ترتبط السعادة في مدلولنا بالوقت السعيد الذي ننفقه في سبيل ملذات صغيرة، وبأيام التسلية التي روَّحنا فيها عن أنفسنا.. معها تحول كل شيء في مجتمعنا إلى فرحة ومشهد وملذات، حتى غدا الإنسان في عصرنا يسكنه جنون التسلية، تدل على ذلك مظاهرها؛ بدءا من الاستماع للأخبار أو تصفح مجلة أو صحيفة، وصولا إلى أسخف الأشياء التي يصل إليها نظرنا في عالم الشبكة العنكبوتية أو ما تبصره أعيننا في الهوائيات عبر ما تعرضه محطات التلفاز من برامج هَزْلية وهَزيلة كَقُعاقِعَ، لا جوهر لها قطُّ، كعملة معدنية سُكَّت في نقوشها علامة بارزة لا ترى فيها إلا المتعة والتسلية. إننا كائنات مرحة تسعى إلى الاستمتاع في كل شيء وبكل شيء، ما دمنا نعيش الموضوع مفصولا عن جوهره ويحوم حولنا الوهم والخيال والسمولاكر؛ فالتسلية تحجب عنا رؤية العالم الحقيقي وفهم ماهية وجوهر أنفسنا، وما نحن عليه. لم يعد يهمنا أن نمتلك ناصية العقل أو نمارس حرية الرفض أو نتلذذ بالمشاكسة أو المواربة أو التناظر في موضوع فكري، بل كل ما يهمنا هو: إشباع الرغبة وتحقيق لحظات من التسلية واللعب. حتى لو رفض فكر الإنسان ما يُقدم إليه، فإن جسده وحواسه ورغباته المدفونة تتمسك بتلابيبه ليظهر لنا في ألوان التسلية الرخيصة أو بلَبُوس الفرجة spéctacle . فالإنسان يبحث عن السعادة بالتسلية ليهرب من الشقاء والألم والتعاسة. إن البشر وقد عجزوا عن مغالبة الموت واليأس والجهل فضلوا أن يعدلوا عن التفكير إطلاقا، ليفتحوا أعينهم أمام ما يبهج ويُسَلِّي. إن الإنسان يهرب من حقيقة واقعية ليُمسك -أو يَتمسَّك بالأحرى- بسعادة مؤقتة تنفلت بعد لحظات؛ مادامت الغبطة زائلة إما بالمرض أو الألم أو الموت أو حوادث الدهر، ويصدق عليه المثال الذائع الصيت: "ليس كل ما يبرق ذهبا". يتبع ذلك أنه كلما حُرم الإنسان تسلية أو لهوا إلا وظل تعيسا. هذا يدفعنا إلى تَقْليب دلالة التسليةdivertissement /distraction التي تعني ما هو مُبهج ومُمتع؛ وهو ليس ما تدل عليه الكلمة اللاتينية divertere قبل القرن السابع عشر، والذي يعني فعل التحويل action de détourner de عن الأساسي أو التحويل خارجا. إذا كان فعل السعادة هو التحول عن الشقاء صوب اللذة والمرح والبهجة فهل التسلية سعادة أم شقاء متجدد؟. يقول Bascal Blaise في كتابه خواطر في الفقرة 139 «إن البشر، وقد عجزوا عن مغالبة الموت والبؤس والجهل، ارتأوا في سعيهم إلى أن يكونوا سعداء أن يعدلوا عن التفكير إطلاقا»1. يعرف باسكال بليز الإنسان أنه قصبة خيزران roseau مفكرة؛ وهي إشارة إلى ازدواجية الوضع الإنساني المتمثلة في أنه ضعيف (الجسد) وعظيم (الفكر) في آن. وتكمن عظمة الإنسان وشَرَفُه في عقله؛ ويتجلى ضعفه في جسده وأهوائه، وهو سبب شقائه وتعاسته؛ وبما أن هذه حاله فإنه يعي ضعفه الذي يسبب له الشقاء، ويرفض أن يرى حقيقته هاته. فمعرفة الإنسان بمنزلته، أي بأنه مهدد بالموت والزوال والشقاء، تضاعف عنده الشعور بالألم والشقاء.. فماذا بقي أمامه للفرار من هاته الحالة التي تتهدده؟ لم يبق أمامه سوى أن يتناسى منزلته البائسة من أجل التزود من أشكال التسلية واللهو؛ وهو معنى التحويل عن الأساسي الذي تشير إليه دلالة مفهوم التسلية détourner de . لذلك فالحياة كلها تحويل وتحوير عن الغاية؛ بما هي توجيه نحو الملذات لغرض الراحة النفسية والسِّلوان، فهي إقبال على الشهوة والإمتاع والنشوة. وبمجرد زوال هاته اللحظة يعاود القلق الظهور، بل يتضاعف بالتفكير في وضع الإنسان. فهاته الراحة عادت ألما ومللا لا يُحتمل؛ لأننا حينئذ نفكر في الشقاء الذي نحن فيه أو الذي يتهدَّدُنا، فالمفارقة أننا إن وجدنا أنفسنا بمأمن كاف من الجهات جميعا، لا يلبث السأم بالظهور ويسدل سلطانه الخاص، وينطلق من أعماق القلب، -حيث جذوره الطبيعية - ويملأ الروح بسمومه. إن الشيء الوحيد الذي يواسينا في شقائنا هو التسلية، والحال أنه باستمرارها تكون أكبر أنواع شقائنا، لأنها تمنعنا من التفكير في أنفسنا، وهي تجعلنا نتيه دونما إحساس بذلك، وما إن نجد موضوعا نتسَلَّى به حتى نَمَلَّ منه، ويصبح ما كان بالأمس مسليا في غده مضجرا. غير أن المفارقة أن الإنسان لا يريد أن يرى ما هو، لأنه لو عرف ماهيته ومنزلته بما هو كائن ضعيف وفان لأوقعه ذلك في القلق والهم. ومن أجل ذلك يتلهى بأمور يسعى إلى تحصيلها، ولمَّا يتحصلها، يتملكه الألم والقلق من جديد، فيَدِبُّ للبحث عن موضوع تسلية آخر وهكذا؛ فقدره أن يعيش في الشقاء ويعيش وهم السعادة، الذي يخلقه الإنسان لنفسه لتجاوز ضجره وملله وضعفه ومصيره، ليتيه في ملذات وأغراض صغيرة، سرعان ما تتحول بدورها إلى شقاء، وسرعان ما يتسرب إليه الملل والسأم من جديد. ما الذي يختفي وراء التسلية كشأن يومي في واقعنا؟ إن الدافع وراء التسلية كموضوع يومي لا يعود إلى قرار شخصي أو إرادي، وإنما هو شكل قسري، يُفرض على الإنسان بسبب ما يحشده الإشهار لبناء الحياة الاستهلاكية، من ضروب شتى، من قيم وأنماط وطقوس وعادات وبحث عن آخر الموضات تجسيدا للصورة النمطية وحفظا للمكانة الاجتماعية وغيرها ... فواقع التسلية مُغَلَّف بحالة الوصاية التي تمارسه مؤسسات التسلية عبر ما يبث في مقاطع الإعلانات أو المطويات أو الصور الإشهارية، ذات الطابع الاستهلاكي التي تتسلح بالرموز والعلامات، فتصب سحرها على المستهلك لتستحوذ على لبَّه، وتوقعه في وهم اللذة والتسلية؛ بفعل سلطان الإغراء والشهوة والجسد الذي يَتَغلَّفُ بشكل نموذجي مصنوع ويختفي وراءها مضمون التسلية الذي يحضر عبر لغة الصورة والألوان البراقة. فموضوع التسلية كشأن يومي يسكت عن موضوع جوهري، يلزم معه طرح سؤال لماذا؟ وكيف؟ ليفصح عن عرضية الصدفة. فتجتهد الشركات في أصناف الموضات وتلاوينها، لإقناعنا بعقلانية اختيارنا و عيارية قيمه؛ لكنه في الحقيقة مُغَلَّف بمنطق الترف والإسراف والسعي وراء الربح؛ تحت ذريعة: هذا هو ما يستحقه النموذج أو العلامة التجارية، كشكل من أشكال الصناعة والترويج للمثال. وهو ما نشهده في قصات الشعر أو آخر صيحات الموضة، وغيرها. وهو ما كشف خباياه السوسيولوجي الأمريكي من عائلة نرويجية مهاجرة velben Throstein في كتابه: نظرية الطبقة المترفة THE Theory of the leisure class 1899؛ وما عرض له أيضا Jean Baudrillard في كتابه La Société de consommation سنة 1970. فالمجتمع الاستهلاكي يصنع أنواع اللذات الصغيرة؛ حتى لعبة الأطفال التي نشتريها تحرمنا بعد الإبداع والخيال، لتقول بلسان حالها استهلك واخلد للراحة، فهناك من يهتم بالتفكير بدلا عنك !!!وقتئذ يُفقد بُعد الإبداع الذاتي الحر للفرد، ليطغى البعد الأداتي كشيء مصنوع من الغير، وعبر الأداة يتم تبادل وتداول أفكار وقيم غريبة، تشكل لبنة الاستيلاب والاغتراب والهيمنة، لتترجم في تسلية أشبه ما يكون بصراع الإرادات والقوة، لتصبح التسلية سلعة.فوراء التسلية تغمرنا مظاهر الوهم. فهلا تساءلنا، أووقفنا عند حدود المظاهر التي تشكل المتعة غلافها الخارجي؟! لكي نفتح على الأقل أغواره ونكسر حواجز المظهر بالشك حول أسباب ومخلفات المتعة، وما ينتج عنها. فكل تسلية تكشف بوادر الاستيلاب الحضاري.. «إن الأساليب الإيحائية شبه التنويمية المستخدمة في الإعلانات التجارية والدعاية السياسية تعد خطرا كبيرا على الصحة العقلية، وخصوصا على الصفاء الذهني والتفكير النقدي واستقلالية الوجدان.»2. إن التسلية اليومية هي تسلية لها ثمن يدفعه الإنسان من حريته واستقلال إرادته؛ إنها تمارس نوعا من الحَجر على عقولنا وتحرمنا الحرية كي نختار. فبواسطة الثقة الزائدة في ما تنشره وسائل الإعلام اليوم لا نستطيع أن نحقق فعل الوجود الحقيقي، مادام الإنسان عاجزا بفعل حجم التمويه والتنويم والتخدير العقلي أحيانا الذي لا يملك بعده إلا أن ينخرط في هذه الدوامة من التسلية، لكي يهرب من القلق، وينغمس في لحظة عابرة من التسلية التي تصنع سعادة مزيفة، يلفها حزام سميك من عالم المظاهر واغتيال جوهر الأشياء، إنه ملفوف بعودة إلى الحياة وقلب القيم الأفلاطونية، والبحث عن القيم الديونزيسية حسب صاحب فلسفة المرح وهو يُحيِّي في كتابه: العلم المرح، الفيلسوف البهلوان والمهَرِّج على حساب الصرامة المنطقية. 1- بليز باسكال، إدوارد البستاني،1972،خواطر،المكتبة الشرقية، بيروت ص 62. 2- فروم إريك،1989 الانسان بين الجوهر و المظهر، ترجمة سعد زهران، سلسلة عالم المعرفة عدد 140 ص 202 و 2032. *مؤطر تربوي للسلك الثانوي التأهيلي تخصص فلسفة.