عرفت المدينة القديمة بالدار البيضاء إنجاب العديد من الرجالات والرموز، سواء في صفوف المقاومة كأحمد بن جلون مؤسس الوداد البيضاوي...أو المهدي المنجرة في المجال العلمي والثقافي... أو في المجال الرياضي كالملاكم الفرنسي مارسيل سردان، والمصارع السوسي لوماران..أو في المجال الغنائي كبوشعيب البيضاوي... أو في مجال التمثيل كأحمد القدميري وفرقته... لكن إلى جانب هؤلاء الرجالات الذين عرفوا عبر وسائل الإعلام من جرائد وراديو وتلفزيون، هناك رجالات آخرون طبعوا التاريخ الاجتماعي العادي للمدينة القديمة بالدارالبيضاء من خلال مهنهم ومحلاتهم، وكذا حضورهم في المعيش اليومي لساكنة هذه المدينة. ولعل من أبرز هؤلاء الرجالات يمكن ذكر المرحومين بوعزة، بائع الكتب المستعملة بالبحيرة، وبول المعيزات مول الأسنان، بالإضافة إلى بوجمعة بائع السماطي. 1 بوعزة البوكنيست أو بائع الكتب المستعملة قرب محل س الحسين بائع الأسطوانات الموسيقية والأشرطة الغنائية بسوق البحيرة المحاذي لسوق باب مراكش القديم، كان س بوعزة يتربع فوق أكوام من الكتب والمجلات بمختلف أصنافها وأحجامها. كان س بوعزة بائع الكتب المستعملة معروفا لدى النخبة المتعلمة والمثقفة البيضاوية في دروب المدينة القديمة وأزقتها، حيث كانت تقصده للبحث عن كتاب لهذا المؤلف أو ذاك، أو للتنقيب عن عدد لمجلة من المجلات، سواء كانت باللغة العربية أو بالفرنسية، أو للسؤال عن موسوعة من الموسوعات في هذا المجال الأكاديمي أو ذاك. كان س بوعزة ملاذ مختلف هذه الشرائح المثقفة أو المتعلمة من ذوي الدخل المحدود أو تلك المنحدرة من الأوساط الشعبية للعثور على ما تحتاجه من كتب ثقافية ومراجع أدبية وعلمية ومقررات دراسية وجامعية.. وبالتالي فكثيرا ما كان الطلبة يزدحمون أمام محله، خاصة في بداية المواسم الدراسية والجامعية، للبحث عن ضالتهم من الكتب والمراجع التي كان لا يستطيعون شراءها من المكتبات المعروفة بالدار البيضاء، سواء بمنطقة الحبوس بدرب السلطان أو بوسط المدينة خاصة بشارع محمد الخامس، نظرا لارتفاع ثمنها الذي كان لا يتناسب مع مدخول أسرهم الفقيرة ومحدودة الدخل، أو ما كان يتبقى لهم من منحهم الدراسية. وهكذا كنت تجد الطلبة من كليات الحقوق أو كليات الطب وكليات الآداب والعلوم الإنسانية يجلسون القرفصاء للبحث عن مرجع أو كتاب أو مجلة أمام ناظري س بوعزة الذي كان لا يبخل بمساعدتهم في البحث عن ضالتهم من الكتب، حيث يقوم بجلب هذا الكتاب أو هذا المرجع أو هاته الموسوعة من أحد الرفوف المتواجدة بمحله الضيق، أو من تحت ركام من الكتب المكدسة في بعض الجنبات من هذا المحل الذي تحول إلى مكتبة سريالية تحتوي على كل الأنواع والأصناف من المؤلفات والكتب وبمختلف اللغات. وفي حالة ما إذا تعذر العثور على بعض المراجع المطلوبة يعد س بوعزة الطالب أو الأستاذ بجلبها من مكان آخر، محددا موعدا لذلك. وتوثقت علاقة خاصة بين س بوعزة ومختلف الشرائح والنخب المتعلمة بالمدينة القديمة وغيرها من أحياء الدارالبيضاء، إذ أصبح محله بسوق البحيرة معروفا لدى العديد من طلاب وطالبات العلم؛ وذلك على غرار جوطية درب غلف التي كانت بدورها القبلة الأولى للباحثين والأساتذة والطلبة التي يقتنون منها ما يحتاجونه من كتب ومراجع ومجلات بأثمان تناسب جيوبهم ومدخولهم وتتناغم مع مستوى قدرتهم الشرائية. وهكذا مع مرور الوقت، ونظرا لندرة المكتبات العمومية بالمدينة التي كانت لا تتعدى مكتبتي البلدية والستيام، ومكتبات بعض المراكز الثقافية الأجنبية كالمركز الفرنسي، والمركز الألماني، والمركز الأمريكي، بالإضافة إلى المركز الروسي، فقد تحول محله البسيط والمتواضع إلى قبلة لأجيال من المثقفين والمتعلمين من ساكنة المدينة القديمة، الذين تعودوا التوقف عنده لاقتناء ما يحتاجونه من الكتب والمراجع والمؤلفات المستعملة. أو بالمقابل تجد من كان يقوم ببيع بعض هذه الكتب ل س بوعزة إما لشراء غيرها أو للاستفادة من ثمنها، ما جعل محله شبه مكتبة متحركة يتم فيها تداول الكتب بشكل متواتر ومتجدد طبقا لعبقرية أبناء المدينة القديمة في تدبير شؤونهم المحلية والاعتماد على أنفسهم في تحقيق نجاحهم وتفوقهم المدرسي والجامعي، وساعدهم في ذلك س بوعزة بأريحيته، وطيبوبته وتعاطفه مع هذه الأوساط، إذ كان يتفهم أوضاعهم المادية والمالية، ويتعامل معهم بأبوية خاصة، وكان غالبا ما يردد أن كل طالب أو تلميذ هو بمثابة ابن له يريد منه أن يتفوق في دراسته وينجح في مساره المهني وحياته الشخصية. 2 بولمعيزات "مول الأسنان" كانت ساكنة المدينة القديمة تعاني من خصاص في الأطباء، بمن فيهم أطباء وجراحو الأسنان، حيث لم يكن هناك سوى بعض مما كانوا يسمون صناع الأسنان، الذين كانوا يقومون بالإضافة إلى صنع الأسنان وتركيبها بخلع الأضراس المسوسة والمريضة. ونظرا لما كان يكلفه ذلك من تكاليف تتعدى الإمكانيات المالية لساكنة دروب هذه المدينة التي كان جلها من المياومين، سواء في مجال البناء أو البقالة، أو الصيد والاشتغال بميناء الدارالبيضاء... فقد وجدت هذه الساكنة في محل بوالمعيزات المتواري وراء كوري علي قالا (عيادة خاصة) لمعالجتهم من خلال التخفيف من الآلام التي تسببها لهم أضراسهم أو أسنانهم المسوسة. وهكذا تحول بوالمعيزات إلى "طبيب أسنان خاص" تعود السكان على طرق بيته كلما استعرت أوجاعهم بسبب ضرس مريض أو تزايدت آلامهم بسبب سن مسوس. وكان هذا الصحراوي يستقبلهم بصوته الجهوري، وبنيته القوية، ليجلسهم فوق أحد الكراسي الجلدية التي تتدلى فوقها كل أنواع "الكلابات" المخيفة ليأمرهم بفتح فمهم بعد الإشارة إلى الضرس أو السن المسبب لأوجاعهم، ليضغط بكل ثقله على المصاب لشل حركته وإدخال "كلابه السحري" لانتزاع الضرس بدون أي حقنة أو مبنج، وسط صراخ المصاب وتهديدات بوالمعيزات وبعض سبابه وشتمه، لينتهي هذا الصراع بوضع كمية من النعناع على مكان الضرس المنزوع، وتلقي بوالمعيزات بعض الدريهمات لقاء خدمته مع الدعاء للمريض بالشفاء؛ وكان يقوم بهذه الخدمة بشكل مواز مع عمله بالميناء، حيث كثيرا ما كان يضطر مرضاه من أطفال ونساء ورجال من ساكنة المدينة القديمة إلى الانتظار في باحة البيت حتى يعود من عمله ويركن دراجته النارية قرب باب منزله، ليتفرغ لخلع هذه الضرس، أو انتزاع هذه السن أو تلك. وكثيرا ما حصلت لهذا الطبيب بعض الطرائف مع بعض مرضاه، وبالأخص مريضاته. وبهذا الصدد، حدث أن حاول بوالمعيزات أن ينزع ضرسا مسوسا لإحدى مريضاته، ونظرا لأن الضرس المريض كان يوجد ضمن الأضراس الخلفية لهذه المرأة، فقد طلب منها أن تفتح فمها على "مصراعيه"، ليتمكن في الأخير من انتزاعه، ويستدير لوضع الضرس على الطاولة في وقت كانت المرأة المسكينة لا تقوى على سد فمها، فما كان من هذا الطبيب إلا معالجتها بضربة على رأسها اصطكت لها أسنانها وأرجعت فكيها إلى مكانهما. كما تعرض بو المعيزات إلى طريفة أخرى مع إحدى السيدات التي شكت له من ألم في ضرسها المسوس، فانحنى عليها كعادته لانتزاع هذا الضرس؛ لكن من شدة الألم لم تتمالك هذه المرأة نفسها فصفعت طبيبها الذي لم يتردد بدوره في رد التحية بصفعها صفعة قوية أنستها إلى حين سبب ألمها. لكن رغم كل هذه الطرائف، فقد كان بوالمعيزات محبوبا لدى ساكنة دروب المدينة القديمة كمعالج كان يخفف عنهم أوجاع أضراسهم، ويخلصهم من الآلام التي يسببها لهم تسوس والسعار والأرق اللذان ينجمان عن ذلك، مقابل أجر زهيد يتناسب مع مدخولهم. 3- بوجمعة بائع "السماطي" ارتبط اسم بوجمعة بائع الأحزمة الضرير بأحياء المدينة القديمة ودروبها، حيث لا يمكن أن تخطئ الأعين طلعته من بعيد، أو تغفل الأذن صوته المميز وهو يردد لازمته المعروفة والمتقطعة "هاك السماطم"، و"هاك البزاطم"؛ فقد تعود بوجمعة "السماطيم" رغم إعاقته البصرية أن يجوب دروب المدينة القديمة التي يعرفها شبرا شبرا، وزقاقا زقاقا، سواء داخل أسوارها أو خارج هذه الأسوار. فهو لا يرى إلا ممازحا هذا ومضاحكا ذلك، ما جعل جل سكان المدينة يحبونه ويمازحونه ويضحكون من قفشاته ونكته. فقد كانت لبوجمعة "السماطيط" قدرة التعرف على مخاطبه من بحة صوته أو بلمسة من يده؛ ولعل هذا ما جعله معلمة بشرية متحركة ضمن مجال المدينة القديمة. فلا يمكن أن تذكرها دون أن يذكر اسم بوجمعة الذي أصبح يعد من رجالاتها المتجذرين، إذ يحس المرء أن هذه الشخصية ملتصقة بحياة المدينة وحيويتها، تؤثث فضاءاتها، وتنشط جنباتها من خلال خلق روح المرح والسخرية التي تتميز بها ساكنة المدينة القديمة وروح الدعابة التي كانت دائما تملأ جنبات درب بوسبير، وعرصة فتيحات، ودرب كناوة، وسيدي فاتح، ودرب خروبة، وغيرها من الدروب الشعبية. وبالتالي، فبوجمعة السماطيم، وبوالمعيزات، وبوعزة، إلى جانب شخصيات شعبية أخرى كبوجمعة أوجود باعزيزي، والمفضل الحريزي الملقب بمي الهرنونية، وغيرهم من رجالات المدينة البسطاء، يعتبرون بمثابة ذاكرة حية للمدينة القديمة وجزءا من تاريخها الشعبي البسيط الذي بدأ يعرف طريقه إلى الانقراض والنسيان، خاصة بعد التدمير الممنهج الذي طال بعض معالم المدينة القديمة بالقضاء على جزء من مجالها الغني بزخمه الشعبي وتراثه النضالي وذاكرته التاريخية. فأحياء مثل درب الصوفي التي تمت تصفيتها وترحيل ساكنته وتشتيتها على أحياء طرفية بالعاصمة الاقتصادية، وعرصة بن سلامة التي تم هدم جزء من مبانيها، ودرب المعيزي الذي أزيلت بعض معالمه، ودرب السنغال، ودرب بوطويل وباقي الدروب الأخرى التي مازالت تنتظر بطش الجرافات، كلها دروب وأحياء تعتبر من أقدم أحياء المدينة القديمة وتشهد على فترات تاريخية من حياة مدينة الدار البيضاء وتطورها، ومعلمة من معالم الذاكرة الجمعية لهذه المدينة. ولعل هدم ثانوية مولاي يوسف، أو ما كان يسمى عند البيضاويين بقبة والو؛ وهدم مدرستي الحريري، بالإضافة إلى هدم سينما المغرب هو محو مبيت لتاريخ هذه المدينة القديمة، خصوصا إذا لم يتم تدارك هذا الأمر من خلال إعادة ترميم وإعادة بناء هذه الدروب بمواصفات عصرية تحافظ على الزخم التاريخي والنضالي والشعبي للمدينة القديمة، وإطلاق أسماء هذه الرجالات على بعض هذه الأحياء، للحفاظ على جزء من ذاكرة مدينة الدارالبيضاء التي حولتها الأوراش الكبرى الإسمنتية إلى مدينة متغولة وصاخبة تفتقد دفء الحرارة الإنسانية وروح الدعابة التي كانت تميز أبناء المدينة القديمة وساكنتها، والتي عكسها رجالاتها البسطاء، أمثال س بوعزة البوكنيست، وبوالمعيزات مول الأسنان، وبوجمعة السماطيم، ورجالات آخرين ونساء أخريات.