عرف أحمد عصيد بنقده للإسلاميين وهو حق مكفول بشرطه من خلال ثلاثة مستويات: المستوى الأول ، بنقده لمرجعيتهم المتمثلة في القرآن والسنة، حين زعم أن النص القرآني خضع للتحريف والتبديل، شأنه في ذلك شأن باقي الكتب التي تزعم أنها سماوية، ثم زعم أن أسلوبه غير معجز لأن في الشعر الجاهلي ما يفوقه بلاغة وبيانا وسحرا، وأن الناسخ والمنسوخ والصحيح والضعيف قواعد استحدثت من أجل رفع التناقض داخل النص الديني!!وقد بينا تهافت هذه الادعاءات في حينها. المستوى الثاني، بنقده للتأويل الإسلاموي للنص الديني وقراءته بما لا يستجيب للتطور الحداثي الذي تعرفه المجتمعات الإنسانية، حيث بقيت هذه التأويلات حبيسة الاجتهادات التراثية التي عبر عنها الفقهاء القدامى، والتي لا تتجاوز في أحسن الأحوال السقف المعرفي لعصورهم، بينما معطيات العصر الحديث والثورة المعرفية الهائلة التي واكبت النهضة الأوروبية منذ قرنين على الأقل تتطلب جرأة في صياغة اجتهادات معاصرة تقطع مع الماضي ومخلفاته الفكرية وصراعاته السياسية، وكثيرا ما يحيل هنا على الخلاف السياسي بين الصحابة. المستوى الثالث، باتهامه للإسلاميين باستغلال شعبيتهم المبنية على خطاب شعبوي يمتح من مرجعية تقليدانية في مجتمعات لم تخرج بعد من التقليد إلى الحداثة، للاستفادة من معطيات الديمقراطية الإجرائية دون الوفاء لقيمها الإنسانية ومرجعيتها الكونية، حيث حصروها في لعبة الأغلبية لأنها تسعفهم في الانقضاض على الحكم!! وقد ناقشنا السيد عصيد بهدوء في مجمل أفكاره الغير وجيهة، إذ هي لا تتجاوز الاتهامات الجاهزة التي يدندن حولها العلمانيون في بلادنا منذ خروج الاستعمار الأوروبي من البلاد العربية، وتركه لفراخه في مراكز القرار يعلنون الحرب على قيمه وثقافته ولغته ورموزه ومرجعيته، ويزجون بعلمائه ورواده في الإصلاح في السجون والمعتقلات، ويفرضون عليه قيم الحداثة الغربية بفلسفتها المادية وتعبيراتها الفنية والثقافية عبر الإعلام والبرامج التعليمية. فلما فشلوا في مساعيهم بعد خمسة عقود من خروج المستعمر لجأوا في بعض البلاد كتونس وتركيا إلى المقاربة الاستئصالية التي تقطع مع الدين كأهم رافد لثقافة التنوع والتعايش التي تزخر بها المنطقة، لكن المفاجأة المدوية أن الدول التي سلكت هذا الطريق هي التي تقدم اليوم نموذج الانهيار السريع للعلمانيات المتطرفة. فالربيع الديمقراطي للثورات العربأمازيغية استهل مساره بإسقاط أعتى الديكتاتوريات الحداثوية في تونس، حيث بلغ الإجحاف بالدولة البوليسية على عهد بنعلي المخلوع أن تحاسب الناس على ولوجهم المساجد، ولباس المرأة للخمار، وإيقاد الضوء في البيوت بعد أذان الفجر!! في حين أن الحركة الإسلامية في تونس ممثلة في حركة النهضة لعبت دورا كبيرا في تأصيل القيم الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة من داخل المرجعية الإسلامية، مما عرض مؤسسها الشيخ راشد الغنوشي والمدرسة الوسطية التي ينتمي إليها لانتقادات هائلة من المتشددين الإسلاميين. أما في تركيا الكمالية التي أعلنت الحرب على الإسلام منذ أن دفن أتاتورك الخلافة الإسلامية، فقد عاد الشباب التركي المتعلم ذكورا وإناثا للتشبث بقيمه المتجذرة في وعيه الجمعي، والنهل من ثقافته الإسلامية، فأنشأ المدارس والقنوات الدينية وشارك في التدافع السياسي السلمي، وترجم العديد من مؤلفات رواد المدرسة الإصلاحية المعاصرة إلى التركية، وعلى رأسها كتب ومقالات الشيخ راشد الغنوشي التونسي، وكانت النتيجة تفاعل القاعدة الشعبية التركية مع طلائع النخبة الإسلامية المتنورة التي استفادت من معطيات الديمقراطية الحديثة دون أن تتنكر لقيمها وفلسفتها الإسلامية، لتبهر العالم بمعدلات التنمية الاقتصادية المرتفعة التي نقلت مجتمعا كان على حافة الانهيار إلى مصاف الدول المتقدمة في ظرف وجيز. يمثل العلمانيون اليوم الطابور الخامس لإعلان الحروب الفكرية الممهدة لشن حملات استئصالية على الحركات الإسلامية بشتى توجهاتها، خصوصا منها المعتدلة ذات النفس الطويل في إدارة الصراع، ويستعدون الغرب باعتباره الحليف المفترض لتوجهاتهم اللادينية. ويبدو أن هناك لعبة خبيثة تدار في الكواليس، تقوم على إحداث الصدام العنيف بين الصحوتين الإسلامية والأمازيغية في الغرب الإسلامي، وهي لعبة خطيرة تستغل الأجواء المشحونة بفائض من التعصب الإثني المعادي لكل ما هو عربي باعتباره مزاحم لثقافة الشعوب الأصلية، وتستغل بعض الأخطاء التي يقع فيها قادة إسلاميون لا يدركون مدى تشبث هذه الشعوب بلغتها الأصلية وثقافتها التي لم يعمل الإسلام في يوم من الأيام على اجتثاثها، بل اعترف بها وصهرها في بوثقته، رافضا فقط تعبيراتها الوثنية والإلحادية التي حاربها في موطنه الأصلي الجزيرة العربية، قبل أن ينطلق فاتحا باسم الله بقية البلدان من حوله. إن دق طبول الحرب بدأت بإعلان بعض الوجوه القيادية الأمازيغية المتطرفة عزمها رفع دعوى من أجل حل حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، تلتها إصدار بيان تبنّته ما يقارب مائتي جمعية أمازيغية تدعو المغاربة لعدم التصويت على حزب الإسلاميين في الانتخابات التشريعية المقبلة. إننا نعتقد أن مقال الأستاذ عصيد الأخير تحت عنوان " حزب في وضعية صعبة" يأتي في هذا السياق، لذا جاء مليئا بالمغالطات والتناقضات، ليس آخرها أن الحزب يعرف عزلة بسبب اصطفافه إلى جانب السلطة ضدا على تطلعات الشعب المغربي، بينما يعرف السيد عصيد وغيره من المراقبين أن السلطة تقدم رجلا وتؤخر أخرى في ما يتعلق بالقوانين الانتخابية بسبب وجود هذا الحزب المشوش على اللعبة كما تحبكها الداخلية منذ عقود، فهو حزب عصي على التعليمات بسبب صرامته في احترام الآليات الديمقراطية الداخلية، وما راكمه بهذا الصدد يجعله متفوقا على باقي الأحزاب التي تعرف صراعات وتصدعات داخلية بسبب التزكيات كلما اقترب موعد الانتخابات، وكثير منها لو أعطيته إشارة من الدولة للاقتراب من حزب الإسلاميين لفعل دون تردد. إن حزب العدالة والتنمية المغربي سيبقى في وضعيته الصعبة التي اختارها دفاعا عن حق الشعب المغربي في الكرامة والحرية والديمقراطية مهما كلفه ذلك من ثمن، وسيبقى وفيا لمبدأ الإصلاح في سياق الاستقرار وإن بدت هذه المعادلة صعبة، سيشتغل في الإطار السلمي مدافعا عن مرجعيته الإسلامية ومعتزا بانتمائه الأمازيغي ومتشبثا بالملكية ومتطلعا للديمقراطية. *عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية