إن أهم ما يثير استغراب الباحث في هذا الإطار هو غياب أي تعريف دقيق للدولة بالمغرب. فالكتابات الدستورية المغربية عادة ما تخلو من أي تعريف مضبوط لهذه الظاهرة. وهكذا تحيل هذه الكتابات ضمنيا إلى تبني المفاهيم القانونية الغربية نفسها حول الدولة المغربية العصرية. كما أن أغلب الكتابات السياسية المغربية عادة ما تخلط بين مفهوم الدولة المغربية ومفهوم النظام السياسي؛ حيث يتم التحدث عن الملكية المغربية أو النظام السياسي المغربي في إطار رصد تطورات الدولة بالمغرب. ولعل مرد هذا الغياب أو الخلط في تحديد تعاريف دقيقة للدولة بالمغرب يكمن بالأساس في الغموض الذي يحيط بهذا المفهوم. وهكذا أشار خالد الناصري إلى أن هناك مفارقة بصدد استعمال هذا المفهوم تتجسد في أن كثرة استخدامه وتداوله لا يمنع من اتسامه بالغموض. ويرجع هذا الغموض، حسب هذا الباحث، إلى انتماء هذا المفهوم إلى مرجعيتين مفاهيميتين مختلفتين، تتمثلان في المرجعية السياسية الأوربية والمرجعية السياسية العربية الإسلامية. لكن رغم وجاهة هذا التفسير، فإنه لا يعتبر في نظرنا كافيا، نظرا إلى أن هذه الظاهرة تسري على دول العالم بصفة عامة، ودول العالم العربي بصفة خاصة، بدليل اختلاف وتعدد التعاريف التي تحاول تحديد مفهوم الدولة. فداخل المرجعية السياسية الأوربية نفسها هناك تعدد في التعاريف يرجع بالأساس إلى اختلاف المدارس الفكرية الأوربية في تعريف الدولة نتيجة لتبني كل مدرسةٍ نظريةً سياسية معينة. والأمر نفسه نجده داخل المرجعية السياسية العربية الإسلامية، التي تصطدم فيها الجوانب الدينية والفقهية بالجوانب الدنيوية والتاريخية في تحديد هذا المفهوم. من هنا نستنتج أن غموض هذا المفهوم لا يرجع فقط إلى الأصول الفكرية غير المنسجمة مع هذا المفهوم، بل يرجع أيضا إلى عدة عوامل، من أهمها : -عدم اكتراث أغلب الباحثين المغاربة بتحديد مدقق لمفهوم الدولة بالمغرب. - اقتباس وتبني مفاهيم مختصين أجانب في تحليلهم ورصدهم لتطورات الدولة بالمغرب. -غياب نظرية للدولة بالمغرب. - الاختلاف حول مفهوم الدولة بالمغرب. هناك عدة اختلافات في تحديد مفهوم الدولة بالمغرب؛ إذ أن كل باحث حاول تبني مفهوم معين لهذه الظاهرة. ويمكن أن نصنف أنواع التعاريف المتداولة بين الباحثين المغاربة في المفاهيم التالية: -مفهوم الدولة/ الملك. - مفهوم الدولة/ المخزن. - مفهوم الدولة/ المركز. 1- مفهوم الدولة/ الملك يعتبر المنظور الخلدوني للدولة أهم منظور متداول في الأدبيات السياسية المغربية. فابن خلدون يعد من بين الإخباريين المغاربة والعرب عامة الذين حاولوا تحديد مفهوم الدولة قبل الشروع في السرد التأريخي للأخبار والأحداث السياسية المغربية. كما يعتبر من بين الإخباريين المغاربة الذين ارتبطوا منذ البداية بتكوين وتكريس الاستغرافيا، التي تمحورت حول رصد تطورات الدولة المغربية وتدوين أخبارها. وقد أصبح ابن خلدون، "بعد إعادة اكتشافه" من طرف الأوربيين، الملجأ النظري لعدة محللين سياسيين عرب ومغاربة، تبنوا مختلف مفاهيمه السوسيولوجية والسياسية، خاصة تلك المرتبطة بالحكم والدولة. غير أن تبني هذه المفاهيم غالبا ما شابه الكثير من عدم الدقة والخلط، خاصة فيما يتعلق بمفهوم ابن خلدون للدولة. وهكذا نجد أن الكثير من الباحثين، إن لم نقل جلهم، يخلطون بين مفهومين خلدونيين رئيسين: مفهوم الملك ومفهوم الدولة. - ارتباط العصبية بالملك أولى ابن خلدون لمفهوم الملك أهمية كبرى في المقدمة، حيث حلل هذا المفهوم تحليلا سياسيا بعيدا عن كل اعتبارات ميتافيزيقية أو أخلاقية. وهكذا عرف هذا المفهوم كما يلي : "إن الملك منصب شريف ملذوذ يشتمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية، فيقع فيه التنافس غالبا، وقل أن يسلمه أحد لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية". ثم يربط ابن خلدون بين الملك والعصبية، حيث أشار إلى أن كل مجتمع سياسي ينبني على الملك، وأن غاية كل عصبية هي الحصول على الملك. وهكذا أشار ابن خلدون في فصل بعنوان "في أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك" إلى ما يلي : "...إن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية وإلا لم تتم قدرته على ذلك، وهذا التغلب هو الملك، وهو أمر زائد على الرئاسة لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر، وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعا، فالتغلب الملكي غاية العصبية... فقد ظهر أن الملك هو غاية العصبية، وأنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك إما بالاستبداد أو بالمظاهرة على حسب ما يسعه الوقت". وبعد ما عرف ابن خلدون الملك وحدد علاقته بالعصبية؛ عمل على تحليل الميكانيزمات، التي يتم من خلالها إرساء الملك وتكريس التملك، الذي يقوم بالأساس على التفرد بزمام الحكم والانفراد بامتيازات السلطة أو ما أسماه ابن خلدون المجد. وقد فسر صاحب المقدمة هذه الظاهرة كما يلي : "إن الملك... إنما هو بالعصبية، والعصبية متألفة من عصبيات كثيرة تكون واحدة منها أقوى من الأخرى كلها فتغلبها وتستولي عليها حتى تصيرها جميعا في ضمنها، وبذلك يكون الاجتماع والغلب على الناس والدول. وسره أن العصبية العامة للقبيلة هي مثل المزاج للمتكون، والمزاج إنما يكون عن العناصر، وقد تبين أن العناصر إذا اجتمعت متكافئة فلا يقع منها مزاج أصلا، بل لا بد من أن تكون واحدة منها هي الغالبة على الكل حتى تجمعها وتؤلفها وتصيرها عصبية واحدة وشاملة لجميع العصائب، وهي موجودة في ضمنها، وتلك العصبية الكبرى إنما تكون لقوم أهل بيت ورئاسة فيهم، ولا بد أن يكون واحد منهم رئيسا لهم غالبا عليهم، فيتعين رئيسا للعصبيات كلها لغلب منبته لجميعها، وإذا تعين له ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة، فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم والتحكم فيهم، ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام، لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدت، فتجدع حينئذ أنوف العصبيات وتفلح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته في التحكم وتقرع عصبيتهم عن ذلك. وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك أحد منهم في الأمر ناقة ولا جملا، فيتفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته. وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة وقد لا يتم إلا للثاني والثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها، إلا لأنه أمر لا بد منه في الدول، سنة الله التي قد خلت في عباده، والله تعالى أعلم". الدولة كامتداد مجالي أشار الجابري إلى أن الدولة عند ابن خلدون هي "الامتداد المكاني والزماني لحكم عصبية ما". من هنا تتجسد الدولة، في المنظور الخلدوني، وفق البعدين الرئيسين : أولا، الدولة كامتداد مكاني يرى ابن خلدون أن كل دولة هي عبارة عن مجال يمتد أو يتقلص حسب قوة العصبية الحاكمة. فقوة هذه العصبية، التي تتجسد في عدد أفرادها، هي التي تحدد نطاق الدولة والحدود التي تتوقف عندها. وقد فسر ابن خلدون هذه الظاهرة من خلال ما يلي: "إن عصابة الدولة وقومها القائمين بها الممهدين لها لا بد من توزيعهم حصصا على الممالك والثغور التي تصير إليهم ويستولون عليها لحمايتها من العدو وإمضاء أحكام الدولة فيها من جباية وردع وغير ذلك. فإذا توزعت العصائب كلها على الثغور والممالك فلا بد من نفاد عددها. وقد بلغت الممالك حينئذ إلى حد يكون ثغرا للدولة وتخما لوطنها ونطاقا لمركز ملكها". ثم يضيف ابن خلدون بأن توسع الدولة رهين بقوة العصبية الحاكمة، "والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية، وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها، فما كان من الدولة العامة قبيلها وأهل عصابتها أكثر كانت أقوى وأكثر ممالك وأوطانا وكان ملكها أوسع لذلك". ثانيا: الدولة كامتداد زمني يربط ابن خلدون بين قوة العصبية الحاكمة وبين مدة استمرارية الدولة. هذه القوة التي تتمثل في كثرة العدد وشدة التلاحم بين العصبيات المكونة للعصبية الحاكمة. وهكذا أشار ابن خلدون في المقدمة إلى هذه الظاهرة كما يلي: "وعلى هذه النسبة في أعداد المتغلبين لأول الملك يكون اتساع الدولة وقوتها، وأما طول أمدها أيضا فعلى تلك النسبة أن عمر الحادث من قوة مزاجه. ومزاج الدول إنما هو العصبية، فإذا كانت العصبية قوية كان المزاج تابعا لها وكان أمد العمر طويلا". وبالتالي، فإن ابن خلدون يرى أنه كلما ضعفت العصبية الحاكمة أشرفت الدولة على الانقراض. وقد استشهد في ذلك بعدة أحداث تاريخية وقعت بالشرق أو الغرب الإسلاميين. وهكذا أشار إلى أن "عصبية العرب كانت قد فسدت لعهد دولة المعتصم وابنه الواثق".. "وتقلص ظل الدولة فلم تكن تعدو أعمال بغداد حتى زحف الديلم وملكوها وصار الخلائق في حكمهم ثم انقرض أمرهم".. "وزحف آخر التتار فقتلوا الخليفة ومحوا رسم الدولة. وكذا صنهاجة بالمغرب فسدت عصبيتهم منذ المائة الخامسة أو ما قبلها، واستمرت لهم الدولة متقلصة الظل بالمهدية وبجاية والقلعة وسائر ثغور إفريقية وربما انتزى بتلك الثغور من نازعهم الملك واعتصم فيها والسلطان والملك مع ذلك مسلم لهم حتى تأذن الله بانقراض الدولة. وجاء الموحدون بقوة قوية من العصبية في المصامدة فمحوا آثارها..". من خلال كل هذا نستنتج أن الدولة في منظور ابن خلدون ليست "جوهرا سياسيا"، بل هي فقط إطار عضوي يمتد ويتقلص، يطول أو يقصر تبعا لتطورات العصبيات المتنافسة على الملك، أو بمعنى آخر السلطة. لذا فابن خلدون، بخلاف تأويلات الكثير من الباحثين، ليست له نظرية حول الدولة، بل له تحليلات سياسية حول السلطة أو ما سماه الملك. ويلاحظ هذا على الخصوص في غياب أي تعريف للدولة في "مقدمة ابن خلدون"، في حين حفلت "المقدمة" بتعاريف حول مفهوم الملك وتحاليل تطوراته. ولقد تنبه العروي إلى هذه الظاهرة، حيث أكد أن ابن خلدون "اهتم أساسا بمشكلة التكوين الطبيعي للسلطة السياسية، التي رأى فيها محرك التطور التاريخي". كما أضاف أن ابن خلدون خلص، من خلال كل التحليلات السياسية والسوسيولوجية التي تضمنتها "المقدمة" إلى أن "السلطة السياسية هي ظاهرة طبيعية يمكن دراستها على ضوء العقل البشري وحده. ثم يطرح على نفسه سؤالا هو: كيف تولد السلطة وتتطور ثم يعروها الذبول". وفي هذا السياق يمكن أن نضيف أن السلطة السياسية كانت هي محور فكر ابن خلدون بدليل أنه اهتم منذ البداية بتصنيف أنواع الملك، أي السلطة، من خلال تحديده ثلاثة أنواع من الملك : 1 - الملك الطبيعي: وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. 2 - الملك السياسي: وهو حمل الكافة على مقتضى العقل في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. 3- الخلافة: وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة. ومما يعزز هذا الطرح أن "كتاب العبر" لابن خلدون لم يتعد الإشكالية العامة التي كانت تدور فيها الإخباريات التي سبقته أو عاصرته. فابن خلدون رغم انتقاده كتابة بعض المؤرخين وأسلوب بعضهم في التعامل مع الأحداث السياسية، لم يبتدع منظورا جديدا للدولة، ولم يكن ليتأتى له ذلك نظرا إلى الظرفية التاريخية التي عاش فيها، والمنظومة الفكرية والفقهية التي تأثر بها. وهكذا رغم بحث وتنقيب الباحثين المغاربة بين ثنايا المقدمة عن "نظرية خلدونية للدولة"، فغالبا ما كانوا لا يتوفقون في تحديد معالم هذه النظرية، وينتهون إلى خلاصات غير مقنعة. ويمكن أن نستدل على ذلك من خلال نماذج ثلاثة: - النموذج الأومليلي الذي، بعدما يتساءل عن معنى الدولة عند ابن خلدون، لا يتوصل في آخر المطاف إلا إلى إجابات غير واضحة مثل : -"أم إن الأمر يتعلق بدولة ذات طبيعة خاصة تتوقف أساسا على أصلها القبلي. ومجموع تطور الدولة سيكون مطبوعا ضرورة بهذا الأصل"، أو أن الدولة الأقل تجريدا تظل مرتبطة بأصلها القبلي، وأن الدولة لا تستطيع أن تضمن مرتكزات دائمة. - أما الجابري فإنه بعدما لاحظ أن مفهوم الدولة "يرتبط عند ابن خلدون بنظريته في العصبية ارتباطا عضويا. ولذلك كان معنى الدولة عنده يختلف باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى العصبية الحاكمة ورجالاتها والعلاقات السائدة بينهم من جهة وبين العصبيات الخاضعة لهم من جهة ثانية"، "لا يجد مندوحة من القول إن الدولة عند ابن خلدون ليست إلا امتدادا مكانيا وزمانيا لحكم عصبية ما". - كما أن العروي لم يكن أوفر حظا من سابقيه، خصوصا عندما تساءل عن مدى وجود نظرية خلدونية للدولة، إذ انتهى به المطاف إلى القول إن هناك نظرية عامة للدولة عند ابن خلدون تقوم على عناصر ثلاثة، هي: القوة والتنظيم ووجود هدف خارج السياسة. إن هذه النماذج الثلاثة تعكس الكيفية التي تم بها "استنطاق" مقدمة ابن خلدون من خلال البحث عن إجابات لإشكالية معاصرة (أي إشكالية الدولة) في كتابات خلدونية اهتمت بالأساس بمسألة السلطة. فابن خلدون لم يتجاوز أبدا المفهوم الذي كان سائدا حول الدولة في عصره، أي أن الدولة، في نظره، لا تعدو أن تكون تعاقبا سلاليا على الحكم. وهكذا "يرى عزيز العظمة أن المفهوم الخلدوني للدولة هو مفهوم تاريخي يرتبط بتتابع الأسر أو القبائل أو الإثنيات الحاكمة، وليس مفهوما سوسيولوجيا عاملا قابلا للتجريد والتصنيف والمقارنة أو قابلا للتحليل والارتباط السببي". 2 - مفهوم الدولة / المخزن يحتل هذا المفهوم مكانة رئيسة في الأدبيات السياسية المغربية. فبعدما تبناه محللون أجانب، مثل ميشو بيلار وروبير مونتاني، في تحليلاتهم للدولة المغربية، تم استخدام هذا المفهوم أيضا من طرف باحثين مغاربة، على رأسهم العروي، ويظهر هذا جليا من خلال تبني العروي مصطلح المخزن كمفهوم محوري في أطروحته "حول الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية". وهكذا يرى العروي أن مصطلح المخزن، الذي أصبح متداولا بشكل كبير في مغرب القرن 19، كانت له عدة معان ودلالات؛ اقتصر فيها الباحث على معنيين رئيسين: معنى تنظيمي (المخزن كجهاز) ومعنى سوسيولوجي (المخزن كنخبة اجتماعية). - المخزن كجهاز يتكون المخزن وفق هذا المفهوم من أداتين رئيستين هما: البيروقراطية والجيش. فالجيش، الذي يتكون من قبائل الكيش والنوايب والعسكر، يشكل الأداة الأمنية والقمعية للمخزن. والبيروقراطية، التي تتكون من كتاب الدواوين والأمناء...، تشكل الأداة الإدارية للمخزن. غير أن المخزن، كجهاز تنظيمي، لا يقتصر فقط على الجيش والبيروقراطية، بل يتألف أيضا من كل من يتلقى راتبا من بيت المال مقابل وظيفته في حفظ الأمن والنظام، سواء في الحواضر أو في القرى. لذا، فإن كل هؤلاء يندرجون في إطار المخزن، الشيء الذي يؤدي إلى إطلاق الألقاب المخزنية عليهم. وهكذا فالمكلفون بالحراسة وفرض الأمن يسمون المخازنية، والعائلات التي تتعاقب على تولي المناصب الوزارية تسمى العائلات المخزنية. وبالتالي تصبح "المخزنية" عبارة تفيد معنى الوظيفة أو الراتب. - المخزن كنخبة اجتماعية يرى العروي أنه إلى جانب المفهوم الضيق للمخزن، هناك مفهوم أكثر شمولية واتساعا يتجلى في أن المخزن يصبح منطبقا على مجموع الفئات والشرائح الاجتماعية التي يستمد منها رجالاته وأطره. وهكذا تندرج في إطار المخزن : - فئة الخاصة - قبائل الكيش - فئة الشرفاء والصلحاء... أي بشكل عام، كل الفئات والأشخاص الذين يحصلون من المخزن على صلات وهدايا أو ظهائر للتوقير والاحترام، وكل من يعترف به المخزن كواحد من النخبة التي تتميز عن العامة. وعموما، فإن المخزن يعتبر، بمختلف مستوياته وشرائحه، بنية تنظيمية لا يمكن أن يستغني عنها السلطان أو أن يحكم بدونها. "فالمخزن يشكل الجماعة التي تختار وتنفذ الأوامر، كما تشكل الجماعة التي تضفي الشرعية وتضخم من سلطة السلطان". وهكذا، فالسلطان يعتبر الرئيس المباشر لكل شريحة من الشرائح التي تكون المخزن؛ وبالتالي فكل وظيفة يقوم بها أي عضو من أعضاء هذه الشرائح هي انعكاس وتضخيم لسلطة السلطان. فالسلطان يجسد مختلف أبعاد السلطة، فهو بمثابة : - شريف - إمام - أمير للجيش - منظم إداري - وسيد يأمر الخدام. لكن رغم كل المظاهر والأدوار التنظيمية التي جسدها المخزن، فإن العروي يتوقف طويلا أمام إمكانية اعتبار المخزن دولة. وفي هذا الصدد يرى العروي أنه إذا نظرنا إلى الدولة كنظام ومنطق وشكل؛ فإننا لا نستطيع أن نجد ذلك واضحا داخل البنية المخزنية. فالمقدس والديني والوضعي والعسكري كلها جوانب نجدها متداخلة ومندمجة داخل البنية المخزنية، كما أنه لا يمكن أن نميز بوضوح شكلانية العلاقات الاجتماعية، التي تحدد ترقي الأشخاص وتسلمهم المناصب المخزنية. لكل هذه الأسباب، يتساءل العروي عن مدى أحقيته في اعتبار المخزن دولة بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة؟؟!! وهكذا يجيب بأنه إذا كان هذا الأمر يثير بعض النقاش؛ فإنه من حقنا أن نتكلم عن بنية منظمة هيأت، كما هو عليه الشأن في بلدان أخرى، لوجود دولة ومجتمع؛ وذلك بالطبع لنفي الفكرة التي تشير إلى أن المغرب هو مجموعة من القبائل المتنافرة. ورغم هذا الجواب الذي قد يبدو مبهما وغير حاسم؛ ينتهي العروي إلى أن المخزن شكل "بنية دولتية" تختلف عن كل النماذج الدولتية الأخرى مثل النموذج الفيودالي أو نموذج الاستبداد الآسيوي. كما يختلف أيضا عن البنيات الدولتية الإسلامية كتلك التي ظهرت في إيران أو تركيا، وإن لم يرق بالطبع إلى النموذج الدولتي الأوربي. 3 - مفهوم الدولة/ المركز انبثق هذا المفهوم من بعض الكتابات الأكاديمية الحديثة، التي حاولت أن تتجاوز المفاهيم المتداولة في تعريف الدولة بالمغرب. وقد ارتكزت هذه الكتابات في صياغة هذا المفهوم الجديد على معطيين رئيسين: معطى تاريخي يتجسد في خصوصية البنية السياسية المغربية، ومعطى سياسي يتحدد في مدى تحكم السلطة المركزية المغربية في مجالها السياسي. - خصوصية البنية السياسية المغربية ينطلق بزاوي من أن هناك صعوبة كبيرة في صياغة تعريف موحد للدولة يتم الاتفاق عليه من طرف كل الباحثين. ويرجع الباحث هذه الصعوبة إلى اختلاف التعاريف. وهذا الاختلاف "يفضي بنا إلى الحديث عن خصوصية الدولة في مجال جغرافي معين وعند شعب ما، لأن المفاهيم المستعرضة تنحو إما إلى اتجاه عام فتغرقنا في العموميات، ولا تتحدث عن شكل من أشكال الدولة أو نمط معين، أو تنحو إلى اتجاه ثان يغرق في خصوصية قطرية ما، ويحاول أن يعممها كأنها النموذج المطلق دون الانتباه إلى أن المفهوم قد تلبس بتاريخه وبالظروف الاجتماعية التي أعطته". واستنادا إلى هذا المنظور، يرى الباحث أن خصوصية البنية السياسية المغربية تكمن بالأساس في ظاهرتين أساسيتين : - الظاهرة الأولى تتجلى في غلبة الطابع غير الاندماجي للمجموعة البشرية المغربية نظرا إلى العامل القبلي والعامل الديني. - الظاهرة الثانية تتجسد في غياب الحدود القارة للمجال المغربي نتيجة لطبيعة نمط الإنتاج الذي يقوم على تنقل السكان وترحالهم المستمر. ولعل اهتمام الباحث بإظهار مناحي خصوصية البنية السياسية المغربية يرجع بالأساس إلى حرصه على عدم تبني التعاريف الغربية حول الدولة الحديثة وتطبيقها على المغرب. ويؤكد الباحث ذلك من خلال إشارته التالية: "انطلاقا من خصوصية التجربة السياسية المغربية، يجب عندما نتكلم عن المجموعة البشرية كمقوم للدولة في المغرب، يجب النظر إلى ذلك ليس بمنظار الاندماج الكلي، ولكن بمنظار يرتبط فيه الطابع القبلي بالطابع الإسلامي داخل المدن والاحتفاظ في أغلب الأحيان بالطابع القبلي من الناحية التنظيمية، خاصة في البادية، وعندما نتكلم عن وحدة التراب والإقليم القار والثابت يجب أن نتحدث في المغرب عن المجال لأن طبيعة السكان تمتاز بالتنقل والترحال للانتجاع وغير ذلك، وأن الحدود كانت خاضعة للتمدد والانكماش". - التحكم في المجال المغربي يعرف الباحث الدولة في المغرب بأنها "تتكون من مجموعة بشرية بلغت نقطة من التطور تجاوزت إطار النظام القبلي، وأصبحت تتوفر على سلطة عامة ضمن المجال الجغرافي للمغرب الأصل". لكن ما هو هذا المغرب الأصل؟ للجواب عن هذا السؤال استند الباحث إلى التحديد الذي صاغه الجابري في هذا السياق، إذ حدد "المغرب الأصل بالمحيط الأطلسي غربا، وما وراء ملوية وتلمسان شرقا، والبحر المتوسط شمالا، والصحراء جنوبا". واستنادا إلى هذا التحديد الجغرافي، يؤكد الباحث أن "المغرب يعني المجال الأصلي، الذي كان يطلق عليه مثلا اسم موريسيا عند الإغريق أو بلاد المور عند الرومان والمغرب الأقصى عند العرب، هذه المنطقة التي تكتسب وحدتها من تاريخها أكثر من ثبات حدودها، والتي كانت مرتبطة بالمجال المذكور". غير أن قيام الدولة بالمغرب رهين كذلك بتجاوز النظام القبلي، الذي يعتبر المكون الأساسي للمجتمع المغربي. وهكذا كان انتشار الدعوة الإسلامية المحرك الرئيس لخلق الوحدة السياسية الوطنية، وضرب الأسس القبلية التي كانت تعيق هذه الوحدة. ورغم أهمية هذه المحاولة الأكاديمية في وضع مقاربة جديدة لتعريف الدولة بالمغرب، فقد بقيت تتسم بعدة ثغرات منهجية تتمثل في : أولا: افتقاد الوضوح، الشيء الذي يتجلى في استخدام المفهوم نفسه للدلالة على ظاهرتين سياسيتين مختلفتين. وهكذا أشار الباحث إلى أن "الدولة بإضافة اسم الأسرة الحاكمة تعني سلطة سياسية تتجاوز نظام القبيلة، وتتحكم في بعض مناطق المغرب، وتتوفر على بعض الهياكل الإدارية والسياسية".. "في حين أن مصطلح الدولة المغربية سيستعمل عندما تستطيع سلطة سياسية ما - غير أجنبية - توحيد كل مناطق وأقاليم المغرب (الأصل) تحت سلطتها وضمن نفوذها". ثانيا: تبني المفهوم الغربي، خاصة الأوربي، في تعريف الدولة المغربية؛ "فاسم الدولة المغربية يطابق اسم الدولة المركزية، التي تؤول إليها جميع السلط داخل رقعة من الأرض، وتتحكم في جميع الأقاليم الداخلة في هذه الرقعة". غير أن تبني مثل هذا المفهوم غيب الخصوصية السياسية للدولة بالمغرب، والتي كثيرا ما ركز عليها الباحث. ثالثا: ربط تعريف الدولة بالمغرب ببروز الدولة المركزية يعتبر غير موضوعي تاريخيا، نظرا إلى أن ظهور الدولة المركزية بالمغرب هي مرحلة فقط من مراحل تطور الدولة بالمغرب، وغير صالح جغرافيا نظرا إلى طبيعة المجال المغربي، سواء من ناحية تركيبة سكانه الرحل أو طبيعة جغرافيته غير الثابتة، وخاصة بعض حدوده الصحراوية أو شبه الصحراوية. رابعا: ربط تعريف الدولة المغربية بمدى تحكمها في المجال المغربي "الأصل" يتسم بالكثير من الغموض، إذ من الصعب جدا تحديد معنى المغرب "الأصل". فرغم تعريف الباحث المغرب بأنه ذلك "المجال الأصلي الذي كان يطلق عليه اسم موريسيا عند الإغريق أو بلاد المور عند الرومان والمغرب الأقصى عند العرب"، فإن ذلك لا يعرف بشكل دقيق المغرب "الأصل" نظرا إلى أن من أطلقوا هذه التسمية أو التعريف هم فاتحون أجانب. وبالتالي فإن تحديدهم الجغرافي للمنطقة يرتبط بالأساس بالحدود التي توقفت عندها فتوحاتهم، فالمناطق المغربية التي تم فتحها من طرف الرومان ليست هي تلك التي فتحها العرب. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا المجال المغربي "الأصل" كان يمتد ويتقلص حسب مدى قوة أو ضعف السلطة المركزية؛ فالاحتلال الإيبيري بتر المجال المغربي من سواحله طيلة عدة عقود، فهل هذا يعني أن الدولة المغربية تلاشت نتيجة لذلك؟؟!! خامسا: إغفال الجدلية التي لازمت القبيلة والدولة في المغرب. وهكذا نجد أن بزاوي يرى أن "الدولة في المغرب تتكون من مجموعة بشرية بلغت نقطة من التطور تجاوزت إطار النظام القبلي". في حين أنه حتى في عهد الدولة المرابطية، التي ربط الباحث نشأة الدولة المغربية بظهورها، كان الإطار القبلي يشكل المحرك الأساسي في ميكانيزماتها السياسية، واستمر هذا الإطار حتى في عهد الموحدين والمرينيين.