تأتي الذكرى الثالثة والخمسون للثورة الفلسطينية المعاصرة، التي أعلنت حركة فتح انطلاقتها في فاتح يناير 1965، في ظل ظروف صعبة يمر بها شعبنا في كل أماكن تواجده، إلا أن صعوبة المرحلة تؤكد مجددا على صحة منطلقات وأهداف الثورة والمقاومة كما عبرت عنها ومارستها بداية حركة فتح وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية. بالرغم من التحديات التي واجهت حركة المقاومة الفلسطينية وحالت بينها وإنجاز هدف التحرير، وبالرغم من الأخطاء والتجاوزات التي صاحبت العمل الفدائي، سواء داخل الوطن أو في ساحات الخارج، فإن المقاومة أنجزت هدفا وطنيا استراتيجيا هو تحويل الشعب الفلسطيني من جموع لاجئين إلى شعب صاحب قضية وطنية سياسية، ورسخت المقاومة مفهوم الهوية وحررتها من أشكال الهيمنة والوصاية والتغييب التي كانت تحيط بها، ناهيك عن الوظائف الاجتماعية والثقافية والنفسية التي أدتها المقاومة للشعب الفلسطيني. سواء سميناها ثورة أو مقاومة أو انتفاضة أو هبة أو حق الدفاع عن النفس، فهي ثابت من ثوابتنا الوطنية الفلسطينية ما دام الاحتلال قائما. إنه حق يستمد شرعيته من القانون الطبيعي والشرعية الدولية وكل الشرائع الدينية، حق يستمر ما استمر السبب المنشئ له - الاحتلال -. ومن غير المنطقي أن يُعلن أي مسؤول فلسطيني التخلي عن الحق بالمقاومة لأن هذا الحق ثابت من الثوابت الوطنية، والثوابت لا يجوز التصرف بها إلا بقرار من الشعب وبإرادته الحرة. كما أن هذا التخلي يُفقد القيادة السياسية الراهنة والأجيال القادمة ورقة قوة قد تحتاجها إن فشلت نهائيا المراهنة على التسوية السياسية كما هو الأمر الآن، خصوصا بعد التغير في السياسة الأمريكية في عهد ترامب. أيضا لا يجوز لأي مسؤول أن يُسقط الحق في المقاومة، وفي الوقت نفسه يطالب المجتمع الدولي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية لأن الحق في المقاومة أو الدفاع عن النفس جزء من الشرعية الدولية، والشرعية الدولية لا تتجزأ. الشرعية الدولية ومن خلال العديد من قرارات الجمعية العامة تمنح الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم بأنفسهم والحق في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل، كما أن ميثاق الأممالمتحدة منح الشعوب الحق في الدفاع عن النفس، فلماذا نحرم أنفسنا بأنفسنا من ممارسة هذا الحق أو حتى التلويح بممارسته ولو في إطار مقاومة شعبية سلمية؟. إن ما يجري من خلط بين مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال من جانب، والإرهاب وما يجري في دول فوضى الربيع العربي من جانب آخر، يتطلب إعادة قراءة موقف القانون الدولي والشرعية الدولية من حق الشعب الفلسطيني في مقاومة آخر احتلال في العالم، ويتطلب تذكير الغرب بأنه أول من تحدث عن حق تقرير المصير للشعوب الخاضعة للاحتلال، وأول من مارسه على أرض الواقع، وإن كانت واشنطن ودول الغرب ودول عربية تحارب الإرهاب باسم الشرعية الدولية والسلام العالمي، فبالأحرى محاربتها للإرهاب الإسرائيلي ودعمها لحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه لأن الشرعية الدولية لا تتجزأ ولا يجوز الكيل بمكيالين عند تطبيقها. كان الغرب أول من نادى بتطبيق مبدأ حق تقرير المصير وحق الشعوب الخاضعة للاحتلال بمقاومة الاستعمار عندما قامت القوات النازية باحتلال فرنسا والعديد من دول أوروبا بداية الحرب العالمية الثانية، آنذاك نهضت دول العالم الحر، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، وناصرت الشعوب المحتلة من النازيين بالمال والسلاح، بل وضعت أراضيها لتكون قواعد لجيش تحرير فرنسا وغيره من حركات مقاومة النازية والفاشية، ولولا الدعم الذي وجدته شعوب أوروبا من الولاياتالمتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي لكان مصير أوروبا ومصير العالم اليوم مختلفا. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذت الجمعية العامة على مسؤوليتها وضع حق مقاومة الاحتلال موضع التنفيذ، من خلال حث الدول المستعمِرة على منح الشعوب الخاضعة لها الاستقلال والحرية ومد يد العون لها . في قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 (د-15) المؤرخ في 14 ديسمبر 1960 والمعنون ب "إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة"، جاءت مقدمة القرار لتؤكد أن الأممالمتحدة "وإذ تؤمن بأن لجميع الشعوب حقا ثابتا في الحرية التامة وفي ممارسة سيادتها وفي سلامة ترابها الوطني، تعلن رسميا ضرورة القيام، سريعا ودون أية شرط، بوضع حد للاستعمار بجميع صوره ومظاهره". ولأن الاستعمار ينتهك الكرامة الإنسانية، ولأن حق تقرير المصير تدعمه الشرعية الدولية ويخدم السلام العالمي، فقد أعطت الجمعية العامة الحق للشعوب باللجوء إلى كل أشكال النضال، بما فيها الكفاح المسلح من أجل نيل استقلالها، وهذا ما جاء واضحا في البرنامج الصادر عن الجمعية بتاريخ 12/10/1970 والمعنون ب"برنامج العمل من أجل التنفيذ التام لإعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة"، حيث اعتبر البرنامج أن الاستعمار بأي شكل من الأشكال يعتبر خرقا لميثاق الأممالمتحدة ولكل المواثيق الدولية، كما اعتبر أن "للشعوب المستعمرة حقها الأصيل في الكفاح بجميع الوسائل الضرورية التي في متناولها ضد الدول الاستعمارية التي تقمع تطلعاتها إلى الحرية والاستقلال". وحث البرنامج الدول بتقديم "كل مساعدة معنوية ومادية تحتاج إليها في كفاحها لنيل الحرية والاستقلال". إلا أنه كانت لقرار الجمعية العامة الصادر عام 1977 أهمية خاصة حول الموضوع، فهو من جانب اتُخذ بأغلبية ساحقة في الأصوات، كما أنه خطا خطوة مهمة بربطه مباشرة بين حق تقرير المصير وشرعية اللجوء إلى الكفاح المسلح، كما أنه ندد بالدول التي تنكر على الشعوب حقها في النضال لنيل الاستقلال. ونظرا لأهمية القرار فإننا نورد هنا أهم فقراته: "إن الجمعية العامة، إذ تؤكد من جديد، ما للإعلان العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير والسيادة والسلامة الإقليمية وللإسراع في منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة من أهمية بوصفهما شرطين حتميين للتمتع بحقوق الإنسان. وإذ تستنكر الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان التي تُرتكب في حق الشعوب التي لا تزال واقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية، والتحكم الأجنبي، ومواصلة الاحتلال غير الشرعي لناميبيا، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف فإنها: تدعو جميع الدول إلى التنفيذ الكامل والأمين لقرارات الأممالمتحدة بشأن ممارسة الشعوب الواقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية لحق تقرير المصير. تؤكد من جديد شرعية كفاح الشعوب في سبيل الاستقلال والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والتحرير من السيطرة الاستعمارية والأجنبية ومن التحكم الأجنبي بجميع ما أتيح لهذه الشعوب من وسائل، بما في ذلك الكفاح المسلح. تؤكد من جديد ما لشعبي ناميبيا وزمبابوي وللشعب الفلسطيني وسائر الشعوب الواقعة تحت السيطرة الأجنبية والاستعمارية، من حقوق غير قابلة للتصرف في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية والوحدة الوطنية والسيادة، دون أي تدخل خارجي. 4- تدين بقوة جميع الحكومات التي لا تعترف بحق تقرير المصير والاستقلال لجميع الشعوب، التي ما زالت واقعة تحت السيطرة الاستعمارية والأجنبية والتحكم الأجنبي، ولا سيما شعوب إفريقيا والشعب الفلسطيني". وهنا نذكر أن الأممالمتحدة اعترفت بمنظمة التحرير عضوا مراقبا عام 1974، فيما كانت المنظمة تمارس النضال المسلح بجانب العمل السياسي، كما خاطب الراحل أبو عمار أعضاء الأممالمتحدة قائلا: "جئتكم أحمل غصن الزيتون في يد والبندقية في يد فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". وتأكيدا على شرعية الحق في مقاومة الاحتلال، وأنه حق لا يسقط بالتقادم، فقد دعت الأممالمتحدة ودول العالم الحر إلى دعم الشعب الأفغاني في مقاومته للغزو السوفييتي في ديسمبر 1979، وتم دعم الأفغان بالمال والسلاح، بل بتحالفات عسكرية، وتكرر الأمر عندما غزا العراقالكويت في أغسطس 1990. هاتان الواقعتان تؤكدان بأن الاحتلال أمر مرفوض ويتعارض مع القانون الدولي والشرعية الدولية، فلماذا عندما يتعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي تقف دول الغرب، بل دول عربية وإسلامية موقفا مغايرا، فلا تعمل على إجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967، ولا على إلزامها بمقتضيات عملية السلام وبالاتفاقات الموقعة بهذا الشأن، والأدهى من ذلك أنها تقف في مواجهة ممارسة الشعب الفلسطيني لحقه في مقاومة الاحتلال؟. وقريبا رأينا كيف أن المعارضتين السورية والليبية اعتمدتا على الشرعية الدولية لمقاومة ما تعتبرانه حكما استبداديا بالعمل العسكري. وإذا كانت واشنطن وحلف الأطلسي والدول العربية وقفت إلى جانب هذه المعارضة ومدتها بالسلاح، بل حاربت إلى جانبها، فمن الأحق والأولى أن تقف هذه الأطراف إلى جانب الشعب الفلسطيني لمواجهة دولة إسرائيل، التي تحتل الضفة وغزة التي تعترف الشرعية الدولية بأنها أراض محتلة. إن العنف الذي يضطر الشعب الفلسطيني إلى ممارسته دفاعا عن أرضه ومقدساته يندرج في إطار الشرعية الدولية والحق في تقرير المصير وحق الدفاع عن النفس، فهو عنف يستهدف إلغاء حالة القهر والتسلط التي تمارسها إسرائيل، كما أنه عنف يصب في مصلحة السلام العالمي انطلاقا من كون الاستعمار يتناقض مع السلام العالمي، أو بمعنى آخر، هو عنف مشروع ردا على إرهاب الدولة، الذي تمارسه دولة الاحتلال ومستوطنوها، من منطلق أن الاستعمار هو إرهاب، بل أبشع أشكال الإرهاب، حيث يشمل بإرهابه كل الشعب، مهددا استقراره ومهينا كرامته وسالبا حريته. قد يقول البعض إن الزمان تغير والظروف غير الظروف والشعب الفلسطيني في مرحلة بناء الدولة، كما أن الفلسطينيين جربوا المقاومة المسلحة بعد قيام السلطة الوطنية، خصوصا انطلاقا من قطاع غزة، والنتيجة كانت خرابا ودمارا، وأن اللجوء إلى العمل المسلح الآن قد يبعد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس ويجر الشعب الفلسطيني إلى مربع تتفوق فيه إسرائيل الخ. الرد على ذلك من خلال ما يلي: إن قرارات الشرعية الدولية لا تسقط بالتقادم ولا تتجزأ، وإذا افترضنا أن القرارات أو التوصيات الصادرة عن الجمعية العامة بشأن الحق في المقاومة قديمة والزمن تجاوزها، فعلينا أن نتذكر أيضا أننا نطالب الجهة نفسها بتنفيذ قرارات أقدم عهد كقرار التقسيم 181 لعام 1947، وقرار عودة اللاجئين 184 لعام 1949، وقرار مجلس الأمن 242 لعام 1967، وقرار 338 لعام 1973، والقرارات حول حق تقرير المصير. مع افتراض الاعتراف الكامل بفلسطين دولة تحت الاحتلال كما تسعى القيادة الفلسطينية، يبقى السؤال: كيف سيتم زوال الاحتلال عن دولة فلسطين؟. أن تصبح فلسطين دولة تحت الاحتلال، فهذا يضعها تحت حكم المادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة التي تمنح الدول حق الدفاع عن نفسها: "ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد الأعضاء - الأممالمتحدة- إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي". وهنا نلاحظ أن إسرائيل، الدولة التي تحتل الأراضي الفلسطينية، تمارس إرهابها وعدوانها تحت زعم ممارستها حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في ميثاق الأممالمتحدة!. نعم أخطاء كثيرة صاحبت عمل المقاومة الفلسطينية، ولكن الخلل لم يكن في مبدأ المقاومة ولكن لأنه تمت ممارستها بشكل ارتجالي وفصائلي، وبدون استراتيجية وطنية، وأحيانا لخدمة أجندة خارجية. الحق في المقاومة وفي الدفاع عن النفس ليس بديلا عن العمل السياسي والدبلوماسي، بل مصاحبا له وداعما. المقاومة لا تعني فقط العمل العسكري من صواريخ وأنفاق وعمليات استشهادية، فيمكن ممارسة الحق في المقاومة والدفاع عن النفس بطرق متعددة تجعل كلفة الاحتلال باهظة وتردع المستوطنين وتُشعر العالم بأن خطرا يهدد الأمن والسلم الدوليين، المهم أن تكون المقاومة في إطار استراتيجية وطنية موحدة. وبالنسبة إلى العمل المسلح، ومع أننا لا نحبذه الآن، وخصوصا في ظل الانقسام، والفوضى التي تعم العالم العربي، إلا أن السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تدعم دول عربية وإسلامية وغربية حركات معارضة تمارس العنف المسلح في مواجهة الأنظمة السياسية، وتتردد في دعم مقاومة فلسطينية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي؟ وأيهما أكثر خطورة على الأمن والسلم الدوليين: نظام دكتاتوري وغير ديمقراطي أم احتلال شعب بكامله؟. وأخيرا يجب الحذر من محاولات كي وعي الشعب الفلسطيني من خلال تشكيكه في حقه في المقاومة والدفاع عن النفس بذريعة اختلال موازين القوى أو اعتمادا على أخطاء في ممارسات سابقة للمقاومة أو تحت رهاب قطع المساعدات عن السلطة الوطنية. إن الشعب الفلسطيني الذي تعداده داخل الأراضي المحتلة أكثر من ستة ملايين، ويخضع لاحتلال استيطاني عنصري، ويعترف له العالم بحقه في تقرير مصيره، هذا الشعب يملك، ولا شك، إمكانيات للدفاع عن نفسه في إطار الشرعية الدولية، والمُقعَد إبراهيم أبو ثريا ومئات الشهداء من شباب وشابات الدهس والطعن والاحتجاجات على الحواجز الإسرائيلية ومواجهة المستوطنين وحملات المقاطعة وعهد التميمي والآلاف مثلها ممن يتصدون للاحتلال بصدورهم العارية، كلها أشكال من المقاومة والدفاع عن النفس، المهم أن تكون في إطار استراتيجية وطنية شاملة، والاستراتيجية الوطنية تحتاج إلى وحدة وطنية. [email protected]