في كل فر أهدم أسوار قافيتي، وأغادر بيت القصيد، على أمل أن أعود إليه قتيلاً، ثم خلت لنفسي بعد ذلك، فأخذت قلمي لينساق عبداً لأناملي، مارداً على الصفحات، يلبي صرخة الأعماق، ونقمة الفكر ويضع للمستقبل، سبيل الخلاص، ومسلك النجاة! فليس لسفينة الإنسان مرفأ، ولا لخضم الزمان ساحل، إنها النفوس البشرية، وأصالة الفطرة، ليس إلاً! فالطفل حقد ولادته، طفل بريء، لكل ما في البراءة من معنى، يعبر عن إحساساته بفطرته الأولية – ترى ما الذي يدفع هذا الطفل، إلى أن يتسلق الشجرة، لكي يهدم عش العصفور؟ ثم يبكي إذا مات العصفور؟ ما الذي يدفعه إلى ارتكاب هذا الجرم؟ ثم ما الذي يدفعه إلى الندم؟ أسئلة وأسئلة كثيرة، أجوبتها بادئة وظامئة! لم أكن أتصور أن بحثي عن الله سيقودني إلى قراءة مئات الكتب الدينية والروحية، بل ومئات الكتب الفلسفية التحليلية التي تكلمت عن “فينميولوجيا الله”، بل لم أتخيل أنني سأؤمن بالمسيح كبشارة سارة من السماء على الأرض كما بإنجيل jon die lacrout يوحنا القديس، وذلك لأنني أومن وبحسب ما علمتني عقيدة أجدادي أن الإسلام والمسيحية شيء واحد، إلا أن ما رحت أكتشفه كان غير ذلك. دعوني أروي لكم قصتي مع الوجود وسؤال الله! البداية كانت سنة (1996)، مع أسئلة استبدت بي كما استبدت قديما مع الشيخ الألباني، وهي – هل الله موجود؟ وإذا كان موجودا كيف نعرفه؟ قد يبدو أن هذين السؤالين ساذجان، لكنهما بعمق لا يعرفه إلا من اختبروا “عقدة يونان” (يونس النبي). سمع يونان (يونس) صوت الله، فقال له اذهب إلى “نينوى” (العراق حاليا) حسب القصة التوراتية، فهرب من صوت الله، إلى حيث الشساعة، ليجد نفسه في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاثة ليالَ، فتعلم أن الهروب من صوت الله، هو في حقيقته هروب من أنانا الوجودي، فدعا ربه أن يخلصه من بطن الحوت، فخلصه، فعرف أن وجوده لا يستقيم إلا بالذي تنحني له كل الركب. منذ سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة وأنا أعتبر سؤال “هل الله حقيقي؟” سؤال مقدما على كل سؤال، إنه أهم من السؤال عن أحسن نظام للحكم، وعن انسجام نظرية الكوانطا مع النظرية النسبية، وعن كيفية التوفيق بين أخلاق الغيرية والأخلاق الكانطية، ونظرية النشوء الداروينية. أعتقد أن أغلب الناس في العالم يؤمنون بالإله حتى ولو اختلفت نظرتهم له وتفاصيل تعبيرهم عنه، المشكلة أن المجتمعات سريعا ما تحول إيمانها بالإله إلى الإيمان بوثن اسمه “نظرية الإله”، أي إلى الإيمان بمجموعة من القواعد الميتة التي تستعمل في التدريس والمجادلات اللاهوتية والمطارحات الأيديولوجية.. ليس شيء أسهل من الانشغال عن الله بالدفاع عنه أو الهجوم عليه. سأحكي لكم قصة حقيقية أقنعتني بأن الله حقيقي.. قصة بينت لي أن ليس شيء يصلح برهانا عن الله سوى الله نفسه. سنة (1996) كانت سنة حرجة بالنسبة لي، فهي السنة التي قرر فيها الملك الحسن الثاني بصفته أميراً للمؤمنين، أن يطلب من شعبه عدم إقامة شعيرة “عيد الأضحى” الإسلامية، لأن المغرب يعرف نقصاً من ناحية الذبائح (الأغنام)، لقد أمر الحسن الثاني بحذف إقامة السنة المؤكدة الإسلامية سنة (1996) بخطابه للشعب المغربي بصفته أميرا للمؤمنين، لقد أمر بعدم التعييد بما كنت أظنه شعيرة إسلامية مؤكدة لكل مسلم، فبدأ عندي سؤال أخر أعمق بخصوص هذه الشعيرة (عيد الأضحى)، عن من الذي أمر بها أولاً؟ ولماذا؟ وفي أي زمن؟ فاكتشفت أن نبي الله إبراهيم وخليله قام بهذه الشعيرة أولاً، لما أراد أن يقدم ابنه الوحيد ذبيحا، ولم يكن أصلاً عندي أي شك في أن الذبيح هو “إسماعيل” إلا أن ما اكتشفته كان صادم، وبشهادة المراجع الإسلامية، ابتداء من ما قاله المفسر الأول في صدر الإسلام “مقاتل بن سليمان". لقد جاء في تفسير مقاتل بن سليمان (80 – 150 ه)، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا، وجمع فيه مؤلفه بين النقل والعقل أو بين الدراية والرواية، يقول تفسيره “فبشرناه بغلام حليم” (الصافات 11)، يعني “عليم وهو العالم، وهو أسحاق بن سارة”، ويضيف، فرد عليه إسحاق قائلاً: ”يا أبت افعل ما تؤمر”، وكان إسحاق قد صام وصلى قبل الذبح، الأمر عند مقاتل لا لبس فيه ولا جدل أو تردد، فالذبيح إسحاق ولا أحد غيره، ومقاتل يذكر ذلك ببساطة ومن دون أي ذكر للاحتمال الثاني (إسماعيل)، فالأمر بديهي عنده لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج إلى دليل وإثبات، ولا يتناطح فيه عنزان، فلهجة مقاتل هذه البسيطة تؤكد أن مسألة من هو الذبيح لم تكن مطروحة في عصره، وليست موضوع نقاش، ذلك إذا علمنا أن مقاتل حجة في التفسير، وأول من صنف فيه، وكتابه أول تفسير كامل لكل آيات القرآن، زيادة على من أتى بعده، أخذ من تفسيره، يقول الإمام الشافعي (توفي 204 ه) فيه، ”من أراد أن يتبحر في تفسير القرآن، فهو عيال على مقاتل بن سليمان”، ويبدو مقاتل في تفسيره لآيات الذبح واضحا، وهي برأيه لا تحتمل تأويلا أو تساؤلا فيمن هو الذبيح. وباختصار، فإن تفسير مقاتل، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن يؤكد لنا أن هوية الذبيح “إسحاق” كانت أمرا بديهيا، يجمع عليه جمهور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين طيلة القرن الأول الهجري، والخلاف لم ينشأ إلا بعد ذلك بزمن، هذه القصة وغيرها جعلتني متأهبا لأي فكرة جديدة، وجعلتني أكثر تساؤلاً من ما مضى، مثلاً تساءلت - كيف يؤمن المسلمون بأن إسماعيل هو الذبيح؟ وكيف للملك الحسن الثاني أن يلغي هذه الشعيرة الإسلامية؟ وأين قيل في الكتاب المقدس الإسلامي (القرآن) أن إسماعيل هو الذبيح؟ لن تجد في القرآن أن “إسماعيل” هو الذبيح، ولن تجد أن “إسحاق” هو الذبيح أيضاً، بل ستجد فقرة قرآنية، تقول على لسان إله القرآن “وفديناه بذبح عظيم”، لا أقول أنني هنا وصلت إلى حقيقة ما، لكن ابتدأت عندي تساؤلات خطيرة تولد تساؤلات خطيرة أخرى وجريئة. التساؤل الأول: إذا كان الله موجود، أليس من الحري أن يعلن لي عن ذاته؟ التساؤل الثاني: كيف أعرف الإله الحقيقي من إله غير حقيقي؟ التساؤل الثالث: لماذا كثرة الأديان والنحل الدينية؟ لقد أصبحت أعيش في عائق أن أؤمن بعقيدة معينة في ذلك الوقت، إن هناك شيء يجعلني ألا أتق في كل الكتابات الدينية، سواء التي تدعي أن لها وحي، أو غيرها...، قررت في بداية الأمر ألا أدخل في مطارحات دينية مع الآخرين، كبعض الأساتذة الجامعيين بكلية الآداب المحمدية، والذين يدرسون الشريعة الإسلامية، وأيضاً فضلت ألا أقرأ وأبحث في هذا المجال، إلا أنني في النهاية لم أكلم الأصدقاء والعائلة على ما حل بي، لكنني رجعت للقراءة مرة ثانية والبحث الأكاديمي، ضاربا وعدي مع نفسي ألا أقرأ مرة أخرى وأحلل الإشكاليات الدينية عرض الحائط، رجعت مرة أخرى إلى السؤال الأول الذي ذكرته هنا – هل الله حقيقي؟ لقد تبين لي بما لا يدع مجالاً للشك، أن الله حقيقي، من خلال هذا الكون العظيم، الذي تبدى عظمته الأولى في هذا الإنسان الذي يفكر وينتج ويتألم، هذا المخلوق، المتصف بالذكاء homo sapiens، الذي يبكي ويضحك، ويؤمن ويلحد كذلك، هذا “الهيمونزم” غير قابل للفهم هو أولاً كوجود مادي، لكن بقي سؤالاً أخر لم أجد له جواباً، وهو – كيف أعرف هذا الله (الإله الخلاق)؟ أصدقكم القول، أن ما ذكرته هنا، وما سأذكره لكم، هو نزر قليل في مسار بحثي عن “الله”، فلا يمكنني ولا يسعني هذا الحوض الوجودي، والحيز، لأقول كل شيء، وأفسر كل شيء، لكنني سأحاول أن أعطي هنا، إشارات أعتبرها من أسرار وجود الله. بعد الانتهاء من فحص بعض الكتب الدينية المختلفة في أحد أيام أكتوبر (2010)، تبين لي أن الله لا يوجد عبر هاته الكتب، ولو أنها تتكلم عنه وعن أعماله ومعجزاته، بل “الله” يوجد حيث يوجد الباحثون عنه بكل قلوبهم، ولا أقول ذهنهم، فبعد مسار من البحث المرهق، استبدت بي رغبة أن أتحدث إلى الله قليلاً…لم يكن كلامي “دعاء” بالمعنى الاصطلاحي للكلمة بل “دعاء” بالمعنى الحرفي للكلمة.. تذكر أن “الدعاء” هو “النداء”، فعندما “تنادي” على شخص فإنك تدعوه إلى الخروج من وراء “حجاب” ما… وهذا عين ما كنت أحدث به الله في تلك اللحظة. "يا إلهي… لماذا أنت محتجب في عظمتك ولا نهايتك…لماذا لا تدخل إلى تاريخي الصغير وجغرافيتي الصغيرة رغم أنك أنت الأكبر؟…أنا أومن بنظرية وجودك وأريد الآن أن أومن بوجودك نفسه لتلتق دائرة محدوديتي بدائرة لاهوتك التي لا حد لها ولا استقصاء! كلمني الآن بصوتك، بصوتك الذي لا يعرفه الذين اختاروا البعد عنك”…لم أسمع موسيقى تنبعث من لا شيء كما يحدث في الأفلام الهندية، ولم تعصف ريح قوية تدل على أن شيئا غير عاد سيقع كما يحدث في الأفلام الأمريكية كما يقول أحد الكتاب المتميزين (أخ أكن له كل الاحترام والتقدير)… كنت وحيدا في مكتبتي المأهولة بالكتب من كل الأصناف، كنت يائسا، كأني أطرق بابا حديديا عاليا فلا أسمع شيئا غير صدى طرقاتي!.. فأحسست بأني أسير في خطى ثابتة لمعرفة هذا الإله المجهول بالنسبة لي، في معرفة كنهه،... أحسست براحة لم أعرفها في حياتي، راحة النفس والبال، راحة لا تباع ولا تشترى، وحدهم الباحثون عن الحقيقة يعرفونها، وحدهم المتصوفون والناسكون يختبرونها. أفلا يحق لي، إذن، أن أعتقد جازما بأن الله حقيقي.. أكثر حقيقة من “الموت".