مفتي القدس يشيد بدعم المغرب تحت قيادة جلالة الملك لدعم صمود الشعب الفلسطيني    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟        إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    ترامب يهدد بمحاولة استعادة قناة بنما    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الصفقات العمومية في المغرب
نشر في هسبريس يوم 29 - 12 - 2017

تلعب الصفقات العمومية دورا شديد الأهمية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلد ويعتمد تمويلها أساسا على الضرائب، المباشرة وغير المباشرة. فهي في ارتفاع مستمر وتمثل نسبة مهمة من الناتج الداخلي الخام الوطني، لذلك فان تطورها يعتبر بمثابة واحد من أهم محركات العجلة الاقتصادية وأداة لتحقيق السياسات العمومية للدولة في مجال البنية التحتية وكذا توفير شروط عمل المرافق العمومية. لكن رغم الارتفاع المستمر لحجم المخصصات الميزانياتية التي ترصد في كل سنة للمشتريات العمومية فإن وقع هذا الارتفاع على التنمية يبقى ضعيفا ومحدودا حسب خُلاصات المجلس الاقتصادي والاجتماعي المضمنة في تقريره الصادر سنة 2012. وبالتالي فإن هذه المشتريات لا تجيب بالشكل المطلوب عن حاجات دافعي الضرائب، المتمثلة أساسا في خلق الثروات الكفيلة بتحسين مستوى عيش الساكنة، مما يؤشر على وجود قصور على مستوى حكامة الصفقات العمومية والذي يمكن أن يؤثر سلبا على النسق التنموي للبلد برمته.
نتوخى من خلال هذا المقال وانطلاقا من مفهوم الحكامة (أ) محاولة استخلاص الأبعاد الرئيسية لحكامة الصفقات العمومية بالمغرب بالنظر إلى الفلسفة التدبيرية التي أصبحت تفرض نفسها في العمل العمومي والتي من بين مرتكزاتها " نجاعة الأداء " و" الشفافية " و" المساءلة " (ب) وكذا المساهمة في تحديد معالم نظام حكامة منفتحة وشفافة ومسؤولة للصفقات العمومية باعتبارها رافعة أساسية لتحقيق تنمية اقتصادية شاملة ومتوازنة (ت).
مفهوم الحكامة
مصطلح الحكامة مشتق لغة من فعل حَكَمَ أي سَاسَ وأَدَارَ ودَبَّرَ ويصطلح عليه في اللغة الفرنسية بمفردة “gouvernance “المشتقة من المفردة اللاتينية «goubernare» التي تعني بدورها حَكَمَ وقَادَ سفينة حسب قواميس اللغة الفرنسية. أما في مجال التدبير فتُعَرَّفُ الحكامة على أنها فن أو طريقة تقوم على نهج أسلوب متميز لتدبير الشؤون في بيئة تتسم بتعدد المتدخلين الذين يمتلكون سلطة اتخاذ القرار، كل حسب موقعه. وعُرِّفت أيضا على أنها مسلسل اتخاذ القرار بشكل جماعي بغية الوصول إلى قرارات مقبولة من لدن الأغلبية وتسير في اتجاه المصلحة العامة. هذان التعريفان للحكامة يشتركان في كونهما يؤكدان على حضور الجماعة في اتخاذ القرار وفق مقاربة تشاركية بغية تحقيق المصلحة العامة. إذا فالحكامة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالطريقة التي من خلالها تتحقق المصلحة الوطنية وذلك وفق منهج تدبيري للموارد المتوفرة.
أما على صعيد المؤسسات الدولية فالبنك الدولي على سبيل المثال عرّف الحكامة، في بداية تسعينيات القرن الماضي، على أنها " الطريقة التي من خلالها تتم ممارسة السلطة بغرض تدبير الموارد الوطنية، الاقتصادية والاجتماعية، المرصودة للتنمية". وفي نفس الحقبة نجد أن برنامج الأمم المتحدة للتنمية يعتبر الحكامة على أنها "ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية من أجل تسيير شؤون بلد ما على جميع المستويات".
وتأسيسا على ما سبق يمكن القول إن الحكامة هي نظام إدارة الفعل العمومي، فلسفته الديمقراطية، وقاعدته المواطن والمجتمع المدني. فالحكامة عصبها الدولة كقطب أساس، وذلك بحضور القطاع الخاص كرافد تنموي مهم في تحقيق التنمية.
الأبعاد الرئيسية لحكامة الصفقات العمومية
إن حكامة الصفقات العمومية أضحت مطروحة بشكل جدي على اعتبار المتغيرات المتتالية والمتسارعة التي يشهدها الوضع الوطني والدولي على أكثر من صعيد. تبعا لذلك فإن نمط حكامة الصفقات العمومية مطالب بأن يرقى إلى مستوى أفضل من "النجاعة" (performance) وهو سلوك تدبيري سنده التدبير الديمقراطي يشكل المواطن مركز ثقله ورحاه بغية تحقيق " نجاعة " شاملة على اعتبار أن هذه الأخيرة تشكل حجر الزاوية لنهج الحكامة الذي أضحى ضرورة ومطلبا ملحا على المستوى الديمقراطي والاقتصادي والاجتماعي.
على المستوى الديمقراطي يمكن القول بأن عولمة الفكر الديمقراطي وحقوق الإنسان كان لها الفضل في ظهور نهج جديد لتدبير الشأن العام قوامه الشفافية والمشاركة في اتخاذ القرار العمومي وبالتالي فان المقاربة الصحيحة في نظرنا لحكامة الصفقات العمومية يجب أن تتم حصرا داخل منظومة الديمقراطية.
وبعبارة أخرى يمكن القول إن عصر الفاعل الوحيد والحكامة المغلقة قد ولى وأنه من غير المقبول أن تبقى الدولة بأي حال من الأحوال الفاعل الوحيد في عملية صنع القرارات العمومية. وبالتالي فان مساهمة أصحاب المصلحة أو الأطراف المعنية في مسلسل اتخاذ القرارات العمومية التي تخصهم أصبح مطلبا ديمقراطيا ملحا. لقد أصبح المجتمع المدني يطالب في واقع الأمر بالشفافية والإنصاف والمشاركة في اتخاذ القرارات العمومية. وهكذا فإن أسلوب التوافق كأداة لتسوية القضايا المجتمعية تراجع مقابل فسح المجال لنموذج مغاير يوصف بالتعددي ويتوافق وفلسفة الديمقراطية التي تقضي بضرورة ضمان مشاركة أصحاب المصلحة (parties prenantes) في صنع القرارات السياسية والمالية التي تهمهم بكل شفافية.
وتماشيا مع هذه الفلسفة فقد جاءت الوثيقة الدستورية للمغرب لسنة 2011 لتؤسس لنهج جديد في تدبير الشأن العام الوطني من خلال تنصيصها في الفقرة الثانية من المادة الأولى على أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة التشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة. هذا وقد تضمنت المادة 154 من نفس الوثيقة العناصر الأساسية المكونة لهذا النهج التدبيري من خلال التأكيد على ضرورة إخضاع " المرافق العمومية لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية" وكذا " للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور". وبالتالي فان السلطات العمومية مطالبة ليس فقط بضمان احترام هذه المعايير والمبادئ والقيم الديمقراطية بالإضافة إلى القواعد القانونية التي تحكم إدارة الأموال العمومية بغية تحقيق حكامة جيدة وعادلة لهذه الأموال بل إنها مطالبة كذلك، حسب منطوق الفقرة الثانية من المادة 36 من الدستور، ب «الوقاية، طبقا للقانون، من كل أشكال الانحراف المرتبطة بنشاط الإدارات والهيئات العمومية وباستعمال الأموال الموجودة تحت تصرفها، وبإبرام الصفقات العمومية وتدبيرها، والزجر عن هذه الانحرافات". هذا يعني أن حكامة الصفقات العمومية أضحت تشكل مطلبا ديمقراطيا قبل أن يكون اقتصاديا.
على المستوى الاقتصادي يمكن القول إن مسألة النجاعة الاقتصادية للفعل العمومي، خاصة فيما يتعلق بالمشتريات العمومية، أصبحت اليوم، أكثر من أي وقت مضى، مطروحة بشكل أكثر حدة في سياق وطني ودولي يعيش على وقع تغيرات قوية ومتسارعة على أكثر من صعيد. لذلك، فإن طريقة تدبير الشؤون العمومية مدعوة لان تتطور نحو مزيد من نجاعة الأداء قصد تحقيق مزيد من الفعالية والفاعلية على مستوى المشتريات العمومية بالخصوص وذلك لأن تحسين النجاعة الاقتصادية لهذه الأخيرة أضحى يشكل في الآونة الأخيرة تحديا حقيقيا وكبيرا للبلد من أجل السيطرة على مستويات العجز العمومي الذي يثقل كاهل المالية العمومية ويؤثر سلبا على مسلسل التنمية. غير أن هذه السيطرة تمر بالضرورة عبر ترشيد النفقات العمومية ودمقرطة تدبيرها على اعتبار أن مستوى الإنفاق هو الذي يحدد في الواقع وبشكل واضح مستوى الضغط الضريبي وكذا مستوى العجز العمومي.
لذلك فان الإدارة العمومية، كجهاز في يد السلطات العمومية، مدعوة إلى التكيف وباستمرار مع بيئة تخضع لمتغيرات متوالية مصحوبة دوما بظواهر غريبة تقتضي معالجتها التدبير الأمثل والحكامة الجيدة. وبالتالي فإن المدبرين العموميين سيكونون مطالبين ببذل مزيد من الجهد لتحسين إدارة أعمالهم وإثبات قدرتهم على التكيف عبر تغيير متواصل ومنتظم لمؤشرات وأساليب عملهم وكذلك باعتماد أسلوب إدارة تشاركي ومتفاعل مع مطالب أصحاب المصلحة وعموم المواطنين قصد اتخاذ القرارات المثلى في الوقت المناسب.
لقد أصبح إذا من واجب المؤسسات العمومية السهر على أمر تحقيق الفعالية الاقتصادية التي باتت تشكل معيارا أساسيا عند تقييم وتقدير نجاعة أداء المشاريع العمومية أي ضمان الاستخدام السليم للموارد وتحقيق الأهداف بأقل تكلفة ممكنة. ذلك أن الجميع في هذه الأيام أصبح يعرف الأهمية المتزايدة التي تحتلها الصفقات العمومية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهي ذات أهمية إستراتيجية فيما يخص تحفيز الاستهلاك وإعادة توزيع الثروة بالإضافة إلى دعم النمو الاقتصادي والاجتماعي. إن الصفقات العمومية تعد واحدة من أهم أساليب تنفيذ النفقات العمومية وأداة لتحقيق السياسات العمومية من خلال إعداد البنيات التحتية وتوفير وسائل الاشتغال الأمثل للمرفق العمومي. وبالتالي فان تجاوز هذا القصور يبقى رهين وجود نظام حكامة مسؤولة للمشتريات العمومية يرتكز في فلسفته على النجاعة الشاملة مع الأخذ بعين الاعتبار القيود الميزانياتية التي تدعو إلى تجويد مسلسل صنع القرار المالي وكذا الاستعمال الأمثل للموارد العمومية.
أما فيما يخص الشق الاجتماعي لحكامة الصفقات العمومية فيمكن القول بأن نجاعة الأداء الاجتماعية للمشتريات العمومية أصبحت تشكل مطلبا إضافيا للمجتمع المدني، إضافة إلى نجاعة الأداء الاقتصادية، كلما تعلق الأمر بتنفيذ سياسة عمومية معينة. فإذا كان الدستور المغربي لسنة 2011 قد نص للمرة الأولى على مبدأ فصل السلط فقد جاء ذلك تحت ضغط الحراك المجتمعي وتلبية لتطلعات المجتمع ورغبة القوى السياسية والمدنية.
إن المواطنين اليوم يطالبون ب «نجاعة أداء اجتماعية" أكبر للصفقات العمومية تضع المدبرين العموميين أمام مسؤولية اجتماعية كبيرة تجاه دافعي الضرائب من المواطنين الذين خرجوا مرات عديدة إلى الشارع العام يجأرون مطالبين بضرورة أن تأخذ احتياجاتهم ومطالبهم بالحسبان عند وضع أي استراتيجية أو سياسة عمومية في توافق تام بين المتطلبات القانونية وتلك المتعلقة بالنجاعة الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى هذا الأساس يتضح أن الحكامة المالية الجيدة للمشاريع العمومية هي شرط أساس يضمن تحقيق نجاعة أداء شاملة للفعل العمومي استجابة لمطالب المرتفقين وأصحاب المصلحة وذلك وفق ما يقتضيه التدبير الأمثل والحكامة الجيدة للأموال العمومية مما يجعل حكامة الصفقات العمومية مسالة في غاية الأهمية على اعتبار أنها محور الإنفاق العمومي. وترجع هذه الأهمية إلى كون أن الصفقات العمومية تشكل كذلك مجالا يتسم بوجود رهانات سياسية واقتصادية ومالية واجتماعية قوية في الآن ذاته فضلا عن أنه يجذب بشكل متزايد اهتمام الرأي العام والمجتمع المدني الذين يتساءلان بكل مشروعية عن أوجه صرف الأموال العمومية.
إن تدبير هذه الصفقات يجب أن يتجه إذا نحو البحث عن مزيد من نجاعة الأداء الاقتصادية والاجتماعية معا وهذا يؤكد مرة أخرى على أن حكامة الصفقات العمومية ليست خيارا بل ضرورة ملحة، في وقتنا الحاضر بالخصوص، لكون أنها ستشكل حلا موضوعيا سيساهم لا محالة في تثبيت دعائم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي باعتباره المدخل الأساس لبناء صرح الحكامة الجيدة.
إن تحسين الحكامة المتحدث عنها يشكل إذا تحديا كبيرا لضبط مستويات العجز الوطني، وذلك في أفق الاستجابة لمتطلبات المواطنين الذين ينتظرون تحقيق نجاعة أداءٍ شاملة للنفقات العمومية في إطار ديمقراطية تشاركية تضمن الإنصاف والمشاركة الفعالة للمجتمع المدني في اتخاذ القرارات المالية العمومية الكبرى التي تهمه بكل شفافية. هذا النهج التدبيري يقتضي الانتقال من منطق التسيير الإداري للصفقات العمومية إلى منطق التدبير الاستراتيجي والدمقراطي المرتكز على نجاعة الأداء كمبدأ لتحقيق متطلبات أصحاب المصلحة.
المعالم الرئيسية لنظام حكامة جيدة في مجال الصفقات العمومية
عند استقراء الواقع نجد أن المغرب في حاجة ماسة إلى عصرنة نظام تدبير الصفقات العمومية من خلال جعله " ناجع أداء"(performant) ومحترما لمبادئ الديمقراطية وذلك من خلال اعتماد مقاربات واليات يتوافق عليها الفكر الديمقراطي الحديث الذي اثبت فعاليته وجدارته فيما يخص المردودية الاقتصادية والاجتماعية. إن مثل هذا النظام يمكن أن يشكل حلا واعدا لإشكالية النمو الاقتصادي والاجتماعي شريطة تخليق الحياة العامة المتمثلة في احترام القانون والاحتكام إلى الدستور على مستوى اتخاذ القرارات العمومية المتعلقة بالشأن العمومي ولعله سلوك من شانه أن يعمق الإحساس بروح المواطنة لدى المواطن الذي يجد نفسه مجبرا على الانصهار في النسق الإصلاحي والتصحيحي الذي تنشده الحكامة تنظيرا وممارسة. لكن هذا النظام لا يمكن أن يُفَعل بدون تحقيق شفافية حقيقية، ليس فقط أثناء مسار تحضير وتنفيذ ومراقبة الصفقات العمومية ولكن أتناء مرحلة اتخاذ القرار المالي العمومي بالخصوص. بمعنى آخر يتعين إشراك الأطراف المعنية وأصحاب المصلحة (les parties prenantes) وقت تحضير السياسات العمومية وكذا عند تحديد الاختيارات الميزانياتية التي تخص الساكنة الوطنية.
هذه الشفافية لا يمكن ضمانها بدون وجود نظام للعقاب والردع فعال وعادل وضامن لمساواة جميع الأطراف المتدخلة والمعنية، أفرادا كانوا أو جماعات، أمام القانون كفيل بتحقيق منافسة حرة وعادلة طوال مسلسل إبرام وتنفيذ الصفقات العمومية. ويعتبر هذا النظام بمثابة شرط لا غنى عنه لمحاربة الرشوة والمحسوبية والممارسات التمييزية والإقصائية واستغلال النفوذ وكذا تضارب المصالح التي تعاني منها الصفقات العمومية والتي أصبحت تحد من فاعلية هذه الصفقات بل تعيق مسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وذلك أملا في تحقيق نجاعة شاملة للمشاريع الاستثمارية العمومية.
هذا يعني أن مسألة أخلاقيات وتخليق مسلسل اتخاذ القرار العمومي في ميدان الاستثمار تبقى في غاية الأهمية. من هنا يتوجب على متخذي القرار العمومي إيجاد توازن بين واجباتهم المهنية وانتظارات المتدخلين وأصحاب المصلحة. أي أن قراراتهم يجب أن تكون نتاجا لتفكير جماعي وفق مقاربة تشاركية علما أن التوفيق بين مطلب النجاعة الاقتصادية والاجتماعية ومطلب إنصاف جميع أصحاب المصلحة يبقى في كثير من الأحيان صعب المنال، لكن عدم وجود نهج أخلاقي وعقوبات رادعة للسلوك الفردي والجماعي للمشترين العموميين والمتعاقدين معهم من شأنه أن يجعل كل إجراءات الحكامة العمومية الموجودة أو التي هي في طريق الإرساء فارغة من كل فائدة عملية.
إضافة إلى هذا، ومستحضرين إشكالية عقلنة تدبير الصفقات العمومية، فإن تطوير نظام لمراقبة وتقييم وتقويم نجاعة أداء الصفقات العمومية أصبح أمرا مستعجلا. هذا النظام يتطلب بأن يضم مسلسل الحكامة العمومية وظيفة المراقبة الداخلية وأن يدرجها في مقدمة مسلسل التدبير وبالقرب من مراكز التوجيه وأخذ القرار الاقتصادي والمالي. يتوجب إذن النظر إلى هذا النظام على انه ضامنا لمشروعية الأعمال وكذا إجراءات المنافسة والشفافية في عمليات إدارة المشتريات العمومية. لكن يتوجب على النظام السالف الذكر أن يتجه في المستقبل القريب إلى تغليب منهج تقديم الدعم والمشورة للمدبرين العموميين في مجال تنفيذ وتقويم المشاريع الاستثمارية العمومية بدل الاقتصار فقط على مراقبة الشرعية والمشروعية.
وفي أفق تحقيق ذلك، فإن وضع نظام للمراقبة والافتحاص الداخلي (contrôle et audit interne) في الإدارات العمومية يجب أن يكون واحدا من أولويات المشترين العموميين على اعتبار أن منهج التشخيص الذاتي هو آلية حقيقية للحكامة تمكن من تحسين تدبير الهياكل ورصد المخاطر المحتملة في الوقت المناسب. يتعين على المدبرين العموميين، من الآن فصاعدا، أن يتقمصوا أدوار مدبري المشاريع والمخاطر على اعتبار أن هؤلاء يكونون قادرين على تنظيم مسلسلات المشاريع الاستثمارية ورفع مستوى توقعات المخاطر المحتملة من أجل السيطرة عليها. لذا وجب التخلي عن منطق المعاقبة فقط عن الأخطاء لصالح منطق رصد وتدبير المخاطر. هذا المنطق يفترض انتقالا نوعيا لمراقبة الشرعية والمشروعية المطبقة حاليا من طرف المصالح والهياكل الإدارية للمراقبة المالية إلى المراقبة المادية وكذا تقويم المشاريع الاستثمارات العمومية.
فضلا عن ذلك، فإن نظام حكامة الصفقات العمومية يوشك أن يصبح دون أي أثر فعلي في غياب نظام فعلي وفعال ومتطور يحدد بشكل عادل مسؤوليات المسيرين والمدبرين العموميين ومطبق على جميع المتدخلين في مسلسل المشتريات العمومية بمن فيهم صُنَّاع القرار العمومي.
ولعل الجهات المعنية بهذا الشأن هي الإدارات العمومية باعتبارها المخاطَب والمخاطِب فيما يخص الشأن التدبيري للقطاعات التي لها ارتباط وثيق المواطن الذي اكتسب وعيا جديدا بعد دستور 2011 الذي وضع انتظارات ينبغي تحقيقها. يتوجب إذن على هذه الإدارات أن تطور بصورة دائمة طرق عملها ونجاعة أدائها، وكذا تطوير مسؤولياتها في علاقتها مع دافعي الضرائب والمجتمع المدني وأن تتفاعل دوما مع محيطها لتحقيق النتائج المرجوة التي يتطلبها المال العمومي والتي تتطلب مرة أخرى الرفع من الكفاءة المهنية لأطر الدولة والمدبرين العموميين.
إن مهنية الهياكل الإدارية الموكل إليها تحضير وتنفيذ سياسة مشتريات الإدارات العمومية أضحى يشكل شرطا أساسيا لنجاح أي نظام للحكامة. وفي هذا الشأن، يتعين أيضا الإشارة إلى أن هذا المنهج لا يمكن اختزال فلسفته فقط في توفير الشروط المادية السالفة الذكر، بل إن الاهتمام الحقيقي يتعين أن ينصب بالأساس على العنصر البشري. يتعين إذن أنْسَنة الحكامة العمومية لكي يتم تبني منهجها وتقبل شروطها من لذن جميع المتدخلين في مسلسل الصفقات العمومية على اعتبار أن هذا التقبل هو بلا شك ضمانة إضافية لمتانة واستدامة نظام الحكامة الذي ينبغي أن يستند على تعليم وتربية المدبرين العموميين. هذين العاملين يشكلان العمود الفقري لنظام الحكامة الجيدة والمسؤولة.
في هذا الصدد يمكن التأكيد على أن أهمية التربية لا تحتاج إلى إثبات بخصوص انعكاساتها الايجابية على المدبرين العموميين باعتبارها وسيلة للتعليم وتنمية القدرات فضلا عن أنها وسيلة لتلقين الأجيال المقبلة أفضل الممارسات التدبيرية والقيم الاخلاقية والمعرفة والخبرة.
في مقابل ذلك يمكن الجزم بأنه بدون تربية يكون نظام الحكامة مهما طالت مدته معرض للفشل والمدبرون العموميون محكوم عليهم بالاضمحلال فيما تتعرض الهياكل الإدارية إلى التصلب. لكن السؤال الذي يُطرَح في هذا الصدد هو ما نوع التربية التي يجب تلقينها للمدبرين العموميين وللأجيال القادمة بغية إرساء نظام حكامة للصفقات العمومية مبني على العدل والإنصاف والشفافية ونجاعة الأداء، كفيل بأن يشكل إجابة مناسبة لإشكالية التنمية الشاملة للبلد؟
*دكتور في القانون العام والعلوم السياسية.باحث في مجال الحكامة و المالية العمومية.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.