1- شيء من التذكر ومحاربة الطمس بين النسيان والتناسي والتجاهل والتحريف والتحوير والتزوير والتزييف، تغيب الكثير من الحقائق وتصبح معها الذاكرة والتاريخ أشبه بلعبة مغشوشة ومثقوبة، لذلك نجد كبار المفكرين والمؤرخين يؤكدون على أهمية صون وصيانة الماضي وحفظ الذاكرة. في هذا الصدد يقول مثلا "جورج أورويل": من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل؛ ومن يتحكم في الحاضر يتحكم في الماضي. في هذا السياق، عديدة، إذن، هي المحطات التي تؤثث شريط الذاكرة الجماعية، وتشكل أساس الوعي الوطني المعاصر، وهي المحطات التي مازالت تئن تحت وطأة التناسي وتتعرض للتجاهل والتعتيم. وبالعودة إلى قراءة مختلف صفحات التاريخ المغربي المعاصر، سنجد أن مجموع الأحداث والوقائع التاريخية والسياسية، وكل ما يؤسس للذاكرة الوطنية والجماعية، هو في حاجة ماسة إلى مزيد من إلقاء وتسليط الأضواء عليه وإغناء رصيد الكتابات حوله لاستجلاء المزيد من الحقيقة، وتأكيدا لمنطق وضرورة التذكير والتذكر. وتعتبر فترة ما بين 1960-1956 من أبرز الفترات على مستوى التاريخ السياسي المغربي المعاصر غموضا وتداخلا، بحكم ما يميزها من ملابسات عديدة ومختلف مظاهر الصراع السياسي والمؤامرات والخبايا والمناورات الحزبية والدسائس المخزنية؛ كما أنها فترة كانت محكومة بسياق سياسي وظروف تاريخية خاصة، وبسيادة وضعية ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية استثنائية؛ كما أن التأريخ والتوثيق لها تنطبق عليه مقولة: "التاريخ يكتبه المنتصرون". 2- الهيئة الريفية..تاريخ مجهول ومنسي من بين صفحات تاريخ الريف المعاصر الأكثر ارتباطا بالغموض والنسيان تلك الصفحات المتعلقة بإحدى الفترات المفصلية والحساسة، والمحددة في نهاية خمسينيات القرن الماضي؛ صفحات وخفايا لم تنل نصيبها من التوثيق والبحث، كأنها ليست جزءا من ذاكرتنا وتاريخنا، أو كأنها جزء من التاريخ المفترى والمغضوب عليه. في هذا الصدد، يأتي كتاب "الهيئة الريفية، ملف وثائقي"، الصادر ضمن سلسلة ملفات وثائقية عن منشورات مركز محمد بنسعيد أيت إيدر للأبحاث والدراسات، وهو الإصدار الذي يشمل وثائق ورسائل وملاحق في غاية الأهمية، خاصة أنها تنشر لأول مرة وتحمل معطيات وحقائق مهمة. وإذا كان تاريخ المقاومة الريفية وتاريخ جيش التحرير خلال النصف الأول من القرن 20 استطاع أن يتحرر نسبيا من التعتيم والتحريف والطمس الذي تعرض له رغم ما لحقه من حيف، فإن جزءا من امتدادات هذه الفترة ظل غامضا ومنسيا، كما هو حال تاريخ الهيئة الريفية "التي أسالت الكثير من المداد حول طبيعتها وأهدافها ومؤسسيها وعلاقتها ببعض القوى السياسية وأعضاء المقاومة وجيش التحرير، وما تعرض له بعض أعضائها من تنكيل"، كما جاء في الصفحة 9 من الإصدار ذاته في حديثه عن سياقات نشأة "الهيئة الريفية"، رغم أن مقدمة الكتاب تقدم قراءة منحازة لسياق الأحداث وأحيانا غير دقيقة، كالقول مثلا إن "جيش التحرير والمقاومة لم يتسن له لعب أدوار سياسية والمشاركة في مفاوضات الاستقلال أو الحكومة، لأنه يفتقر إلى رؤية سياسية واضحة"، وكأن من شارك في محادثات الاستقلال الشكلي وتشكيل الحكومة في ما بعد كان يمتلك رؤية واضحة وصحيحة! 3- رسائل الأمير.. توجيهات وإصرار بعد اشتداد واحتدام الصراع بين أنصار "النضال السلمي" والمهادنة، وبين اتجاه وخيار المقاومة و"الكفاح المسلح" ضد المستعمر، ظلت المسافات والتناقضات تتباعد أكثر. في هذا السياق يبرز بقوة الصراع بين الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي وبين من أطلق عليهم "الملوثين بالحزبية"؛ لاسيما بعد التآمر وحل جيش التحرير الذي كان يمثل الامتداد الطبيعي والاستمرارية الموضوعية للمدرسة الخطابية، وكذا بعد قبول أنصار العمل السياسي بأنصاف الحلول و"الاستقلال الممنوح" (في هذا الصدد يذكر الخطابي كلا من علال الفاسي، بن بركة، بوعبيد، تبعا لما جاء في رسائل الخطابي الواردة في الكتاب المذكور الصادر قبل أيام)؛ بالإضافة إلى ما ميز هذه الفترة من تصفيات وتعذيب واختطافات: عباس المسعدي، حدو اقشيش، الطود، الحاتمي، الوزاني... في هذا السياق ستتكون قناعة أخرى لدى ابن عبد الكريم، وهي القناعة الراسخة المتمثلة في ضرورة خلق بديل حقيقي وفق خطة وإستراتيجية محددة يتولى مهمة استكمال معركة التحرير من أجل الحرية والاستقلال بعيدا عن منطق المساومة، وهو ما ترجمه بدء الإعداد لتشكيل وتأسيس "الهيئة الريفية"، كتنظيم سري مسلح؛ وهو ما يتجلى من خلال توجيهاته ورسائله المؤرخة ما بين 1956 و1957، والموجهة إلى مجموعة من الشخصيات الريفية التي شكلت نواة التنظيم المذكور، أمثال: محمد بن عبد السلام البقالي، حدو أقشيش، عبد السلام التدلاوي الزيلاشي، محمد بن الحاج الكبداني، عبد الكريم الحاتمي، وأسماء أخرى تنتمي إلى مدن تطاوين، طنجة، الناظور، مكناس، والدار البيضاء... قبل أن تندلع في خضم تشكيل "الهيئة الريفية" أحداث انتفاضة 1958-1959، بعد أن اشتدت قبضة "الحزب المستبد" وتتم مواجهة هذه الانتفاضة بالقمع العنيف من طرف الدولة وسحقها، وتلك قصة وحكاية أخرى لازالت جراحها لم تندمل بعد. 4- بين الأمس واليوم بحلول يوم 6 فبراير تكون قد مرت 55 سنة على رحيل "الأمير الهمام" وملهم حركات التحرر العالمية، ابن الريف، القائل: "لا حل وسط في قضية الحرية"، والاسم الخالد الذي ظل محظورا ومغيبا، والرجل الذي سبق زمنه، وربما جاء في غير أوانه، وهو المزداد سنة 1882 بأجدير، وتوفي سنة 1963 بالقاهرة.. عاش منفيا ومات منفيا. لم يؤويه وطنه، ولا التفت إليه أهل هذا الوطن.. إنه "ميس ن سي عبد الكريم"، المعروف بابن عبد الكريم الخطابي. لقد مضى زمن طويل من دون أن يجد فيه أمثال عبد الكريم مكانتهم المفترضة، رغم حضورهم الدائم في الوجدان والذاكرة الجماعية للمغاربة..فهل ستنصف رموزنا وشهداءنا ووطنيينا؟. إنه السؤال المحرج الذي تجيب عليه الكاتبة والصحافية زكية داود: "صمت، حرج، حيرة، إجلال، بحث، هذه هي الكلمات التي تتحرك بينها ذكرى عبد الكريم في الجهة الأخرى للمتوسط، شاهدة، هنا أيضا، على طول عمره السياسي المدهش. فهذا الفينيق ينبعث من رماده باستمرار، لأنه جزء أساسي من الثورة الواعية للشعب المغربي. وإذا كان يعتبر فقط ذاك الذي ألقى، من خلال جمهوريته، حجرا ثقيلا في مستنقع الأنظمة الاستبدادية، فإنه أكبر من ذلك بكثير في الحقيقة؛ لذلك يحوم ظله أبدا فوق أجدير". ولأن التاريخ يعيد نفسه، فاليوم، ومع الأحداث التي تعيشها منطقة الريف ووجود خيط رفيع بينها وبين وقائع وأحداث أخرى ميزت الزمن الراهن منذ نهاية الخمسينيات إلى هذه اللحظة، أصبح من اللازم ومن المفروض أن تكون العبر والدروس والقراءات المستخلصة من الماضي والتجارب السابقة بمثابة التحدي والرهان الذي يطرح نفسه. رهان يؤسس لتجربة متجددة تستفيد من أخطاء وتعثرات السابق وتأخذ بتراكمات الحاضر.