أولا- المخزن : الأصول وتطور الدلالات : احتل مفهوم المخزن مكانة مركزية في الدراسات التاريخية المهتمة بالدولة المغربية وتطورها، أجنبية كانت أم وطنية. الشيء الذي عدد من اتجاهات ومقاربات دراسة هذا المفهوم. إلا أن تعدد تلك الدراسات لم يحل إشكالية المفهوم الذي ما يزال ينتابه بعض الغموض، إذ لم يتفق الباحثون إلا على المفهوم اللغوي للمخزن الذي يدل على المكان الذي كانت تدخر فيه الذخائر المختلفة من أسلحة وكل ما هو موجه لبيت المال من زكوات وأعشار وغيرها… والأصل اللغوي للكلمة هو فعل “خَزن” الذي يحمل معنى الإخفاء والحفظ. و قد طُرحت أسئلة مختلفة من قبيل: ما حقيقة المخزن؟ ما الذي يكون المخزن: هل الهياكل الإدارية المكونة للدولة أم الأشخاص الذين يديرون شؤونها؟ ثم ألا يمكن أن نختزل المخزن في شخص السلطان؟ أم إن المخزن هو ذالك الأسلوب والآليات التي تمر عبرها السلطة من قمة الهرم إلى قاعدته؟ أليس المخزن نتاج ذهنية شعبية موروثة عن الخوف من سلطة الحاكم (أو ممثليه) وبطشهما؟ وأخيرا هل اتخذ هذا المفهوم معنى ثابتا أم اتخذ صورة المتغيرات بتغير الأحوال والظروف؟ اختلف الباحثون في تاريخ بداية تداول هذا المصطلح في المغرب. ففي الوقت الذي أرجع فيه الباحث محمد الكلاوي تاريخ ظهور “المخزن” كمصطلح فعلي يعبر عن الدولة إلى عهد الدولة الموحدية، ذهب الفرنسي ميشو بيلير إلى أن الدولة المرابطية كانت أول من وظفت مصطلح “المخزن” في التاريخ المغربي. و قد كان من خصائص المخزن المرابطي: – غلبة المعيار القبلي في توظيف الطاقم السياسي المركزي. – غلبة الطابع العسكري. – تسرب العنصر الأندلسي إلى دواليب الدولة. و غلبة الطابع القبلي على “المخزن” المرابطي ثم الموحدي جعله يظهر كأداة “قمعية” تمتلكها قبيلة لقمع القبائل الأخرى قصد استخلاص الضرائب والتمتع بملذات السلطة. و هكذا، كان بمجرد اندحار الأسرة الحاكمة تختفي معها كل المكونات البشرية التي كانت تشكل المخزن، حيث تتعرض للتصفية إما بحكم انتمائها القبلي أو تحالفها مع الأسرة الحاكمة. لكن بصعود المرينيين إلى السلطة، عرف المخزن تحولا كبيرا في تكوينه وتسييره نتيجة عدة عوامل: هيكلية وخارجية وذاتية. و قد اقتضى الإجماع البشري في ظل المجتمع المغربي القبلي، وجود حكم وإرادة نابعتين من التركيبة القبلية نفسها. ففي اللغة الأمازيغية توجد إلى يومنا هذا بعض الأسماء والمصطلحات التي تفيد الحاجة إلى الأمن الجماعي، ومنها لفظ “أكدير”، “اغرم”، “أمغار”، و”أكليد”. ولعل في دلالة هذه الألفاظ ما يفيد أن هيئات ممركزة قد وجدت في التشكيلة المغربية منذ القدم. و بتجاوزنا للدلالات اللغوية ذات الأبعاد المكانية لمفهوم “المخزن”، نجد أن هذا المفهوم عرف تدرجا في دلالته العامة قبل أن يستقر في مفهومه كمؤسسة للحكم. و هكذا كانت هذه الكلمة “المخزن” تطلق في مجموع أرض المغرب على هيئة إدارية وتراتيب اجتماعية، وعلى سلوك ومراسيم، أو بعبارة جامعة كان المخزن سيفا وقلما نما وتطور في كل دولة وإمارة، وكان يتكون من ثلاث جماعات كانت تختلف في حجمها وقوه نفوذها: – الجماعة الأولى ضيقة جدا وتنحصر أحيانا في شخصين أو ثلاثة باسم وزير أو حاجب، ويشترط في حمل هذه الصفة والانتماء لهذه الجماعة أن يكون المرء ذا نفوذ مجتمعي والإخلاص في خدمة السلطة . – الجماعة الثانية تشكل صلة وصل بين الفئة الأولى وبقية المجتمع، وتمثلها فئة الكتاب المكلفين بتحرير الرسائل المعبرة عن سياسة الدولة وترجمتها إلى لغة رسمية مضبوطة. – الجماعة الثالثة: كانت مكلفة بتنفيذ الأوامر بتسخير مختلف الوسائل المالية والعسكرية اللازمة لذلك، ويتكلف بذالك أصحاب الأعمال والأشغال. هكذا يتحدد معنى “المخزن” خلال الحقبة الوسيطية من خلال ممارسة الوظائف الثلاثة: الوزارة كمخطط، الكتابة كمبين ومعلن، وأصحاب الأعمال كمنفذين. و لكن مع مرور الأيام عرف هذا المعنى تحولات، فلم يلبث أن انفصل المخزن عن المجتمع واختص مجموعات معينة أهمها الوصفان والموالي ثم الأعراب الهلاليون، وأخيرا المهاجرون الأندلسيين، فأصبحت حياة الدولة تتلخص في نوعية العلاقات التي تربط هذه المجموعات فيما بينها. فيما كانت تنعكس المعضلات التي برزت ثم تفاقمت، وجرت الدول إلى الانحلال والاندثار، وهي التي حددها العروي في معضلات “الجباية والجيش والإدارة…”. و في نهاية القرن التاسع عشر أصبح المخزن يعني السلطان وحكومته وإدارته، وهي الفترة التي احتك فيها المغرب بالآخر الأوربي بشكل واضح. احتكاك أثر على المجتمع المغربي وبنية جهازه المخزني، حيث عرفت الحكومة المغربية تغيرات مهمة بابتكار دواليب حكومية وإدارية لم تكن معروفة من قبل، واتضح ذالك بشكل واضح في عهد كل من محمد بن عبد الرحمان و الحسن الأول. إن هذه التحولات التي طرأت على مفهوم “المخزن” هي التي كانت وراء اختلاف المقاربات والاتجاهات النظرية حوله. ومن تم فالإمساك بخيوط هذا الإشكال يفرض ضرورة استقراء مختلف هذه المقاربات. ثانيا- المخزن المغربي: اتجاهات ونظريات كانت تتحكم في النسق السياسي والاجتماعي المغربيين خلال الفترة ما قبل الاستعمارية، ثلاث بنيات تقليدية أساسية وهي:المخزن والقبيلة ثم الزاوية. وعلى أساس هذه الثوابت ناقش الباحثون مفهوم المخزن، نقاشا نتج عنه اتجاهات/نظريات كبرى يمكن تحديدها على الشكل التالي: أ- مخزن القبيلة يرى المدافعين عن هذا الطرح أن السلطة السياسية وممارستها – بالمغرب- مرتبط بالمجتمع القبلي، ذلك أن المقابلة أو التناقض المستمر بين سكان البوادي الرحل والمستقرين، هو الذي يؤدي إلى قيام السلطة السياسية، وبالتالي إلى قيام المخزن كإطار لممارسة هذه السلطة. وما دام أن هذه السلطة قبلية في قيامها وترسيخها، فإن المخزن يكون حتما قبليا في بنياته، فنقول إذن هذا المخزن موحدي مصمودي، والآخر مرابطي صنهاجي، والثالث مريني زناتي، وهكذا. فالمخزن بهذا المفهوم هو مخزن القبيلة أو الاتحاد القبلي الذي يكون مهيمنا في حقبة تاريخية معينة. و كان ممن دافع عن هذه النظرية الفرنسيان كوتيه وهنري تيراس. إذ ربطا المخزن بالقبيلة، وهي نظرية تمتد جذورها إلى ابن خلدون الذي ربط السلطة السياسية بالأساس القبلي، مبرزا الدور الذي لعبته القبيلة في تاريخ المغرب، فقد اعتبر ابن خلدون أن الصراع بين السكان البوادي الرحل والمستقرين نتيجته قيام سلطة سياسية، وبالتالي خلق جهاز مخزني. وإذا كانت الدراسات قد أثبتت حضور القبيلة أثناء قيام السلطة أو ترسيخها، فان الذين كانوا يعتبرون المخزن قبليا كانوا يقدمونه في الحقيقة كجيش أو كفيودالية، إذ جاء روبير مونتاني بفكرة “المخزن الفيودالي”، فأعتبر أن الصراع بين المخزن والقبيلة صراع بنيوي ناتج عن تعارض المصالح بين الطرفين، طرف ينزع إلى الاستقلال والانفصال (القبيلة)، وطرف يسعى إلى تكريس السلطان على مجال القبيلة. وتحدث عن بلاد السيبة مقابل بلاد المخزن، والقبيلة في مقابل المخزن، ليكون بذلك “المخزن”- حسب تصور مونتاني- خصما للقبيلة ومنافسا لها، وليس آلية لممارسة السلطة داخل القبيلة. و إذا كان مونتاني ممن “صوروا الدولة (المغربية)على أساس الثنائية المفترضة بين”بلاد المخزن” و”بلاد السيبة”، فإن الدراسات المونوغرافية العديدة التي أنجزت خلال العقود الأربعة الأخيرة حول مغرب القرن التاسع عشر تدعوا إلى إعادة النظر في إجرائية هذه الثنائية وصلاحيتها لتفسير تاريخ المغرب الحديث، أو على الأقل التحفظ من اعتمادها بشكل قطعي وجامد.إذا كانت لهده الثنائية خلفية استعمارية تهدف إلى تبرير الاحتلال، فإن وراءها كذالك سوء فهم للواقع المغربي و إصرار على تحليل تاريخه باستعمال مقاييس أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها لا تأخذ بالحسبان الخاصيات التاريخية و الثقافية لبلد كالمغرب. هذا وإن كان رفضنا للثنائية المخزن/السيبة، التي قال بها المستعمر، واستمر البعض في تكريسها، هذه الثنائية التي تفترض وجود قطيعة متواصلة ومتأصلة بين طرفين متعارضين بنيويا هما / المخزن والقبائل، لا يجب أن يقودنا بالضرورة إلى الموقف المضاد الذي يغالي في التأكيد على عناصر الوحدة داخل المجتمع المغربي، وذلك بإظهار المخزن كرمز للوحدة والانسجام والالتحام داخل المجتمع. إذ في الوقت الذي اعتبرت فيه المدرسة الاستعمارية المخزن جهازا طفيليا يمتص أعضاء الجسم “البربري”، تجد الكتاب المخزنيين يعتبرونه (أي المخزن) جهازا برعاية سلطان عادل. و الواقع أن الحكم على علاقة المخزن بالقبيلة في تاريخ المغرب لا يمكن أن يستقيم دون فهم محددات هذه العلاقة ووضعها في سياقها التاريخي المتحكم في انسجام الطرفين تارة وصراعهما تارة أخرى. ب- مخزن الزاوية مقابل “المخزن /القبيلة” اقترح كليفورد كيرتز نظرية “المخزن – الزاوية”، منطلقا مما لعبته الزوايا من أدوار تاريخية مهمة في تاريخ المغرب، وفي تأسيس السلطة السياسية به في بعض الفترات التاريخية كالعهد المرابطي والموحدي والسعدي، والنموذج الزاوية الدلائية خلال القرن السابع عشر التي كانت تتوفر على مخزن بسلطانه وجهازه الإداري. و من هنا فإن مختلف الأدوار السياسية والدينية والاجتماعية التي فرضها الواقع المغربي في فترات مختلفة، هي التي جعلت من الزاوية كيانا إداريا منظما “مخزن” يترأسه شيخها. كما اقترح كليفورد مفهوم “النموذج المركزي” كمفهوم محوري لدراسة التصور الذي يرسخه المخزن داخل المجتمع فالحضرة السلطانية من هذا المنظور صورة من النظام الإلهي ومعيار للنظام الاجتماعي). ج- مخزن السلطان نظرا لأن السلطان هو محور النسق المخزني، لوظائفه الدينية التي يتمتع بها والتي منحته سلطة واسعة النطاق، بنى هذا الاتجاه رؤيته، فربط المخزن بشخصية السلطان وحاشيته. و يعني مخزن-السلطان شيئين متكاملين: من جهة مؤسسة سياسية يمارس عبرها الحكم، ومن جهة ثانية نظام اجتماعي وسياسي له ميكانيزماته وتشعباته وجميع دواليبه (السلطان، الجيش، الموظفون، وكل مايرتبط بالسلطان أو يضع نفسه في خدمته، ومدافعا عن شرعيته سعيا وراء الاعتراف له بصفة الانتماء. د- المخزن عند عبد الله العروي يرى عبد الله العروي أن المخزن خلال القرن التاسع عشر اتخذ معنيين أساسيين: * المخزن كجهاز إداري: ويتكون وفق هذا المفهوم من أداتين رئيسيتين هما: البيروقراطية والجيش. فالجيش الذي يتكون من قبائل الكيش والنوايب والعسكر، يشكل الأداة الأمنية والقمعية للمخزن. والبيروقراطية: التي تتكون من كتاب الدواوين والأمناء… تشكل الأداة الإدارية للمخزن. غير أن المخزن كجهاز تنظيمي -من منظور العروي- لا يقتصر فقط على الجيش والبيروقراطية، بل يتألف أيضا من كل من يتلقى راتبا من بيت المال مقابل وظيفة في حفظ الأمن والتظام سواء في البوادي أو في المدن. لذا فإن كل هؤلاء يندرجون في إطار المخزن، الشيء الذي يؤدي إلى إطلاق الألقاب المخزنية عليهم. وهكذا فالمكلفون بالحراسة وفرض الأمن يسمون بالمخازنية والعائلات التي تتعاقب على توالي المناصب الوزارية تسمى العائلات المخزنية. و بالتالي تصبح “المخزنية” تفيد معنى الوظيفة أوالراتب. وبالتالي مرادفة للسلطة. * المخزن كنخبة اجتماعية. إلى جانب المفهوم الضيق للمخزن (المخزن كجهاز إداري)، قدم العروي مفهوما آخر أكثر اتساعا، يتجلى في أن المخزن يتضمن بالإضافة إلى الفئات السابقة: فئة الخاصة –الشرفاء والصلحاء – قبائل الكيش . و بهذا يكون المخزن من هذا المنظور وبكل مكوناته وتركيبته تنظيما لا يمكن للسلطان أن يستغني عنه إذا أراد ضمان استمرار سلطته. فالمخزن جماعة تتولى مهمتي: تنفيذ الأوامر، وإضفاء الشرعية على سلطة السلطان وتضخيمها. إن المخزن حسب الأستاذ العروي، هو ذاك المجموع المركب من عناصر مختلفة، ذات وظائف مختلفة، إدارية صرفة وأخرى أمنية ثم اجتماعية ورمزية. والغاية الكبرى لتلك العناصر هي ضمان استمرارية الدولة وسيادة سلطة السلطان. و في مقابل ذلك اعتبر الهادي الهروي أن المخزن كنسق هو أداة للدولة من نمط إرثي، يقوم على علاقات نسبوية، وعلى نظام من المراتب الإدارية المنظمة والهادفة إلى تمركز الحكم وتكوين عساكر ناجعة وضبط الرعية وجبي الضرائب في المناطق المراقبة واللجوء إلى التوازنات في الجهات المعادية (السائبة). وقد اعتمد المخزن في ذالك على هرمية رمزية وإدارة “بيروقراطية” تطورت ابتداء من 1860. فالمخزن بهذا المعنى جماعة من الأفراد الذين تؤلف فيما بينهم المصالح المادية والمطامح الشديدة للاغتناء والثروة على حساب إخضاع الرعية بتوزيعها إما إلى ثلاث أو أرباع أو أخماس، أي إلى فخدات إدارية). على سبيل الختم : على كل ما سبق، يبدو واضحا مدى التطورات التي عرفتها دلالة “المخزن”، الذي كان ظاهرة لازمت تاريخ الدولة المغربية منذ زمن غير يسير، ظاهرة تجسدت عبرها آليات الحكم بين الدولة والمجتمع عبر جهاز إداري مركب، حيث تمارس السلطة من قمة الهرم المخزني الذي يجسده السلطان إلى قاعدته. فالمخزن بكل اختصار هو الأداة الهيكلية والفكرية والاجتماعية والتصورية المسيرة للدولة المغربية.