الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، بعد غزوة أحد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع نساء الأنصار يبكين أقاربهن ممن استشهدوا، وكان من أبرز الشهداء عمه حمزة إلا أنه لم يكن له بالمدينة قريبات يبكينه فقال: "لكن حمزة لا بواكي له" رواه أحمد وابن ماجه.. اقتبستُ هذه العبارة لمناسبتها لحال التربية الإسلامية في تعليمنا وحال الفلسفة وغيرهما من المواد الدراسية، فإن كانت كلها تشترك في القدر المشترك من مصائب التعليم، إلا أن المصائب درجات، وللتربية الإسلامية النصيب الأكبر، وضج أساتذة الفلسفة مؤخرا بالنحيب والعويل، وأكثروا من الصياح والنياح على ما سموه اغتيالا للفلسفة، ويقصدون استثناء الفلسفة من الامتحان الوطني للباكالوريا المهنية وتعويضها بالتربية الإسلامية، وأسالوا مدادا كثيرا بعبارات الاغتيال للفلسفة وأنه اغتيال للإنسان والعقل والحق في الحياة، وهذه بعض العناوين: "الهجوم على الفلسفة اغتيال للعقل والعقلانية" و"اغتيال الفلسفة اغتيال الحق في الحياة" "محنة الفلسفة في دار الإسلام.. الاستبداد وصناعة القطيع"... ورافقت هذه المقالات دعوة إلى إنشاء "رابطة وطنية" للترافع عن الفلسفة .. دفاع القوم عن فكرهم أو فلسفتهم من حقهم، وهو المنتظر والمتوقع من كل غيور على مادته أو فكره، ولكن ليس من الحق الكذب، وكيل التهم لمادة أخرى، ووصفها بالأوصاف القادحة، وتوظيف قاموس الحرب والهجوم والاغتيال والصراع والكراهية الذي يزعمون رفضه، والذي شحنت به هذه المقالات وغيرها، حتى استعمل لفظ الاغتيال من قبل كاتبين لمقالين" ...اغتيال للعقل..." "اغتيال الفلسفة اغتيال الحق".. التلبيس على القراء بالحديث عن الباكالوريا بدون تحديد أو توضيح بعضهم يتحدث عن الموضوع بدون تدقيق وبدون تحديد فيوهم الناس أن التربية الإسلامية حلت محل الفلسفة في امتحانات الباكالوريا، والأمر يتعلق فقط بالباكلوريا المهنية والتي تعدّ شعبة حديثة جدا وغير معممة وحتى الثانويات التي تتوفر فيها هذه التخصصات لا تتجاوز القسم في كل تخصص وبعدد قليل من التلاميذ، بمعنى أن الأمر يهم نسبة قليلة من أصل تلاميذ الباكالوريا الذين يعدون بعشرات الآلاف ويمتحنون في الامتحان الوطني في الفلسفة ولا يمتحنون في التربية الإسلامية. عقدة الصراع الإيديولوجي مع الإسلاميين نسب أحدهم الأمر إلى الداودي والعدالة والتنمية بتعبير يوحي بالجهل بمن يتولى حقيبة التربية الوطنية أو بالجهل بأن الداودي لم يعد وزيرا للتعليم العالي فقال: "... في سياق تعليله وتبريره حذف مادة الفلسفة من مكونات امتحانات البكالوريا المهنية في أفق أن يقوم لحسن داودي بشطبها من مقررات التربية والتعليم العالي... ما هي القرينة التي اعتمدها إخوان داودي لإلغاء الفلسفة من امتحانات البكالوريا المهنية؟ يفهم من المقالات "بواكي الفلسفة" التلميح إلى الصراع الإيديولوجي مع الإسلاميين وأنهم استغلوا وجودهم في الحكومة لاغتيال الفلسفة، بالرغم من أن حزب العدالة والتنمية لم يتحمل مسؤولية التربية الوطنية لا في حكومة العثماني ولا في حكومة بنكيران. والحقيقة هي العكس تماما فهذه الحكومة والتي قبلها والمحسوبتان على العدالة والتنمية لرئاسته لهما لم تنصف التربية الإسلامية، ولم ترفع الظلم الذي نزل بها وخاصة في حكومات اليسار التي نقصت من عدد حصصها الدراسية؛ بل عرفت المادة، تحت غطاء تعديل البرامج، تراجعات وكوارث في البرامج والتأليف.... ولم تغن عنها الحكومة ولا الوزراء "الإسلاميون" شيئا... ولم يرفع غلافها الزمني ولم يرفع معاملها المتذيل لمعاملات المواد الدراسية، بل بقيت دار لقمان على حالها. وذكر آخر مثل هذا المعنى وناقض نفسه لما أثبت وجود الفلسفة في الامتحانات الوطنية لجميع الشعب ويجتر مظلومية الفلسفة فقال: "التوجه الذي نهجته الوزارة منذ الموسم الدراسي 2006- 2007، والذي يقضي بإدراج الفلسفة ضمن الامتحان الوطني في مختلف الشعب والتخصصات... لكن ما تعرضت له الفلسفة ( وما زالت تتعرض له حتى الآن) من تضييق وحصار باسم الإسلام، يجعل استنبات التفكير العقلاني في مجتمعاتنا أمرا غير هين على الإطلاق..." فأي المادتين تعاني من التضييق والحصار الفلسفة أم التربية الإسلامية؟ اجترار محاربة الدين في أوروبا للعقلانية والعلم من القواعد المعروفة عند علماء المسلمين أنه لا قياس مع وجود الفارق، ولو قرأ المتفلسفون بداية المجتهد لابن رشد الذي يمجدونه لأفادهم بتطبيقات كثيرة لها؛ فعند استحضارهم للمواجهة التي كانت في أوروبا بين العلم والعقلانية من جهة، وبين الدين والكنيسة من جهة ثانية، يقومون بإسقاط الأمر نفسه على واقع العلم والدين في الإسلام مع وجود فوارق شاسعة لا يصلح فيها القياس، فالإسلام دين دعا إلى العلم وحارب الجهل وفتح المجال لدراسة جميع العلوم النافعة وتعلمها المسلمون في المساجد، وأبدعوا فيها بما في ذلك الفلسفة، في جمع بين الدين والعلم لم تعرفه أوروبا، فابن رشد الفيلسوف الممجد هو نفسه الفقيه المجتهد، وكتابه السابق من أجل كتب الخلاف الفقهي، بل ليس له نظير عند غير المالكية في بابه. عبر أحدهم عن حسده الأوروبيين الذين تجاوزوا التخلف في نظره بتحطيم الثوابت الكنسية فقال: "بينما نجح الأوربيون إلى حد بعيد في تجاوز التخلف والانحطاط الوسيطي بفضل التفكير الفلسفي الذي هز كثيرا من الثوابت الكنسية،... وهكذا حطمت العقلانية الأوربية خلال مرحلة "عصر الأنوار" آخر معاقل الأرثوذوكسية الإكليروسية..." ومثل هذا التشبيه والإسقاط يجعل الإسلام مثل الكنيسة، وأن الحل للتخلف هو العقلانية المتحررة من الدين وتحطيم ثوابته بل تحطيم معاقله إلى آخرها، غير أنه بعد أسطر ينسى ما سطر من عبارات هز الثوابت الدينية وتحطيم معاقله... ويرجع إلى الحديث عن قيم التسامح وقبول الاختلاف فيقول: "لأن التربية على قيم التسامح والحق في الاختلاف وحرية التعبير والنقد... تمتد إلى السياقات اليومية للعلاقات الاجتماعية" أم أن التربية الإسلامية وحدها هي التي يجب شحن مقرراتها بقيم التسامح وقبول الاختلاف، في الوقت الذي على الفلسفة أن تشتغل بتحطيم معاقل الدين...؟ اعتبار العمل عبادة فخر للتربية الإسلامية وذكر أحدهم باستخفاف أن التربية الإسلامية تجعل العمل عبادة، بينما التفكير الفلسفي يربطه بالاستمتاع بالحياة وتأمين مستقبل الأبناء...، وهل التربية الإسلامية تمنع الاستمتاع بالحياة؟ أم أن الحياة عنده هي المحرمات والموبقات؟ وهل التربية الإسلامية تمنع من التفكير في مستقبل الإنسان أو مستقبل أبنائه؟ ولعلمه فمن الدروس المقررة: الأمانة والمسؤولية، ودرس الزواج، ودرس رعاية الأبناء، ودرس الأسرة، وحفظ النسل والعرض من مقاصد الشريعة، وكلها متصلة بهذا الباب، ومن النصوص المشهورة قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكلم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..."رواه البخاري. فلو بحث المتفلسفون في تراث فلاسفتهم شرقا وغربا لن يعثروا على مثل هذه القيمة في رعاية الأبناء وغيرهم من المسؤوليات... وهل هناك دافع للعمل أسمى من جعله عبادة؟ فيجتمع الدافع الدنيوي الفطري، والدافع الروحي التعبدي. وأيهما أقرب إلى الإخلاص في العمل وإتقانه ورعاية المسؤولية والأمانة واجتناب الغش والخداع والاختلاس...التصور الذي يعده عبادة يتقرب بها إلى الله، أم الذي يعده وسيلة للاستمتاع بالحياة وتأمين مستقبل الأبناء؟ أم أن المشكلة عنده أصلا في مصطلح العبادة والمعبود وأن الإنسان لم يوجد إلا للاستمتاع بالحياة؟ وأنه جوهر الفلسفة التي يتباكى عليها؟ فينطبق عليه قوله تعالى: "وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ" (الجاثية: 24). التفكير النقدي سر تطور العلوم الإسلامية مسألة أخرى يجترها مهاجمو التربية الإسلامية تتعلق بأن الفلسفة تربي المتعلمين على التفكير النقدي وأن التربية الإسلامية ترسخ الجمود والتحجر وثقافة الرعية وغيرها من العبارات التي لا يجمع بينها سوى القدح في المادة وبرامجها. ويكفي أن أذكر القوم بأن نص ابن الصلاح الذي أقاموا عليه المعركة لم ينبههم عليه إلا التفكير النقدي لأساتذة التربية الإسلامية، فالذي سبقهم إلى إثارة الموضوع هو الأستاذ عبد الله الجباري في مقال نشره على هسبريس، ولو قرئت كتب الفلسفة بنفس المنهجية لوجدت فيها نصوص كثيرة تصادم عقيدة المتعلمين وتشككهم في دينهم، وهي مسؤولية تقع على عبد الله الجباري الذي فتح باب الهجوم على المادة، ثم سكت بعد ذلك، كما سكت على هجوم هذه الأيام. أما تربية الإسلام على قول الحق والنقد الصادق الهادف إلى بيان الصواب، فعليه أكثر من دليل، بل يدخل في مجال الواجب شرعا ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن النصيحة التي هي الدين...ففي الحديث: "الدين النصيحة..."ويكفي النظر إلى التراث العلمي الإسلامي وكم فيه من الكتب الخلافية والمناقشات النقدية والمناظرات العلمية والحجاجية، وردود العلماء ونقدهم لكتب بعضهم البعض... والمنهج النقدي من المواضيع التي اشتغل بها باحثون كثيرون في رسائل جامعية ودرسوا تطبيقاته عند كثير من العلماء. *باحث في الدراسات الإسلامية