الانتخابات المقبلة في المحك... تجسد قيمة "الثقة" القيمة المحورية التي تناضل القوى السياسية الحية على استرجاعها - بالإضافة إلى قيم أخرى مثل الكرامة والحرية...، ويتشارك في هذا النضال كل من الأحزاب ذات المصداقية من داخل المؤسسات بالإضافة إلى حركة الشارع المتجسدة في حركة 20 فبراير، باعتبار أن الممارسة السياسية طيلة فترة ما بعد الاستقلال كرست لنفور عام من العمل السياسي، وما تزال عوامل الطرد فيه أكثر من عوامل الجذب. لهذا، فإن إرادة القوى السياسية الحية والقوى الشبابية، تسعى إلى إعطاء معنى للعمل السياسي، سواء في جانبه الرفضي، والمتجسد في حركة 20 فبراير، أو في جانبه المؤسساتي البنائي، المتجسد في القوى السياسية ذات المصداقية والمشاركة في المؤسسات. طبعا لا يمكن استرجاع "الثقة" في العمل السياسي إلا من خلال تغير في الثقافة السياسية للأحزاب والدولة والمجتمع على حد سواء، وهو تغير يتم على المستوى البعيد الأمد، ولكنه يتعزز بالممارسات اليومية من خلال القيام بإجراءات "ثقة" على المدى القصير من طرف الدولة والنخب السياسية لتؤكد إرادة التغيير الحقيقي، يتم استشعارها فعلا والإحساس بأثرها، وليس مجرد مساحيق والتكيف مع الوضع القائم، والتي لم تعد تنطلي على قوى الإصلاح، بل هي بالأحرى تعمق المشكل وتطيل أمد الإستبداد فقط. إذا لم يتم تدارك الأمر، ستكبر كرة الثلج وتأتي على الجميع. ولا يصبح لخطاب الإصلاح معنى. وفي سياق تدبير مرحلة ما بعد الدستور الجديد، تصاعد الجدل حول سؤال نزاهة الإنتخابات المقبلة، وهل ستقطع مع ماضي التدبير السلطوي. خصوصا وأن وزارة الداخلية قد أدمنت تزوير الإنتخابات منذ أمد بعيد، مما يجعل من المواطن العادي، وكذا الفاعلين السياسيين المعتبرين يقدمون الشك على الثقة، في كون أن الإنتخابات المقبلة لن تختلف على سابقاتها ما لم يتم تفكيك "المخزن" كبنية مؤسساتية وثقافية، والذي تتجلي مؤسساتيا في وزارة الداخلية، بطرق تزويرها للإنتخابات "الواضحة" منها و"المستترة" أو ثقافيا من خلال الممارسات الإجتماعية المرتبطة بالرشوة والزبونية والمحسوبية... طبعا، لا يمكن اليوم تزوير الإنتخابات بالطريقة المفضوحة التي كانت تتم في السابق، بالنظر إلى التزامات المغرب الخارجية، والتي تجعل من احترام الحد الأدنى من الديمقراطية وحقوق الإنسان استحقاقا للحصول على الدعم، ويتجلى ثانيا في رغبة المغرب الداخلية في أن يقدم نموذجا متمايزا عن باقي الدول العربية الأخرى التي يتم فيها تزوير الإنتخابات بشكل واضح. إلا أن الدولة ليست في وضع محايد، فقد "تكلس" الإستبداد وتبلور في بنيتها وذهنيها، ولديها رغبة عارمة في التحكم في الخريطة الإنتخابية قبل حدوث "مفاجئات"، وهو تحكم قبلي يتم عن طريقة التقطيع الإنتخابي، وتحكم بعدي عن طريق التحكم في التحالفات. وبالتالي فعملية التغيير في البنيات والمؤسسات هي سيرورة ممتدة وتحتاج نفسا طويلا، لأنها ببساطة تحصل على المدى البعيد، خصوصا وأن موازين القوى لم تتغير بشكل كبير لصالح قوى الإصلاح، من داخل وخارج المؤسسات. وبالتالي فقدرة القوى المضادة للإصلاح على الإستمرار في التحكم في المشهد السياسي واردة في الإنتخابات المقبلة أيضا. الإصلاح/مقاومة الإصلاح... مع صعود محمد السادس إلى الحكم سنة 1999، تفاءل المغاربة برغبة الملك الجديد في الإصلاح، خصوصا وأنه شاب ويحمل قيما جديدة، وتم استعمال خطاب يدور حول مفاهيم رنانة لدى سماعها، مثل العهد الجديد، المفهوم الجديد للسلطة، الانتقال الديمقراطي، وغيره من الأقوال لم يواكبها عمل بقدر ما بقيت خطابات. سرعان ما تبخرت الأحلام مع واقع ممارسات "المخزن" السلطوية وسلوكاتها المتناقضة، فبقدر ما تتقدم بخطوة نحو الأمام، إلا وتتراجع في نفس الوقت بخطوات إلى الوراء. وهذه "الإزدواجية" في ممارسة الدولة تؤكد على وجود "مراكز" للقرار متعددة، ذات مصالح متناقضة، وبأن الدولة تتنازعها إرادة الإصلاح وإرادة مقاومة الإصلاح. وقد انطلق المسار التراجعي في المغرب منذ سنة 2002، عقب تعيين وزير أول تقنوقراطي (ادريس جطو) لم يتم فيه احترام المنهجية الديمقراطية ولا نتائج صناديق الإقتراع، وتعزز المسار التراجعي مع أحداث 16 ماي الإرهابية سنة 2003، وما تلاها من تراجعات حقوقية وسياسية واضحة. بالرغم من المحاولات التجميلية، مثل تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة، ومدونة الأسرة الجديدة...، ففي الوقت الذي كانت الدولة تعمل فيه على تصفية تركة الحسن الثاني في سنوات الرصاص، كانت عمليات الإختطاف القسري والتعذيب كما تؤكد عدد من التقارير الإعلامية والحقوقية. الدستور الجديد... هل من جديد؟ ستستمر سيرورة التراجع (أو المراوحة) الديمقراطي في المغرب، لتصل أدنى مستوياتها مع تأسيس حزب "الدولة" الذي كرس لمبدأ الرغبة في التحكم السلطوي وفرملة الدينامية المجتمعية. طبعا كان يجب انتظار الربيع العربي ليتم الانتقال من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، حيث عمدت القوى الإصلاحية، مجسدة في حركة 20 فبراير بالإضافة إلى القوى السياسية المعتبرة على إطلاق دينامية تسعى إلى الحد من السلطوية وتغول الدولة، وترجعها إلى حجمها الطبيعي. وقد أعطت الدولة في البداية إشارات إيجابية على رغبتها في التغير والقطع مع السلطوية. خصوصا مع خطاب 9 مارس، وتأسيس دستور جديد... إلا أن الآمال سرعان ما تبخرت أيضا، بالرغم من اعتماد الدستور الجديد، فقد استطاعت قوى مقاومة الإصلاح من التكيف والإنحناء للعاصفة، وهو ما يجعل من تكرار الممارسات السلطوية السابقة واردة، في ظل نفس المقدمات التي ستفضي إلى نفس النتائج. أي أن تدبير وزارة الداخلية للإنتخابات يعني بشكل واضح استمرار نفس المنهج التحكمي السلطوي السابق. المحطة الإنتخابية المقبلة...لماذا التسرع؟ إن المحطة الإنتخابية المقبلة تعتبر مرحلة حساسة ومهمة في مغرب ما بعد الدستور الجديد، وهي المحطة الكفيلة إما بإعطاء الزخم الشعبي معنى، وترجع للمغاربة "الثقة" في المؤسسات المنتخبة، وإما ستضيع على المغرب فرصة جديدة أخرى، كما ضيعها في السابق، يمكن أن تؤدي إلى مزيد من النفور، ومزيد من "عدم الثقة" التي تعتبر وقود "الثورة" و"التغيير الشامل" الذي يتراكم يوما بعد يوم في ظل إحباط عام، حتى في صفوف التيار الإصلاحي، وهو نفس الإحساس الذي سبق "الثورة المصرية"، وحينها لا يمكن تدارك الأمر. ولهذا فمن المشروع التساؤل عن سبب تسرع الدولة بإجراء الإنتخابات، في حين أن المنطق العقلاني يقول أنه يجب الإعداد الجيد لها (هل يمكن للطالب الدخول للإمتحان من دون الإعداد الجيد له؟). حسنا، فإذا كان لا بد من إجرائها في 25 نونبر، فلا بد من القيام ب"إجراءات ثقة"مستعجلة، وإلا ما معنى التصويت في ظل حرمان 7 ملايين مغربي من هذا الحق، أي أنه في ظل عدم تجديد شامل للوائح الإنتخابية بحيث يصبح لكل مواطن، انطلاقا من بطاقته الوطنية أينما كان له الحق في التصويت في الإنتخابات، تصبح الإنتخابات غير ذات معنى، لأنها لا تعبر عن كل المغاربة. يضاف إلى هذا الإجراء، عملية سقف التمثيلية، فرفع العتبة الوطنية إلى 10 في المائة هي الكفيلة بتشكيل تكتلات قوية في البرلمان، وحكومة منسجمة من حزب أو حزبين، كما هو في سائر الدول الديمقراطية الأخرى، وهو ما يعني فعلا حكومة منتخبة، وليس تكتل ل7 أحزاب من مرجعيات متناقضة لا يجمعهم أي شيء إلا معادة الإصلاح. الإجراء الثالث يرتبط بالعمل على وضع لائحة وطنية، وإلغاء لوائح النساء والشباب، يتم فيها وضع كل المترشحين في لائحة واحدة إما وطنيا أو جهويا، بحيث يتم التصويت على المشروع السياسي للحزب وليس على الأشخاص، وهذا الإجراء كفيل بالقضاء على تجار الإنتخابات الذين يشتغلون بشكل كثيف على الصعيد المحلي. فبما أن الانتخابات النيابية المقبلة تسعى إلى تأسيس نخب جديدة على الصعيد الوطني، فإن الإختيار يعتمد على تعاقد على أساس البرنامج الإنتخابي وليس على الأشخاص. وهذ الإجراء من شأنه أن يحل إشكالية التقطيع الإنتخابي نهائيا باعتباره أحد مداخل التحكم السلطوي. *** ليس الأساسي في الإنتخابات المقبلة هو الجانب التقني- وإن كان مهما-، وإنما الأساسي هو أي قيم وأي ثقافة سياسية لأي المغرب، ولهذا بنبغي للنخب السياسية أن تتشرب قيم الديمقراطية والإنفتاح والرغبة في القطع مع السلطوية على مستواها الداخلي والعمل على تجديد النخب ذاتيا، قبل مطالبة الدولة بذلك. وهذا لا يتأتى إلا بجيل شبابي متشبع بهذه القيم، يأخذ دوره في التغيير الحضاري الشامل المتشبع بالقيم الوطنية الحية، والمتشبث بقيمه الأصيلة والمنفتح على عصره. [email protected]