"وأخشى المائدة لأن الذي يجتمع حولها للأكل يجتمع حولها للقتل وأخشى الإنسان يملك عينين اثنتين عين تأكل وعين تقتل". عبد الله زريقة، فراشات سوداء تُسيِّج فاسَ، غير الأسوار التي شيّدتها السلالات المتطاحنة عند التخوم والشعاب، خرافات متعددة عن حفاوة أهل المدينة وعجرفتهم، وتتصل المحكيات التراثية بالسرديات الاستشراقية لتقص علينا روايات متضاربة بخصوص زاد النار وتقنيات الطبخ وآداب الأكل في تاريخ واحدة من حواضر الغرب الإسلامي الأكثر إشعاعا وغموضا في آن. إنّ للضيافة سياسات صارمة، فظة ومضنية أحياناً، وانطلاقا منها يتحدد فهمنا للحضارة بقوانينها وفنونها؛ وكذلك يتشكل وعينا الخاص، الذاتي والحميمي، بشعوب وثقافات نجهلها ونختلف معها في المأكل والمشرب. لقد نسج سكان فاس على مدار قرون ضوابط للدخول إلى المدينة والخروج منها، وأخضعوا تلك الضوابط للأنساب والحواس: فلا ضيافة لغير الشرفاء والعلماء والحرفيين العارفين بتقاليد الزينة والطعام والعمارة. ومع ذلك فإننا "لا نجد بفاس كل الترف والملذات التي غذى بها المؤلفون العرب مخيلاتنا... فالفاسيون أناس يحبون عيشة راضية، ويلتمسون رغد عيشهم ويريدون إرضاءه تماماً، لكنهم لتعقلهم يعرفون كيف يجعلون حدا لشهواتهم. وضيافتهم واسعة من غير أن تكون باذخة؛ وأكلاتهم وفيرة من غير أن تكون شرهة...". هذا ما كتبه أحد المؤلفين الفرنسيين ملخصا بدقة حذرة المزاج الفاسي السائد نهاية القرن التاسع عشر، أي قبيل مجيء الحماية الفرنسية بسنوات. تختزل فاس المعادلة الصعبة للبطنة والفطنة، للتخمة والتقشف، للأرضي والسماوي، ويزخر كتاب التشوف إلى رجال التصوف لابن الزيات (المتوفي عام 1229) بطرائف وحكايات عديدة عن علاقة الناسكين في الغرب الإسلامي، في فاس وغيرها، بالطعام والجوع: كأن يقتات أبو محمد عبد السلام التونسي بأغمات على الشعير ويصطاد السلاحف البرية إذا هو اشتهى اللحم، أو أن يعيش ابن معاد الصنهاجي على أجباح النحل والحوت، أو أن يُحدّث الطعام منية بنت ميمون الدكالي قائلا: لا تأكليني فإني حرام، أو أن يعترض محمد ابن موسى الأزكاني بفاس عن أكل الثريدة باللبن لأن طاهيتها منقطعة عن الصلاة. وكذلك وصلنا اغتيال الزاهد ابن العريف بتسميم أحب طبق إليه: الباذنجان. ولعيسى ابن سليمان الرفروفي، الذي قال ابن الزيات أنه صام في صغره سبعة أعواما دون أن يعلم بذلك أحد، حكاية مع فاس، فقد دخلها وغادرها كارها بعد مبيته ليلة واحدة، ولما استفسر في الأمر قال: لم أر فيها إلا الدنيا. ما الذي قصده الناسك بالدنيا؟ أي دنيا في فاس يا رفروفي؟ أهي التقاء الحموضة والمرارة في كيمياء الموازين والمكاييل؟ وماذا يعني التحلق حول طاولة من خشب لافتراس الطرائد بالحديد؟ مآل الغرباء شُيّدت فاس داخل مستنقع ذي شوك، على منطقة بين سهل سايس وجبال الأطلس، في قعر حفرة تشبه الزلافة التي يقدم فيها المغاربة حساءهم المكتنز بالحمص والعدس، والمعروف بالحريرة. إنها بهذا المعنى حاضرة/بادية، تغتني من بداوتها البرانية، على أطراف عدوتيّ الأندلس والقرويين، لتعزيز مدينيتها الجوانية. على هذا النحو، ظلت المدينة من جهة تشيد مجدها الحضري عن طريقة تأسيس الأسواق وهيكلة الحرف وضبط الذائقة وتهذيبها، وتنعش من جهة أخرى حركتها الاقتصادية بالانفتاح على المزارع المحيطة بها؛ وتختلق في المقابل تكتيكات اجتماعية (طبقية وعرقية) تحتفي بالغريب وتعزله حد السواء، في مفارقة عرفية ملتبسة. يورد المقريزي في تاريخه: "إن بمدينة فاس زراعة وحرف وعمارة، أسعارها رخيصة ونعمها وافرة وفواكهها كثيرة وفيها نقوش ودروب من الزينة، ومياه جارية، ومنتزهات سامية، وجهاتها مخضرة وفي أهلها عزة ومنعة". استطاعت فاس إذن، بالنظر إلى تلك النخوة التي أسماها المؤرخ المصري عزة ومنعة، وبالنظر إلى التاريخ السياسي والاجتماعي المطبوع بحقب الرغد والرخاء، ولكن أيضاً بفترات المجاعة والأوبئة والحروب، أن تساهم في تشكيل الذوق العام للمغاربة، بل صارت مع الوقت مملكة منيعة تلملمت حولها تخيلات وكليشيهات ثقافية ممجدة تارة ومحتقرة تارة أخرى. ويمكننا القول إن المطبخ الفاسي قد ركّز في آدابه وطقوسه، خاصة بعد وفود الجزائريين من تلمسان والمورسكيين من الأندلس، ثراء المشارق والمغارب جاعلا منها مفخرة استعلائية. لم تعرف فاس خارج منازل النبلاء وقصور السلاطين أي تقليد فندقي فخم ولا صناعة مطعمية فاخرة، وذلك لأن الفاسيين كانوا يستقذرون المأكولات الشعبية، فكل ما يتعلق بالطهي كان قد خضع منذ العهد المريني (1244-1465) لمنظومة محكمة التشفير، تحفظها بنات العائلات العريقة وتنفذها زنجيات تنتمين للدار، لاعتبارات ذوقية ولاحتياطات روحية وسياسية وجنسية حتى. "فقد كان الفاسي يفضل بكثير الصوم على أن يبتلع طعاما خشنا كهذا"، كما يكتب روجي لوتورنو في مؤلفه فاس قبل الحماية متحدثا عن رؤوس الغنم وكراعها مشوية ونوعيات أخرى من الحساء التي كان يبيعها أصحاب المطاعم الشعبية القادمون من منطقة سوس. لقد اقتصرت التجارة الرابحة المرتبطة بالطعام على طحن القمح (الرحويون) وتحضير اللحوم المجففة (الخلاّعة) وعلى عصر الزيتون الذي اختص به جبالة إلى جانب البستنة. يضيف لوتورنو: "وكان بائعو الكفتة والقضبان يتمتعون بشيء أكبر من الاعتبار، إذ كان الفاسي عند اللزوم إذا جاع كثيرا خاطر بنفسه فاشترى منهم شيئا خلسة". لقد أصبحت وصفات المطبخ الفاسي مع الوقت مثل تميمات السحر، فانصاعت ثقافة الأكل لإقصائية أرستقراطية جعلت من عابري السبيل والزهاد وبقية البدويين المسافرين، عربا وأمازيغ، ضيوفاً من الدرجة الثانية لا يقدم لهم الطعام إلا من باب الصدقة المشفقة أو التبرّك الطقوسي. الصينية ودوائر الكرش البطون كالبحور، تهيج وتبلع وتغفو، وتطحن في دواخلها السوائل والأجسام، مثلما يطحن الرّحوي قمح المدينة في رحاه الحجرية الدائرية. كذلك المدن تفعل، والكروش تدور وهي تترقب أو تهضم. كل شيء في فاس لولبي، يتكوّر وينبسط وينكمش: الأحياء القديمة وموائد الأكل وأحاديث النساء اللامتناهية بعد صلاة العصر، متحلقات حول صينية الشاي وتنويعات الحلويات من بريوات بالعسل وكعب غزال بعجين اللوز ومْحَنْشَة بالقرفة والسمن وغْرِيْبَة معمولة بالدقيق والسكر. إنه احتفاء بالعين والأنف قبل اللسان. والعين تأكل قبل الفم، كما نقول، وقد تقتل. إنّ أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون. وإذا كان الأكل خارج البيوت شيئا مذموما لدى أهل فاس حتى الآن، إلا في حالة "النْزَاهَة"، أي متى ما خرجت العائلة للتنزه في البساتين، على ضفاف وادي الجواهر الذي يشطر المدينة إلى نصفين، فإنّ للأكل داخل البيوتات العتيقة أعرافا ثابتة: تبخير المطبخ بعد تنظيفه، وقراءة تعويذات إفريقية مع ذكر اسم الجلالة أثناء الطهي، وتوفير جوق غنائي لإطراب المدعوين، والاعتناء بالضيوف ابتداءً بغسل أيديهم بالماء الدافئ والصابون وهم جلوس باستعمال الطاس النحاسي وحتى توديعهم بعطر الورد عند عتبة الباب. وكذلك كان يفعل يهود فاس، فعوائدهم ومأكولاتهم لم تختلف عن المسلمين، لكنهم تميزوا بطبق "السخينة" وبالمخبز الديني التقليدي المكون من حلويات ال"بوريم" ورغيف عيد الفصح وبأشربتهم المنتبذة من الزبيب والتين. يصف الرحالة الإيطالي إدموندو دي أميتشس عام 1876 في كتاب رحلته إلى المغرب مأدبة أقامها أحد قياد السلطان بفاس قائلاً: "على الطاولة حاولي عشرون صحنا مملوءً بالحلويات البيضاء الكبيرة على شكل كرات وخرّوب، وأدوات المائدة جميلة للغاية، مع كثير من قناني الماء، ولا قطرة نبيذ. جلسنا فناولونا الطعام على الفور. ثمانية وعشرون طبقا، دون عدّ الحلويات، ثمانية وعشرون طبقا ضخما، كل طبق يكفي لإطعام عشرين نفراً. أطباق من كل الأشكال والروائح والأطعمة (...) وفي النهاية رش الخدم ماء الورد علينا وعلى المائدة والجدران". لابد أن الأطباق الرئيسية التي تناولها الوافد الأوربي خلال هذه الزردة المخزنية، ولم تنل إعجابه كما قال في موضع آخر من نصه، كانت عبارة عن أطباق رفيعة من بينها البسطيلة، وهي فطيرة مورقة محشوة إما بالدجاج أو السمك؛ والمروزية، وهو طبق مورسكي من لحم مشوي بالتوابل والعسل واللوز؛ ثم الدجاج المشرمل مع البصل والبقدونس والدجاج المعمّر بالأرُزّ والزبيب. يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب. إنّ الصّحفة ليست موضعا للأكل فحسب، وإنما فضاء لقراءة العالم وتهذيب النفس، وإلاّ مساحة للاقتتال الغريزي. فالمائدة مسرح مفتوح على احتمالات الصحة والشفاء، ومختبر قديم لتجريب وصفات الباه والشعوذة والإماتة الرحيمة للأعداء والخونة. بعدما كسدت تجارة الذهب في فاس، وتراجعت معها صنعة الصّياغة، اختار والدي تغيير الحرفة. فنقل محلّه من حي الملاح إلى المدينة الكولونيالية، وانتقل من نقش المعدن النفيس إلى الإشراف على المأدبات، وهي وظيفة تعرف بتموين الحفلات. مرّت ثماني عشرة سنة على ذلك، تكرّش خلالها من تكرش ومات من مات، وأعرضت عن دنيا فاس، وأدمنت سندويش الروستو بالخردل والثوم عند بربر الحمرا، لكني لم أنس متحف السّلاح في البطحاء: بنادق ومدافع ورماح وقاذفات ومديات لا نشحذها لنحر الكبش فقط. تحوّلت مع مضي الأعوام إلى بائع أعشاب، أدور في الأسواق وفي يدي سلة قش مملوءة بالنبات والبيض والذكريات. قبل أسابيع، أضربت عن المأكولات الشعبية وفتحت فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان لابن رزين. كانت أطباق كثيرة تشغلني أثناء تقطيع الخضراوات: طاجين اللحم بالبرقوق والكسكس بزيادة النون والرفيسة بالدجاج والعدس، لكن الاختيار استقر على سلاطة إغريقية. شردت للحظة حتى فتحت سبّابتي بسكين المطبخ اللاّمع. انهمر الدم بين قطع الفيتا والزيتون والطماطم والبصل والخيار. لعلّي كنت أفكر في أثينا وبعضٌ من ديوان ورقة البهاء لمحمد بنيس يحرّضني على الرجوع إلى الحاضرة الإدريسية المنبوذة. "فاسٌ تلٌّ مِرْنانٌ مُنخفِضٌ أفقٌ للحفْلِ بَياضٌ حارٌّ لا يَتذكَّرُهُ مَنْ ماتَ وَ مَنْ سيمُوتْ فاسٌ عَرصَاتٌ للرُّوحِ الوَثنيةِ أشجارُ الرُّمَّانِ دَوَالي الأعْنابِ النّارنْجُ نَواويرُ الغُنْبازْ فاسٌ مجْنونٌ يبحَثُ عنْ مَجْنُونتهِ يترنّحُ بيْنَ بقَايا تنْغيمِ رَبابٍ أندلُسيٍّ أعْيادٍ لا حُلْمَ لهَا تكْوينِ مساءٍ مُضْطَربٍ شَطحَاتٍ منْفيةٍ مجْهُولِ الماءْ". صفحة الكاتب على الفيسبوك: https://www.facebook.com/a.mouzaine