تميزت خطابات عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، سواء أمام مناضلي وأنصار حزب العدالة والتنمية أم من داخل المؤسسات الرسمية (الجلسات الشهرية أمام مجلسي البرلمان)، بطابعها الانفعالي المشحون، وتوسله في العديد من المناسبات بمعجم دلالي منح لخطابه ثقلا رمزيا في حقل سياسي مطبوع باحتكار إنتاج الرموز، وحيث تعتبر هذه الأخيرة أحد الموارد الرئيسية للسلطة والفاعلين السياسيين على اختلاف مواقعهم. يبدو لنا أن بنكيران راكم، طيلة فترة ترؤسه للحكومة السابقة وكذلك ما أعقب هذه الفترة إثر تكليفه بتشكيل حكومة ما بعد انتخابات 7 أكتوبر 2016، رأسمالا رمزيا؛ وهو رأسمال ما فتئ يتقوى حتى في فترات الأزمة، حيث إن الفشل أو عدم القدرة على تشكيل الأغلبية الحكومية في لحظة ما سمي في الإعلام المغربي بالبلوكاج قد يحول من منظور آخر إلى جرأة وصلابة الموقف وقدرة على مقاومة استراتيجيات باقي الفاعلين والقوى المنافسة وكذلك ما أضحى يسمى في أدبيات العدالة والتنمية ب''التحكم". إن حديثنا هنا عن بعض ملامح المخزون الرمزي لبنكيران ليس انتصارا لهذه الأطروحة أو تلك، أو تحيزا إلى هذا التيار السياسي أو ذاك، بل فقط محاولة من بين محاولات أخرى للتفكير في السياسة والحقل السياسي بشكل خاص دون التفكير سياسيا، من خلال الوقوف على بعض ملامح بعد مهم من أبعاد الصراع داخل الحقل السياسي المغربي. الرأسمال الرمزي كنتاج للصراع السياسي لطالما حاول رئيس الحكومة السابق الظهور بمظهر مقاومة الاستبداد أو ما يسميه بقوى ''التحكم''، التي تحاول من منظوره تهميش الفعل الحكومي وإضعاف الأحزاب والمؤسسات التمثيلية، أو من خلال محاربة الفساد تحت مسمى ''التماسيح والعفاريت''، وهي مصطلحات لا تخلو من دلالات رمزية تتجاوز موقعه ضمن النسق المؤسساتي والدستوري لتجعل منه ذلك البطل أو الزعيم الذي يحاول تخليص المدينة من كل الشرور والآثام التي لحقت بها من جواء الطغيان والاستحواذ بالقرار، وتمثله كمدافع عن حقوق المقهورين أمام جشع وسطوة لوبيات الفساد. تغذى هذا المخزون الرمزي كذلك من خلال الصراع مع الفرقاء السياسيين المنافسين، وتحديدا حزب الأصالة والمعاصرة الذي يبدو أنه قدم خدمات مهمة لحزب العدالة والتنمية، بل إنه أسهم إلى جانب عوامل أخرى في إشعاع بنكيران الانتخابي، ومكنه من استمالة مزيد من الأتباع والمناصرين، وهو ما عكسته بوضوح نتائج الانتخابات التشريعية والجماعية والجهوية الأخيرة. إن هذا الرأسمال السياسي الرمزي، الذي تكوّن من خلال الصراع مع المنافسين في الحقل السياسي، ما زال ساري المفعول؛ بل إن بنكيران يحاول إغناءه واستثماره وإعادة إنتاج آلياته، من خلال توجيه سهام النقد إلى حليف الإسلاميين في حكومة سعد الدين العثماني وهو حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه، من خلال اتهامه بمحاولة المزاوجة بين الثروة والسلطة، وهو ما يؤشر على ملامح التنافس الانتخابي المقبل الذي سيكون حمي الوطيس بين هذين الحزبين، خاصة أننا نتابع منذ شهور كثافة تحركات رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار بين مختلف جهات وأقاليم المملكة وعودة الحياة الحزبية إلى هذا التنظيم السياسي، الذي يحاول أن ينحت مرجعية قيمية أخرى أكثر براغماتية (الديمقراطية الاجتماعية) يمكن أن ينافس بها على مستوى الخطاب السياسي مرجعية الحزب الإسلامي، بشكل قد يسمح له بتعبيد الطريق (أغراس) نحو قيادة الحكومة المقبلة. يمكن القول كذلك وبحذر شديد إن بنكيران استطاع شحن هذا المخزون الرمزي من عبر قدرته على منازعة ذكية لأحد أرثوذكسيات النظام السياسي المغربي، من خلال بعض تصريحاته بمناقشة الملك، بل والاختلاف معه في بعض القضايا والقرارات، مع التأكيد باستمرار على الولاء للملكية ولإمارة المؤمنين كمؤسسة مركزية في التاريخ السياسي والمخيال الشعبي المغربي؛ بل يمكننا المجازفة بالقول إنه حاول عن وعي أو غير وعي، وفي عدة مناسبات، النهل من رمزية الملك متعددة الأبعاد لتعزيز موقعه الاعتباري الخاص، وهو ما أزعج ربما التوازنات الرمزية للنسق السياسي المغربي. إن لعب بنكيران على واجهات متعددة للصراع مكنه من مراكمة رأسمال سياسي من شأنه أن يسهم في تقوية مكانة الرجل داخل الحزب، وكذلك في تعزيز قوته التعبوية والتنافسية، والتي يمكن أن يستثمرها الحزب كمورد رمزي أساسي في معاركه الانتخابية المقبلة. أزمة تشكيل الحكومة ودور الضحية شكل الإعفاء الملكي بعد ما عرف إعلاميا بالبلوكاج لحظة فارقة في حياة حزب الإسلاميين، وبقدر ما أحدث الإعفاء شرخا بارزا في صفوف التنظيم؛ غير أن قدرة رئيس الحكومة المعفى على التسويق لخطاب المظلومية ولعب دور الضحية Posture victimaire، قد يحول هذه الخسارة الناتجة عن الفوز الانتخابي (وهو ما يمكن وصفه بالمفارقة الانتخابية بالمغرب) إلى ربح مؤجل في مجتمع غالبا ما يتعاطف مع الضحية أو على الأقل مع من يعتبر نفسه كذلك، فهو خطاب يتمتع بقابلية قصوى للاستهلاك من لدن مواطنين قد لا يهتمون كثيرا بالسياسة بمفهومها الواسع، لكن فقط في بعدها السياسوي أو الانتخابي. لقد وجد هذا الإعفاء صدى له كذلك في صفوف زعماء الحزب وأعضائه، وهذا ما برز من خلال تصريحات وكتابات حاولت إسقاط فكرة الضحية على الناخبين، والحديث عن ضرورة استرجاع كرامة المواطن واعادة الاعتبار للإرادة الشعبية؛ بل إن المؤتمر السادس لشبيبة الحزب رفع شعار النضال والوفاء من أجل الوطن والإرادة الشعبية. يمكن القول إن لحظة الإعفاء سمحت بتقمص دور الضحية فرديا وجماعيا؛ لكنها كذلك مكنت من الوقوف مرة أخرى على طبيعة موازين القوى التي ما زالت مهيمنة، والتي ما فتئت تنفلت بمكر من معيارية القواعد الشكلية (الدستور المكتوب)التي يفترض أنها تؤطر الممارسة السياسية في المغرب. إن حزب الإسلاميين قد تفاعل ظاهريا بإيجابية مع بلاغ القصر الذي حمل قرار إعفاء بنكيران من رئاسة الحكومة، إلا أن خطاب هذا الأخير وكذا بعض تصريحات قادة ومناضلي الحزب تضمر نوعا من الانهزامية وقبول الأمر الواقع والمتمثل في تفوق استراتيجية قوى الدولة العميقة على كل استراتيجيات العدالة والتنمية، وطمس هامش الفعل المتاح أمامه؛ وهو ما يمكن أن يفرز مستقبلا سلوكا سياسيا تعويضيا يحاول التأكيد على تجذر الحزب كرقم صعب التجاوز ضمن المشهد السياسي المغربي. إذا كانت الأزمة التي عرفها تشكيل الحكومة الحالية قد اعتبره بعض الباحثين والمهتمين ردة عن الوعود الوردية لدستور 2011، فقد اعتبره باحثون آخرون مؤشرا على ارتفاع غير مسبوق لمنسوب مقاومة السلطوية في المغرب للتغيير من الداخل، هذه المقاومة الشرسة لفضت رئيس الحكومة السابق خارج اللعبة السياسية، وهو الذي عرف بخطابه الانشطاري بين مغازلة السلطة تارة، وتبني خطاب معارض تارة أخرى. التكلم باسم المناضلين والأتباع من المعروف أن رجل السياسة لا يتكلم بصفته الشخصية، بل باسم من يمثلهم من جماعات وتنظيمات وتيارات اجتماعية وسياسية، وذلك باعتباره ناطقا بلسانها ومعبرا عن خطابها الرسمي. لقد ظهر من كل المحطات التنظيمية التي مر بها حزب الإسلاميين، منذ إعفاء رئيس الحكومة السابق (المؤتمر الوطني-مؤتمر الشبيبة)، أن الوزن السياسي لزعيمه السابق عبد الإله بنكيران وحجمه لا يمكن قياسه فقط بالاقتصار على موقعه ضمن الهياكل التنظيمية والأجهزة التقريرية للحزب، وكذا ما تقرره القوانين والأنظمة التي يشتغل بها التنظيم، بل بالوقوف على قدرته على توجيه مناضلي الحزب وتعبئة الأنصار حول قرار أو موقف معين، بل على احتكار الحق في الكلام باسم مجموع المناضلين بالرغم من فقدان صفة القيادة الشكلية والاكتفاء بالعضوية في المجلس الوطني للحزب. يكفي أن نلاحظ مثلا الطريقة التي تفاعل بها المؤتمرون مع مداخلات وكلمات بنكيران في هذه المؤتمرات، من خلال الهتاف وترديد شعارات حماسية تضمر الكثير من الاعتراف برمزيته داخل الحزب وكاريزميته الواضحة؛ بل إنها تعبر عن انخراط واسع وقوي في رؤيته لواقع ومستقبل الحزب. في المقابل، اتسم التفاعل مع المداخلات الهادئة لسعد الدين العثماني، الأمين العام الجديد، بكثير من البرود واللامبالاة؛ بل إن اللافت كذلك هو ترديد شعارات تنادي بعودة الأمين العام السابق إلى قيادة الحزب. إن بنية الحزب وطبيعة العلاقات وموازين القوة داخله لا تعكسها فقط نصوصه المنظمة والتموقع في هذا المركز أو ذاك؛ بل إن الكثير من ملامحها توجد على لسان الأتباع والمناصرين الذين ما زالوا يمجدون الزعيم، إذ إن الوقائع الملاحظة غالبا ما تكذب الخطابات الرنانة حول أسبقية المؤسسات على الزعامات والأشخاص؛ وهو ما يحيل على إشكالية عرضانية أخرى تتعلق بمدى قدرة المنظومة القانونية والمؤسساتية على تغيير الثقافة الاجتماعية والسياسية السائدة في المجتمع وداخل التنظيمات المنحدرة منه. ختاما، يمكن القول إن رمزية بنكيران أسهمت في الحفاظ على وحدة حزب الإسلاميين بعد أزمة البلوكاج؛ لكنها انعكست كذلك على دينامية الحقل السياسي، بل إنها كشفت لنا بعض من كواليس وردهات الإخراج للمشهد السياسي المغربي. كما يتوقع أن تجد صدى لها كذلك في استراتيجيات الحزب المقبلة، خاصة مع إصرار بنكيران على عدم الانسحاب من الحياة الحزبية والسياسية. إن ما عرف بميثاق الأغلبية، الذي وقعه مؤخرا الأمناء العامون للأحزاب المشاركة في التحالف الحكومي، قد يفهم كرد فعل رمزي من قبل هذه الأحزاب يحاول احتواء ما يمكن أن نسميه ب''مفعول بنكيران''Effet Benkirane على العمل الحكومي بشكل خاص، وعلى الحقل السياسي والرأي العام. كما أن تعامل قادة حزب العدالة والتنمية مع تداعيات التصريحات الأخيرة قد يؤشر على نزوع نحو عدم التفريط في هذا الاحتياطي الرمزي بهدف توظيفه عندما تستدعيه الضرورة السياسية. *كاتب وباحث مغربي في العلوم السياسية. [email protected]