلاميون معروفون لدى المهتمين بالشأن السياسي المغربي بتنظيماتهم واختياراتهم واجتهاداتهم وقياداتهم. (4) مصيبُتنا السياسيّة الكبرى هي النظام الجبريّ الاستبداديّ، وما يتفرع عنه ويتبعُه ويتعلق به من مصائب أخرى متفاوتة الخطورة والدرجات. ومصائبُ الإسلاميين التي أقصدها متصلةٌ، في صميمها، بمصيبة الحكم الاستبدادي، وآثارُها السياسيّة تخص الإسلاميين، بالدرجة الأولى، قبل غيرهم من عموم المواطنين، ومن التيارات والتنظيمات السياسية الأخرى. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن الإسلاميين، بما هم مجموعة من التيارات والتنظيمات السياسية القائمة على المرجعية الإسلامية، يواجهون داخل "كتلتهم" أو "فضائهم" الإسلامي مصيبةً تخصّهم أكثر من غيرهم من مكونات "الكتل" أو "الفضاءات" السياسية الأخرى. وفيما يلي شرحٌ وبيانٌ ببعض الأمثلة التوضيحية. هذه المصيبةُ التي تخص الإسلاميين أصلُها بعضُ الإسلاميين أنفسهم، وهم، بالتحديد، الإسلاميّون المخزنيّون، الذين اختاروا البيعَةَ والمشاركةَ والتصفيقَ للدستور المخزني في نسخته الأخيرة. وفي رأيي، يمكن حصرِ أبرزِ تجلياتِ هذه المصيبة في ثلاثة مسائل: المسألة الأولى تتعلق بهذا الخطاب الذي ما فتئ الإسلاميون المخزنيّون يدوّخون به رؤوسَ الناس، ويكررونه في كل المناسبات، لا يكلّون ولا يملّون، والذي يتحدث عن "البيعة الشرعية" وعن "إمارة المؤمنين"، بما هما الأساسُ للدولة الإسلامية المغربية القائمة، في زعمهم، على الأرض منذ قرون. وما يزال الإسلاميّون المشاركون في اللعبة المخزنية يَذْكرون "البيعةَ" و"إمارةَ المؤمنون" مِنْ أقوى أدلّتهم التي ترجّح عندهم القبولَ بالنظام المخزني، واختيارَ السير في ركابه، والدفاع عن فلسفته وثوابت دولته. ووجهُ المصيبة في هذه المسألة أن تجد من الإسلاميين، وفيهم علماءُ متمكّنون وفقهاء نابهون، منْ يدافعون عن دولة الاستبداد، ويحتجون بحجج يزعمون، بعد أن يعالجوها بفهمهم وفقههم، أنها حجج شرعية، ويستدلون بأدلة يذهبون إلى أنها، طبعا عبر منظار وعيهم ومن زاوية نظرهم، أدلةٌ قوية راجحة، تؤكد أن نظامنا المخزني لا غبارَ على أصالته إسلاميته. وجهُ هذه المصيبة أن يقالَ للمسلمين المغاربة، وبلسان الإسلاميين، إن البلاءَ والعناءَ الذي هم فيه إنما هو نظامٌ تزكّيه أصولُ الإسلام، وترجّحه قواعدُ الفقه الإسلامي ومقاصدُه. وجهُ المصيبة أن أعداء الإسلاميين وخصومَهم ومنافسيهم، وخاصة من معسكر اللادينيّين، لم يعد شيءٌ أسهلَ عليهم، في الطعن على المشروع الإسلامي، من أن يذْكروا مثالَ هؤلاء الإسلاميين المخزنيّين، ويقولوا للناس هاكمْ نموذجَ الدولة الإسلامية التي يبشّر بها الإسلاميون ويدافعون عنها!! والحقيقةُ أن هؤلاء الإسلاميين السياسيين المخزنيين، في غالبيتهم، لا يتعدون الكلام الإنشائي الدعائي العام في حديثهم عن "البيعة" و"إمارة المؤمنين"، لأن التفصيل في هذا الأمر سيُظهر أن حجتهم داحضة، وأن ما يذهبون إليه في احتجاجهم "الشرعي" للدولة المخزنية، ما هو إلا "فقه" فرضته عليهم الضرورةُ التي سِيقوا إليها وأقحموا في مضايقها، وما هو إلا فقهٌ يَستنْسِخ فقهَ الماضين، الذين شرّعوا لحكم السيف والقهر والغلبة، بحجة الحفاظ على بيضة المسلمين، أو "الاستقرار" بلفظ المقلّدين من الإسلاميين المحدثين. أين هي آثار "إمارة المؤمنين" في أرض الواقع، وفي حياة المسلمين، وفي مؤسساتهم، وفي مختلف مجالات مجتمعهم؟ أين هي روح هذه "الإمارة"، كما جسدتها سيرةُ الفاروق عمر، رضي الله عنه، في حياتنا السياسية، وفي مشاريع حكامنا ومخططاتهم، وفي قراراتهم وسلوكاتهم؟ ما هي هذه البيعة التي يتشبث بها الإسلاميون المخزنيون ويمدحونها؟ ما هي شروطُ البيعة الشرعية وأركانها في الإسلام؟ وما هو مضمونها ومقاصدها؟ وما هي مميزاتها الدينية ومعانيها السياسية؟ وأين تتجلى صفاتها التعاقدية التشاركية؟ وأين تقع بيعةُ محمد السادس، التي نعرف نصّها، وظروف توقيعها، وسياقَ فرْضها وتمريرها- أين موقعُ هذه البيعة من شروط المبايعة الحقّة، والتعاقد السياسي الصحيح؟ أنا يمكن أن أجد أكثرَ من عذر، وإن كان واهيا، لمن يدافعون عن الدولة المخزنية بدافع المصلحة السياسية الحزبية الضيقة، أو بدافع الطمع والمنافع المادية، أو بدافع الرهبة والعجز والانهزام، لكني لا أستطيع أن أجد عذرا واحدا لمن يَخضَعُ للاستبداد ويؤيده ويناصره على أن له أصلا في الإسلام، وعلى أنه نظامٌ له في قيّم العدل والشورى ما يعضده ويرجّحه. ليس بين الإسلام، في أصوله الصافية، وحقائقه البينة القاطعة، وبين الظلم والاستبداد إلا التناقض والتنافي والتباعد. ولا يستطيع أيّ فقيه، مهما أوتي من براعة في صناعة المبررات واستنباط الحيل، أن يثبت أن لأنظمة العضّ والجور والطغيان أصلا في الإسلام. ولا عبرةَ هنا بما قاله فقهاءُ السلاطين في الماضي، وما يقولونه في الحاضر، لأن الزبدَ يذهب جُفاءً. المسألة الثانية من مسائل "مصيبة الإسلاميين" أن المشاركين المخزنيّين منهم يصرّون دائما، وبشكل يبعث على الشفقة في كثير من الأحيان، على الفصل في دولة المخزن بين الملك وبين سائر أجهزة الدولة وأذرعها ومؤسساتها التنفيذية. فكل انحرافٍ في أمور الدولة، وكلُّ شر في مؤسساتها، وكلُّ مُنكَر في سياساتها وقراراتها، إنما مرجعُه، عند الإسلاميين المخزنيين، إلى "جيوب" تحنّ إلى الماضي، وإلى "عناصر" لم تستوعب مبادئ التوجه الجديد، وإلى "لوبيات" الفساد"، وإلى "استئصاليين" لا يضمرون خيرا للبلاد، وإلى غير هؤلاء من الفاعلين/الأشباح، والحاكمين/الأوهام، والمؤثرين/العفاريت، الذين لا يُشار إليهم إلا بالعبارات العامة الغامضة، والذين لا تملك أن تعبّر عنهم وعن أفعالهم إلا اللغةُ المناورة والمراوغة. وهذه اللغةُ ليست، في رأيي، من المسؤولية السياسية في شيء، بل ليس من السياسة أن نتحدث عن أمور الناس وشؤون الدولة بالإشارة إلى مسؤولين لا نعرفُهم، وإلى فاعلين نعجز أن نسمّيَهم. دولةُ المخزن بنية واحدة متماسكة الأجزاء، مبنية على سلطة هرمّية صارمة لا يملك أحد، مهما كان شأنه، أن يخرج عنها ويتعدّاها. ورأسُ هذه السلطة ومحرّكها وقلبُها هو الملك، الذي لا يمكن أن تمرَّ قراراتٌ مهمة، ذات صبغة سياسية أو اقتصادية، إلا بضوء أخضر منه. ففضلا عن التعليمات السامية، التي ليس لأحد في دولة المخزن أمامها إلا السمع والطاعة والتنفيذ، هناك مجلسُ الوزراء الذي يترأسه الملك، والذي يُعدّ المصفاة السياسية الرئيسية، التي يتحكم فيها النظام، والتي تمرّ منها جميع القرارات والقوانين والمراسيم والمشاريع والمعاهدات وغيرها من شؤون تدبير الدولة داخليا وخارجيا. فلا يُمكنُ، في نظامنا المخزني، أن يجتهدَ وزيرٌ من الوزراء، في أمور سياسية أو اقتصادية، مثلا، تمسّ الاختيارات الاستراتيجية للدولة من غير أن يكون للملكِ علمٌ، بل إن اجتهاد هذا الوزير، إن حصل فعلا، فسيكون في إطار قرار نازل من فوق، أو تعليمات عليا، أو توجيهات سامية، أو غيرها من الطرق والقنوات التي تؤكد دائما أن الملك هو الماسك بجميع الخيوط. في نظامنا المخزني، الملكُ يتمتع بسلطات فعلية مطلقة، ومن ثمّ، فمن التغابي والتجاهل أن ينتقد بعضُ الإسلاميين بعض تصرفات الحكومة، أو بعضَ قرارات أو مبادرات بعض وزرائها، على أساس أنها لا تحترم تعليمات الملك، وعلى أنها تخالف روح خطاب الملك في هذا التاريخ، أو تلك المناسبة. وكأنهم يريدون أن يقنعونا بشيء يستحيل الإقناع به، وهو أن الحكومة أو قطاعا أو أكثر من قطاعاتها يمكن أن يكون منهم قرارٌ ذو خطورة استراتيجية دون أن يكون للملك ودوائره المقربّة علمٌ به. ففي هذه الأيام، والحكومة منهمكة في الإعداد لانتخابات 25 نونبر المقبل، يصب الإسلاميون المشاركون جام غضبهم على وزارة الداخلية في حكومة عباس الفاسي، مركزين غضبَهم وانتقاداتِهم على مشاريع القوانين المتعلقة بالانتخابات القادمة، والتي أعدتها وزارة الداخلية، على عادة دولة المخزن في كل القوانين المتعلقة بالانتخابات، وواصفين هذه المشاريعَ بأنها ترمي إلى جعل الانتخابات المقبلة نسخةً من الانتخابات السابقة التي كانت تمتاز بالتزوير وبتدخل الدولة لصناعة الخارطة الانتخابية، والتحكم في النتائج على حسب خططها المرسومة، وأهدافها المطلوبة. يتهمون وزارة الداخلية، وهم أولُ من يعلم أن وزير الداخلية عندنا لا يسمع لأحدٍ غيرِ الملك، ولا يأتمر بأمر أحدٍ غير أمرِ الملك، ولا حسابَ له يؤديه لأحد غير الملك. بكلام واضح، الملكُ هو الرئيس الفعليّ والمباشرُ لوزير الداخلية، فكيف يُعقل أن يخالفَ وزيرُ الداخلية تعليمات الملك وتوجيهاته السامية؟ كيف يُعقل أن يتهم الإسلاميّون المخزنيّون وزارةَ الداخلية بأنها تتنكّب روح الإصلاحات التي عبّر عنها الملك في خطاباته، وخاصة بعد الإعلان عن مشروع التعديلات الدستورية الأخيرة في خطاب 9 مارس 2011؟ وكأن هؤلاء الإسلاميّين المشاركين الذين يُقيمون القيامة على وزارة الداخلية يريدون أن يقولوا لنا إن وزارة الداخليةَ تسير في اتجاه هو غير الاتجاه الذي رسمَه الملك. فهل هذا الكلام معقول؟ وهل في المغاربة، الذين يعرفون كيف تشتغل الآلةُ المخزنية عندنا، من يصدّق هذا القول؟ ألخّص فأقول إن الملك حاضر في كل شيء لأنه هو رئيس الدولة، وهو المسؤول الحقيقي، بحكم سلطاته وصلاحياته، عن كل ما يقوم به الوزراء، ومن ثَمَّ فإن الفصلَ في عمل الدولة بين رئيسها وبين سائر هياكلها ومؤسساتها هو فصل ينِمّ عن جهل تام بالسياسة في دولة المخزن، بل عن أسلوب فجّ ومفضوح للدفاع عن الملك، والدعاية للملكية بأنها لا يمكن أن يأتي منها إلا الخيرُ، وأن ما ما يخرج من دواليب الدولة من مفاسد وشرور إنما هو من جهات أخرى، لا تحترم توجيهات الملك. المسألة الثالثة في تجليات مصيبة الإسلاميين هي إصرار الإسلاميين المخزنيّين على المشاركة في اللعبة المخزنية مهما ظهر من فسادها، ومهما انكشف من عوارها وسوءاتها، ومهما بانَ من عيوبها وكَدَرها. لقد قرأت في هذه الأيام، التي تمتاز، سياسيا، باشتعال حُمّى الإعداد والاستعداد لانتخابات 25 نونبر القادم، كلاما كثيرا للإسلاميين المُشاركين ينتقدون فيه أسلوبَ الدولة في الإعداد للانتخابات، ويبيّنون بالحجج القاطعة أن الدولة، كما كانت دائما، سائرةٌ في طريق التحكّم في الانتخابات، وصناعة النتائج حسب ما رسمته وخطّطت له. وهذا الكلامُ في نقد الدولة وكشفِ توجهها اللاديمقراطي، وفضحِ إصرارها على فرض قوانينَ تسير في اتجاهٍ لا علاقة له بشعارات الحرية المزعومة، ولا بقواعد الانتخابات الحقيقية، الصافية من شوائب الغش والتزوير والتحكم، عن بعد وعن قرب- هذا الكلامُ الناقدُ الفاضحُ المحتجُّ كنا نسمعه دائما من المعارضة، ومنها الإسلاميون المشاركون، بل قلْ إن المغاربة قد ملّوا من سماعه، لأن أصحابَه ليسوا جادين في ما يقولون وفيما يعتقدون، لأن أقلَّ موقفٍ يجب اتخاذُه تجاه هذا الانحراف السياسي المخزني هو مقاطعة هذه اللعبة الفاسدة المغشوشة، والانضمامُ إلى صفّ المعارضين الساعين إلى إعادة النظر في أسس هذه اللعبة وقواعدها، وتطهيرِ الممارسة الديمقراطية من كل التقاليد المخزنية الاستبدادية، وتحريرِ الفضاء السياسي من قيود تسلط النظامِ واحتكاره لجميع الصلاحيات في إدارة الحياة السياسية، بدءا من وضع القوانين والقواعد والمساطر والإجراءات، وانتهاء بالتحكم في الانتخابات، وصناعة خارطتها حسب هواه. جعجعاتٌ كلامية، وقيامات خطابية، وعنتريّات إنشائية، ثُمّ ماذا بعدُ؟ إنه العبثُ السياسي بعينه إن كان قدَرُنا أن نسمع هذه الخطابات تتكرر من غير أن يتبعها سلوكٌ مسؤول، وقرارٌ عملي، يُبلِّغ رسائلَ واضحة إلى المستبدّين، ويُنبّهُهم إلى أن زمنَ التحكم في إرادة الناس قد ولّى، وأننا اليوم نعيش زمنَ الربيع العربي، الذي يفرض على جميع أنظمة الاستبداد والاستعباد أن تستمع لصوت الشعوب، وأن تخضع لإرادتها، وتحترمَ كرامتَها، وتصونَ حقوقها، وتعاملها على أن السيادةَ هي لها، وليس لغيرها، مهما كان قَدْرُ هذا الغَيْر وتاريخُه وسلطانُه. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين majdoub-abdelali.maktoobblog.com