من المعلوم أن الحق في حماية الحياة الخاصة يعتبر من الحقوق الأساسية المعترف بها في النصوص الوطنية والدولية. وقد أخذ هذا الحق بعدا جديدا مع تطور تكنولوجيات الإعلام والاتصالات، نظرا لكون هذه الأخيرة عززت قدرات المواقع الإلكترونية والقراصنة وحتى السلطات العمومية على التدخل في الحياة الخاصة للأفراد. إذ أن عدة تكنولوجيات رقمية مثل تقنيات تحديد الموقع (Géolocalisation) والمراقبة الفيديوية (Vidéosurveillance) والتقنيات البيومترية (Biométrie) والمعلوميات السحابية (Cloud computing) وخوارزميات التنبؤ (Algorithmes prédictifs) وتقنيات الكوكيز (Cookies) وتقنيات تكوين الملفات (Profilage) والبيانات الضخمة (Big data) وغيرها أصبحت تحمل في العصر الرقمي مخاطر جمة على الحياة الخاصة للأفراد. فقد سهلت هذه التكنولوجيات عمليات تجميع المعطيات الشخصية ومراقبة والتقاط المراسلات الإلكترونية والاعتداء على الهويات الرقمية وغيرها من الأفعال الماسة بالحياة الخاصة الرقمية. ولمواجهة الآثار السلبية لهذه التكنولوجيات على الحياة الخاصة الرقمية للأفراد، وضع المغرب إطارا قانونيا غير مكتمل بعد يهدف إلى حماية الحياة الخاصة الإلكترونية. لكن السؤال الذي بدأ يطرح اليوم بإلحاح شديد هو: هل الحق في الحياة الخاصة الرقمية مسألة قانونية أم حقوقية؟ أولا: الحق في الحياة الخاصة الرقمية حق من حقوق الإنسان يكاد يجمع الكل، اليوم، على أن الحقوق نفسها التي يتمتع بها الأشخاص في العالم الواقعي يجب أن تحظى بالحماية ذاتها في العالم الافتراضي. من جهة أخرى، بدأت المنظمات الدولية (اُنظر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة حول "الحق في الحياة الخاصة في العصر الرقمي" الصادر في 27 نوفمبر 2013 ) تنظر إلى هذا الحق من الزاوية الحقوقية كحق أصيل من حقوق الإنسان وليس من الزاوية القانونية. وقد حظي القرار المذكور بالترحيب، باعتباره أول قرار صادر عن الأممالمتحدة يؤكد أن حقوق الإنسان في العالم الرقمي يجب حمايتها وتعزيزها بالقدر ذاته والالتزام ذاته، اللذين تتم بهما حماية حقوق الإنسان في العالم المادي. هذا يعني أن حماية الحق في الحياة الخاصة الرقمية (حماية الهوية الرقمية، حماية سرية المراسلات الإلكترونية، حماية المعطيات الشخصية، حماية الحق في التخفي، حماية الحق في النسيان...) أصبح اليوم جزءاً لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان في العالم. ثانيا: مكونات الحق في حماية الحياة الخاصة الرقمية إضافة إلى الحقوق التي سلف ذكرها، يتكون الحق في حماية الحياة الخاصة الرقمية، بصفته حقا أصيلا من حقوق الإنسان، من عدة حقوق فرعية لعل أهمها: 1- الحق في التخفي الرقمي (Droit à l'anonymat numérique) ويعني أن لكل شخص الحق في التواجد على شبكة الإنترنت دون أن يكون مجبرا على كشف هويته الحقيقية شريطة أن لا يضر ذلك بالنظام العام وحقوق وحريات الغير. ويرتبط بهذا الحق استخدام التشفير الإلكتروني (Chiffrement électronique)، الذي يعني استعمال رموز وإشارات غير متداولة تصبح بمقتضاها المعلومات المرغوب تحويرها أو إرسالها غير قابلة للفهم من قبل الغير. 2- الحق في النسيان الرقمي (Droit à l'oubli numérique ) ويعني أن يلتزم المسؤولون عن معالجة المعطيات الشخصية (مواقع التجارة الإلكترونية، المؤسسات العمومية...) بعدم حفظ تلك المعطيات لمدة تتجاوز الغاية التي جمعت من أجلها. كما يعني كذلك أن لكل شخص الحق في تعديل أو حتى سحب معلومات تخصه من شبكة الإنترنت (مواقع إلكترونية، مواقع التواصل الاجتماعي...) شريطة أن لا يحدث ذلك ضررا للأشخاص الذاتيين أو المعنويين الذين يحوزون هذه المعلومات. 3- الحق في الهوية الرقمية (Droit à l'identité numérique) ويعني أن يكون لكل شخص الحق في التواجد كشخص رقمي (Homonuméricus) على شبكة الإنترنت، إلى جانب وجوده كشخص حقيقي. وترتبط بهذا الحق ضرورة تجريم انتحال الهوية الرقمية (انتحال البريد الإلكتروني، انتحال صفحة الفايس بوك، انتحال عنوان بروتوكول الإنترنت...)، وهو ما لم يقم به المغرب إلى حد اليوم. وعلى الرغم من أن المغرب لا يتوفر بعد، على غرار العديد من البلدان، على نص قانوني يحمي الهوية الرقمية (لم يعد هناك اليوم من أحد ليست له، إلى جانب هويته الحقيقية، هوية رقمية تتجلى في عنوانه الإلكتروني وصفحته على الفايس بوك...)، فإنه يتوفر على الأقل على نصوص قانونية تحمي المعطيات الشخصية الرقمية (القانون 08-09)، وأخرى تحمي سرية المراسلات الإلكترونية (قانون المسطرة الجنائية). غير أننا ما زلنا في المغرب، للأسف، ننظر إلى هذا الحق من الزاوية القانونية فحسب، وبالتالي إيكال أمره إلى اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية من حيث حمايته، وإلى المحاكم والمساطر من حيث تطبيق العقاب على من ينتهك هذا الحق. ذلك أن هذا الحق وغيره من الحقوق الرقمية يكاد ذكرها يخلو في البلاغات والتوصيات والمذكرات والالتزامات التي تصدر عن الهيئات الرسمية أو عن منظمات المجتمع المدني المهتمة بحقوق الإنسان، في حين أن طبيعة هذا الحق، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالشخصية الإنسانية، لا يمكن مقاربته إلا من الناحية الحقوقية وليس فقط من الناحية القانونية. لذلك يتوجب على الدولة المغربية، ممثلة في وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية، والأحزاب السياسية، ورجال القانون، من محامين وقضاة وأكاديميين، أن يغيروا مقاربتهم لهذا الحق وغيره من الحقوق الرقمية، وينظروا إليه من زاوية حقوق الإنسان. خاتمة: لكل الاعتبارات التي سبقت ندعو صاحب القرار في المغرب إلى تبني المقاربة الحقوقية/ القانونية للحق في الحياة الخاصة في العصر الرقمي بدل المقاربة القانونية وحدها. ويترتب عن تبني المقاربة الحقوقية انتقال تدبير هذا الملف من يد اللجنة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، التي تتكفل قانونيا بموجب القانون 08-09 بحماية الحياة الخاصة، إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان الذي يبدو، من خلال رصد مجموعة من الإصدارات واللقاءات والآراء التي تصدر عنه، أنه لم يستوعب بعد الأهمية الحقوقية لهذا الحق وغيره من الحقوق التي ظهرت في العصر الرقمي الذي نعيشه اليوم. *أستاذ جامعي.خبير/ مكون في القانون الإلكتروني