بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الأول حق لكثير من المتتبعين أن يستفسروا عن الانقلاب الكبير الذي يبدو أنه حصل في تصوري للديموقراطية بين الأمس واليوم. فكان لزاما علي ألا أترك استفسارات هؤلاء المتتبعين تذهب أدراج الرياح. أقول حق للمستفسرين أن يستفسروا حول هذا التحول لأني أنا صاحب كتاب (الشورى المفترى عليها والديموقراطية) وصاحب كتاب (لماذا لا نشارك في الانتخابات الديموقراطية) وصاحب محاضرات كثيرة جدا في هذا الموضوع كتلك التي عنوانها: (الديموقراطية ذلك الصنم) ... وفي المقابل أنا من أكثرت التصريحات بعد خروجي من السجن بإمكانية تأسيس حزب إسلامي، أو الانخراط في حزب العدالة والتنمية أو حزب النهضة والفضيلة... إلخ. وكل ذلك مخالف تماما لما كنت عليه من قبل. الشيء الذي جعل بعض المتسرعين يرميني بأغلظ النعوت ويلغ في عرضي مكفرا ومبدعا ومفسقا... هذا يتعالم من هنا، وذاك يزمجر من هناك... صحيح هناك من أرسل إلي رسائل في الموضوع بعضها سري وبعضها منشور على اليوتوب في شبكة الإنترنيت... وبعض العلمانيين يرى أنه ولي توبتي وأن محاوراته المتكررة لي هي التي حاصرتني فكريا إلى أن أعلنت تراجعي عن "تطرفي" ومنهجي "التكفيري" . وبعضهم كتب في جريدة "الخبر" عدد: 80 تحت عنوان بالخط العريض: [ مراجعات فكرية.. الفيزازي مطلوب سلفيا أو جهاديا ! ] كتب بالحرف: [استبشرت خيرا عندما أصبح الفيزازي يتحدث عن الديموقراطية وحرية التعبير والانتخابات والأحزاب والثوابت الوطنية... وهي أشياء كان ينكرها على المغاربة وأصبح يؤمن بها على ما يبدو. وبما أن الظن إثم، بعضه أو كله، فإنني أصدق الرجل وأنتظر أن تبدي لي الأيام ما كنت جاهلا. وأتمنى أن يكون صادقا، ولربما تفيده وتفيد البلاد والعباد "توبته" أو " أوبته" في استقطاب المتطرفين إلى الإسلام المغربي المتسامح الذي يسع الناس جميعا ويدعوا الشأن الديني لأمير المؤمنين وأجهزة الدولة لصيانة حقوق الله وعباده] [ياأيها الديموقراطيون الفضلاء، دعوا الإسلاميين يقتربون منا وشجعوهم على الاعتدال ولا تقصوهم من الفضاء العمومي، لإعلان مراجعاتهم لعل الله أن يحيي، على أيديهم، القلوب المتحجرة للمتزمتين.] هكذا... إن كل ما تفتقت عنه عقلية الملاحظين في الجملة لم يكن على شكل استفسار أو سؤال بقدر ما كان (نصيحة) أو (توجيها) من أجل التراجع عن الموقف الجديد الذي وصفه بعضهم ب(قلب المعطف) وبعضهم ب(بيع القضية) و (إجراء صفقة مع الدولة وفق أجندة معينة... ) وغالى بعضهم فحكم علي ب(الردة عن الإسلام والركون إلى الذين ظلموا...) زعموا، ومن أجل العودة (إليهم) هم أهل التوحيد والجهاد ومحاربة أمريكا والصليبيين والصهاينة والطواغيت والحكومات المرتدة والإثخان في الذين كفروا... إلى غير ذلك من الكلام الكبير والأوهام والتخيلات التي لا تمت إلى الواقعية والعقل بصلة. وأنا قبل توضيح المراد من الموضوع أحب أن أذكر أن كل تلك الانتقادات (والنصائح) لم ترد عن أي عالم أو مؤهل للنصح في هذا الموضوع الكبير، فقط هناك بعض المتصدرين للحديث والخطابة الذين صدقوا أنهم في مستوى التوجيه والتصحيح والتحليل والترجيح... فوعظوني بكلام لا علم فيه ولا فقه. تحجر كل هؤلاء (الناصحين) على فكر واحد ووحيد منغلق يجعلهم لا يعيرون أي انتباه لما يحدث حولهم يوميا من تغييرات في كل الجهات وتغيرات على كل الجبهات، سواء على مستوى الأنظمة أم على مستوى الحركات الإسلامية أم على مستوى مواقف العلماء الجديدة وعلى رأسهم السلفيون. أم على مستوى الحراك الشعبي في العالم العربي... أم على مستوى الحركات الجهادية نفسها. لا يفرقون في ذلك بين متحرك وثابت، ولا بين أصل وفرع، ولا بين محكم ومتشابه... عدم الاستفادة من مراجعات وتراجعات علماء ''الجهاد'' من داخل السجون العربية وخارجها خاصة وأن كثيرا منهم كان من كبار المؤطرين للمجاهدين وتكفير الديموقراطية والديموقراطيين مثل الشيخ الدكتور فضل واسمه الحقيقي (السيد إمام عبد العزيز الشريف) والمعروف باسمه المستعار (عبد القادر بن عبد العزيز) صاحب كتاب (الجامع في طلب العلم الشريف) وكتاب (العمدة في إعداد العدة)... وبمناسبة ذكر الدكتور فضل فلا بأس أن أدل الإخوة طالبي المعرفة إلى أن هذا الدكتور الذي كان يعتبر شيخ الجهاد والمجاهدين، والمؤسس الفعلي لجماعة الجهاد المصرية أنه كتب كتبا ورسائل جديدة ينتقد فيها بشدة الشيخين أيمن الظواهري وأسامة بن لادن رحمه الله، أشهرها (ترشيد الجهاد في مصر والعالم) و(التعرية لكتاب التبرئة) في رده على الدكتور أيمن الظواهري. بعد هذا أتطرق إلى موضوع التحرير الأساس وهو: (الديموقراطية بين الأصول المرفوضة والممارسات الفروضة) إنني لا أشك طرفة عين في أن أي مذهب فلسفي أو فكري يقوم على إقصاء الإسلام الحنيف من واقع الحياة لدى المسلمين، أو تفضيل الشريعة الوضعية الوضيعة على شريعة الله الرفيعة، أو يرى سمو ما شرعه الإنسان على ما شرعه الرحمن... لا أشك في أن مذهبا كهذا هو مذهب مرفوض شرعا وعقلا ومناف للإيمان...، وأن القائلين به والمروجين له معتدون وظالمون بكل المقاييس. فلماذا قلت من قبل إن الديموقراطية صنم يعبد من دون الله في الوقت الذي أقول فيه الآن بإمكانية المشاركة السياسية في البلاد؟ أما الديموقراطية الصنم فقد قلته بالنظر إلى أصولها الإيديولوجية والتاريخية، وهي أصول تعتمد التنظير لشؤون الدنيا دون الآخرة، ولقضايا الأرض دون اعتبار السماء، ولحقوق الإنسان وفق منظور معين دون حقوق الله تعالى وفق منظور الشرع بالنسبة للمسلمين على الأقل، وهو ما يعنينا نحن الآن في الصميم. فرفض شريعة الله جملة وتفصيلا، والتشريع بدلا عنها بما يضادها ويخالفها، وتقديم اجتهادات الإنسان على محكمات الكتاب والسنة أو التعسف في تأويل المحكمات والاجتهاد من غير مجتهد ولا داع... كل ذلك عندي مرفوض، وألف مرفوض. وكل ذلك حق لي أن أصفه بالصنم الذي يعكف عليه الذين لا يعلمون. بل إن العلمانية التي تعترف بالإسلام دينا لكن مجردا عن شريعته ومقتصرا على شعيرته هي عندي صنم من الأصنام. {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85] والعلمانية في بلادنا كائن غير شرعي، ومتسلل بدون (أوراق)، يعمل ضدا على الدستور والقوانين، وإسلامية الدولة وإمارة المؤمنين. وضدا على الديموقراطية نفسها التي من أبجدياتها التسليم للأغلبية. ولا يشك عاقل في المغرب أن الأغلبية الساحقة مسلمة تحب الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتحب الإسلام وتؤمن بشريعة أرحم الراحمين. والجديد في الأمر اليوم، هو النظر إلى الديموقراطية من حيث مدلولها عند عامة المسلمين حكاما ومحكومين. فلا يجوز – والحالة هذه - الانعزال الاختياري عن حركة التغيير الجارفة المعتمدة للآلية الديموقراطية التي لا وسيلة غيرها تحقق الحد الأدنى من تحقيق الذات مع الأطراف المتعددة من الفاعلين السياسيين الذين هم من سيضع لنا سياسة النظام، ونظام السياسة التي سنخضع لها طوعا أو كرها، إذا نأينا بجانبنا عن مزاحمتهم ومسابقتهم نحو مصدر التخطيط والتقرير... هؤلاء السياسيون العلمانيون وغير العلمانيين... من مختلف المدارس الإيديولوجية والمشارب الفكرية هم من سيخطط لمستقبلنا ومستقبل أولادنا وأحفادنا سنين طويلة. ونحن المصنفين في دائرة السلفيين وأولادنا وأهلونا الذين علينا بعد ذلك السمع الطاعة في المكره والمنشط... فهل من الحكمة والحق والعقل والمنطق... أن نترك من ليس له أي رغبة في شريعة الله تعالى، وليس له أي برنامج يرضي فيه الشعب المسلم فضلا عن إرضاء ربه...يخطط ويضع البرامج السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية... وغيرها – الداخلية والخارجية - وفق منظوره الإيديولوجي بما هو عندنا نحن أهل القرآن والسنة باطل ومرفوض؟ أم لا بد من مزاحمته على أصوات الشعب لتحقيق أهداف هذا الشعب في حماية عقيدته وهويته وجلب إليه ما يمكن من المصالح وتكثيرها، ودرء عنه ما يمكن من المفاسد وتقليلها؟ ولا أقصد هنا الأحزاب الوطنية الكبرى التي لا تعادي الإسلام بل هي متمسكة به، ولكنها فقط تمارس السياسة وفق اجتهاد معين نختلف معها فيه أو نتفق... اليوم، تغير كل شيء... لم تعد هناك تلك الديموقراطية القائمة على التزوير والكذب ونتائج 99 % وشراء أسماء الفائزين قبل الشروع في الانتخابات... والإعلان عنها قبل فرز الأصوات أصلا، وإن كان الحنين إلى تلك الممارسات لا يزال يخالج المنتفعين واللوبيين... والعامل الجديد اليوم ، هو استعداد عاهل البلاد أن يجعل من العملية الانتخابية عملية شفافة ونزيهة، لمحاصرة سماسرة الانتخابات على الطريقة (البصرية) وذوي خزائن السحت الذين يتربصون بأصوات الفقراء لشرائها نصرة للمفسدين... وإبقاء للمغرب في ظلمات الفساد والإفساد، أي إعطاء المسوغ الفعلي والدليل العملي لحركة 20 فبراير وجماعة العدل والإحسان وكل ذوي النزعة الثورية على مواصلة التظاهر بل على استقطاب المترددين والرافضين لهذه المسيرات التي تخبو شعلتها في هذه الأيام رغم وجود ما يمنيها ويغذيها بسقوط القذافي اللعين وتضييق الخناق على رقبة بشار الأسد السفاح وعلي عبد الله صالح المحروق.... أقول: لقد تحول اهتمامي من البحث الفلسفي والتاريخي والإيديولوجي للديموقراطية إلى اهتمامي بالنظر إلى المضامين المقبولة شرعا وعرفا عند عامة المسلمين دون الانحباس في العناوين أو الأصول المرفوضة والتي لا يعلمها كثير من الناس. إنني لم أنس ما قلته من قبل في آليات الديموقراطية ذاتها، لكن ماذا تريدون أن نفعل وليس أمامنا في إثبات الذات وتحقيق العدل والانعتاق من التهميش... غيرها؟ لذا لا بد من استحضار مدلول الديموقراطية ذاته لدى عامة الناس في بلاد المسلمين، حكاما ومحكومين، ومنها بلادنا المغربية، وهذا المدلول هو: الديموقراطية تساوي العدل، والكرامة والحرية ومنها حرية اختيار الحاكم ومحاسبته عند الاقتضاء...، أي أن النظر إلى أصولها الإيديولوجية والتاريخية المرفوضة غير مراد عند الناس البتة... اللهم إلا عند بعض المنظرين العلمانيين واللادينيين والذين لا يمثلون أي نسبة تذكر من سكان وطننا. هؤلاء المنظرون على قلتهم لا يمكن أن يكون لهم أي تأثير في الساحة الإسلامية عموما والمغربية خصوصا بشرط أن يتأهب العلماء وطلبة العلم إلى ولوج العمل الحزبي والجمعوي وخوض غمارات الانتخابات في ظل نسختها الجديدة التي أفرزها (الربيع العربي) وإقامة تحالفات وتكتلات على أساس المشروع الإسلامي الضخم والبرامج الإصلاحية العميقة في مواجهة أي تكتل علماني أو لا ديني... والعامل القديم الجديد اليوم كذلك، دستور الدولة الذي ينص على إسلامية الدولة وإمارة المؤمنين... وهو ما يصب صبا في نجاح المشروع الإسلامي نجاحا منقطع النظير... وكل دعوة في الاتجاه المعاكس لإسلامية الدولة إنما هي دعوة لاغية وباطلة دستوريا وشعبيا... فقط نقول: أين العلماء؟ والعامل الأساسي الآخر يتمثل في إفلاس كل البرامج غير الإسلامية التي تعاقبت علينا طيلة عقود... فما جنينا منها إلا ثمار التخلف والبطالة والأمية والمرض...وتفشي الجريمة والرذيلة وكل الموبقات... لهذا ليس لهذه البرامج الآن أي حظ في استمالة صوت الناخب ولا أي ثقة في من يطرحها... وقد طرحوها من قبل... فكان الفساد والكساد والظلم والاستبداد... (يتبع) الموقع الرسمي: www.elfazazi.com البريد الإلكتروني: [email protected]