في رحاب القدس الشريف أمل كل المسلمين في بقاع الأرض أداء فريضة الحج والصلاة بالمسجد الأقصى، بالقدس الشريف، بلاد الأنبياء والرسل، وكان المغاربة كلما عزموا على أداء فريضة الحج برمجوا زيارة القدس للصلاة بالمسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة المشرفة، وبذلك يحقق الحاج حلم الصلاة في المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، الحرم المكي والمدني والقدسي، حيث أسري بالرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. وكان أمر ذلك متوفرا عندما كانت القدس تحت حكم العرب في فلسطينوالأردن، إذ كانت زيارتها لا تشكل أي عائق أو مشكل لأي زائر، لكن بعد حرب الستة أيام، في يونيو 1967، وهزيمة المسلمين في حرب شرسة، واستيلاء الإسرائيليين على العديد من المدن الفلسطينية، ضمنها القدس، لم يعد أمر زيارة القدس ميسرا ولا سهلا، ولم يعد بإمكان أي حاج أو معتمر أن يعرج على القدس للصلاة بالمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين. كانت زيارة القدس تشغلني باستمرار، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك، تتعذر الرحلة والوسيلة، والحلم يراودني في كل وقت، وتتأجج الرغبة في أعماقي للزيارة كلما رغبت في أداء مناسك العمرة، لكن ما الحيلة التي يمكن التوسل بها لتحقيق ذلك؟ كان للصدفة دور عجيب في تحقيق حلم يعزّ الإمساك به حقيقة، لكن حدث ما لم يخطر على البال، عندما أخبرتني سيدة فاضلة في حفل خيري أقيم بمدينة الرباط عن زيارتها للقدس الشريف، في ظروف طيبة، وأطلعتني على صور زاهية بساحة المسجد الأقصى تحتفظ بها في هاتفها النقال، فالرحلة كانت بمبادرة من شركة سياحية رُخِّصَ لها بذلك. أسئلة كثيرة طرحتها على هذه السيدة: كيف تم ذلك؟ ومن كانت له الجرأة للقيام بتنظيم رحلة إلى تلك الديار؟ فكانت أجوبتها حافزا للتفكير جديا في تحقيق الحلم، وزيارة القدس الشريف، فخيوط الرحلة لم تعد خافية ولا مستبعدة، ومن ثم بدأت الأسئلة تتناسل عن الشركة التي تؤمن الرحلة، وعن شروط ذلك وظروفه، وكان السؤال والتساؤل هاجسا أرقني أياما وليالي لأتصل أخيرا بالشركة المخوّل لها القيام بالرحلة. وفعلا، تمّ التسجيل بهذه الشركة، التي برمجت رحلتها من يوم 4 جمادى الثانية 1437/ 14 مارس 2016 إلى غاية يوم 25 جمادى الثانية/ 4 أبريل، وتضمنت الرحلة ثلاث رحلات: زيارة الأردن، المحطة الأولى، فلسطين/ القدس الشريف، المحطة الثانية، وأداء مناسك العمرة، المحطة الثالثة. إنها رحلة ممتدة في الزمان والمكان، فالتنقل بين هذه المناطق متعب دون شك، لكن لا مجال للتردد. كان الوفد الذي انتسبتُ إليه يضم تسعة وعشرين فردا من مدن مغربية مختلفة، أقلتنا الطائرة من مطار محمد الخامس مساء يوم الاثنين 14 مارس إلى الدوحة، ومنها إلى عمان التي وصلنا إليها صباح يوم 15 مارس، ونزلنا بفندق "القدس الدولي" بمنطقة شارع الملكة رانيا العبد الله وشارع الجامعة الأردنية، وكانت عمان البلدة الجميلة محطة علينا الوقوف عندها لعبور الجسر فيما بعد ذلك، وانتظارا للموعد المحدد لزيارة القدس، نظمت لنا رحلة إلى جبل نيبو، الذي يبعد عن عمان بأربعين كيلومترا، وهو من العصر الحديدي، أي 1200 سنة قبل الميلاد، وقيل إن به مقام النبي موسى عليه السلام، كما يعتقد أن به قبره، وقيل بهذا الجبل عيون موسى التي ذكرها القرآن الكريم "وضرب موسى بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا"، لكن نشفت هذه العيون إلا واحدة لا تزال تتدفق مياها من شجرة ممتدة تسقي المنطقة كما يذكر المرشد السياحي. وبهذا الجبل انتصبت أعمدة كتب على بعضها جبل نيبو مقام النبي موسى، وعلى بعضها: الله محبة، دعوة السماء ورسالة الأنبياء. أماكن مقدسة كثيرة بهذا الجبل، منها شجرة كبيرة يعتقد الناس ببركتها، فيربطون عليها مناديلهم أملا في تحقيق أمنياتهم. و بالمنطقة متحف يضم صورا ولُقىً أثرية وأحجارا وقوارير وقطعا فسيفسائية تمثل حياة سكان المنطقة التجارية واليومية وحيواناتهم وغيرها، وخريطة تمثل طريق الرحلة من جبل نيبو إلى القدس. وينتصب بالجبل نصب يمثل عصا يبلغ طولها أربعة أمطار، قيل إنها تمثل عصا سيدنا موسى، التي اشتهر أمرها في القرآن الكريم، ويذكر المرشد السياحي أن النبي موسى اطلع من جبل نيبو إلى أرض فلسطين المباركة وبها القدس الشريف. وتباعا قمنا بزيارة منطقة أثرية سياحية أخرى هي قرية الرقيم (كما تعرف برجيب) حيث يوجد كهف يضم قبور ومدافن أصحاب الكهف، وبقربهم دفن كلبهم، كما ورد في القرآن الكريم (سورة الكهف)، وقد عمل ملك الأردن على تشييد مسجد بقرب الكهف أطلق عليه اسم مسجد أهل الكهف، ويضم مرافق دينية وثقافية وقاعات وحدائق، افتتح بتاريخ 26 /9 / 2006. وفي اليوم الموالي، أي يوم 16 مارس، قمنا بزيارة البتراء، وتعرف أيضا ب"المدينة الوردية"، تبعد عن عمان ب 225 كلم، تابعة لمحافظة معان، وهي قرية من درجة راقية، وعاصمة الأنباط ، وتمثل حياتهم منذ مئات السنين. وقد تمّ اكتشاف هذه المنطقة سنة 1812 من طرف عالم سويسري. يمتد طول الأثر التاريخي مسافة 50،1 كلم، ذهابا وإيابا، صخور منحوتة ومرتفعة جدا في شكل نقوش تبهر العين، طريق طويل بين جبلين بانعراجات على الزائر الحذر منها، والمنطقة أثرية تاريخية وسياحية صنفت ضمن التراث العالمي التابع لليونسكو سنة 1985، كما تمّ اختيارها واحدة من عجائب الدنيا السبع الجديدة سنة 2007. من أكبر مبانيها المسرح المنحوت بالصخر لإحياء احتفالات سنوية تهدف إلى التعريف بها وبأهميتها الدينية والتاريخية، وقد احتفلت الكثير من المسرحيات والأعمال الدرامية الأردنية والعربية بالبتراء، أهمها مسرحية "البتراء" التي ألفها الأخوان رحباني وغنتها فيروز ونصري شمس الدين وآخرون، وكذلك مسرحية "صدى الصحراء" وتتغنى بأمجاد البتراء وحكايتها مع الزمن. وفي طريق العودة إلى الفندق، مساء، زرنا مدينة الكرك حيث يوجد مقام الصحابة جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة. كانت جولات متعبة، خاصة وقد صادفنا جوا باردا وأمطارا يذكر أبناء البلدة أنهم كانوا ينتظرونها منذ مدة، ومع ذلك لا بد مما ليس منه بد. أما يوم الخميس 17 مارس، وهو الموعد المحدد للرحلة إلى القدس، فقد قصدنا جسر الملك حسين بالحافلة (وكان يسمى جسر اللَّنْبي نسبة إلى الحاكم العسكري الذي دخل الأرض المقدسة عام 1917 حيث تمّ الانتداب البريطاني)، وانتظرنا مع العديد من المسافرين الفلسطينيين المقيمين في إحدى المدن الفلسطينية، سواء منهم العائدون من أداء مناسك العمرة أو الراغبون في زيارة أهلهم وذويهم ويتمتعون برخصة استثنائية. كان الصف طويلا ومربكا ومنظما. وبدورنا انتظمنا مع عموم المسافرين، ونحن أيضا نتمتع برخصة استثنائية عبارة عن ورقة مرور. دام الانتظار أكثر من ساعتين ليسمح لنا بالعبور، والواقع أننا لم نجد صعوبات ونحن نجتاز مصالح الأمن الإسرائيلية، فالمغرب يتمتع بسمعة طيبة عند الأردنيين والإسرائيليين، لكن المتعب هو الانتظار والصف الطويل، والمتعب أكثر هم الأطفال الرضّع الذين لا طاقة لهم بمثل هذه المواقف. كانت مرحلة اجتياز الحدود إلى حدّ ما عادية، لنجد أنفسنا مع مندوب الشركة السيد موسى، الذي نقلنا بالحافلة إلى مدينة أريحا على بعد مسافة قصيرة . يحكى هذا المرشد السياحي بمرارة عن فلسطين المغتصبة، وعن هدر كرامة الشعب لقرن من الزمان، وتحدث بلغة عربية سليمة عن الوضع المأساوي للشعب الفلسطيني، وعن استباحة أرضه وخيراته، مرددا بين الحين والآخر دعاء يقول فيه: "الله أكبر على من طغى وتجبّر، الله أكبر على من صال وتبختر"، ففلسطين أرض الأنبياء. ويظهر أن هذا المرشد خريج جامعة، فهو يتقن عدة لغات، وملمّ بتاريخ فلسطين منذ عهد النبي موسى عليه السلام، تطبع كلماته نبرات حزن دفين على واقعه وواقع أمته، وهو معتز بالمغاربة ودورهم في تعمير فلسطين وفي إمدادها بالعون في كل وقت، منذ عهد الملك محمد الخامس، الذي بنى عند زيارته للقدس مدرسة باسمه، شيدت في حارة المغاربة، لكن اليهود هدموها كما هدّموا الحي بكامله. في أريحا، أول بلدة تطؤها أقدام العابرين للجسر، تحدث المرشد عن المدينة وسكانها وظروفهم وعن سحر طبيعتها، وأخذنا إلى جبل يسمى جبل التجربة وقف عنده سيدنا عيسى وظل به أربعين يوما صائما متعبدا، وقد أغراه الشيطان بهذا الجبل ليأكل من ثمار أريحا، لكنه انتصر عليه وقال: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان". ثم عرجنا على مدينة الخليل، والمؤلم أن الدخول إليها يتطلب موافقة الشرطة الإسرائيلية لاجتياز الحواجز. وقد لاحظنا الفقر الذي يخيم على البلدة، دليلنا كثرة الأطفال الأبرياء الذين يستعطون، والجند اليهود في كل مكان، والذي يبعث في النفس الحسرات الرايات الإسرائيلية التي تعلو البنايات، لكن هذا هو الواقع. وقد زرنا الحرم الإبراهيمي وقبر سيدنا إسحاق وزوجته، ثم مقام سيدنا إبراهيم وزوجته سارة، كما زرنا مقام النبي يونس، الذي قيل إنه شُيِّد في عهد الأيوبيين. بعد هذه الزيارة يمَّمْنا الطريق إلى بيت لحم التي بها ولد السيد المسيح، فزرنا كنيسة المهد، وأحسسنا في هذه المدينة الجميلة بأن هناك سلطة فلسطينية، حيث الرايات الفلسطينية تعلو البنايات، وسمعنا بها أذان صلاة المغرب بصوت رخيم يبعث في النفس نشوة الإيمان بالله الواحد الأحد. كان الشعور، وأنا على مشارف القدس أستعد لتنسُّم هوائها والارتواء من قدسيتها، يبعث على الرضا وعلى الاطمئنان، وإن كان مصحوبا بحسرات على الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد، وعلى جبروت الأعداء السّالبين لأرض أصحابها، وكان الفندق الذي تمّ الحجز فيه للإقامة ليلتين فقط، كما رُخِّص لنا، هو فندق الأراضي المقدسة، ويديره فلسطينيون رحبوا بنا وتحدثوا عن المغرب بحب وتقدير. كان التعب قد أخذ مني مأخذه، فتناولت مع الرفقة طعام العشاء في الفندق، واتفقنا على أداء صلاة الصبح بالمسجد الأقصى، مستنيرين بإرشاد صاحب الفندق للطريق المؤدية إلى المسجد الذي يقع على بعد مسافة عشرين دقيقة بين أزقة عربية ضيقة وكأننا في أزقة سلا أو فاس، وكذلك كان، اجتمع شملنا جميعا في بهو الفندق وانطلقنا نحو المسجد الأقصى، يخيم الهدوء على الأزقة التي يحرسها جنود فلسطينيون وآخرون يهود، إلى أن دخلنا المسجد قبل الإعلان عن الأذان. كانت الساحة مشعة، على الرغم من أن غبش الليل مازال مخيما على المكان، وكانت مصابيح الإنارة تسعف على السير بخطوات وئيدة نحو قاعة المسجد، لحظات ربانية لما للمسجد من هيبة؛ يخشع القلب وتدمع العين. فعلا، تحقق الأمل الذي راودني وغيري للصلاة بهذا المكان المقدس. جلسنا نحن النساء في الصفوف الأخيرة بالمسجد، وبعد أداء تحية المسجد أعلن المؤذن عن أذان صلاة الصبح، فاهتز المكان خشوعا وابتهالا للتكبير والتهليل، فكيف بمن شدّوا الرحال إليه في ذلك الفجر المهيب. بعد أداء صلاة الفجر، أذن المؤذن معلنا الاستعداد لأداء صلاة الصبح، وكان لصوت الإمام سحره وهو يؤدي ركعتي الصبح بهدوء يثلج الصدر، وروية تبعث على التفكر في عظمة الخالق وضعف المخلوق. لا أعرف كيف انتابتني حالة من الخشوع فذرفتُ الدمعَ السخين، شاكرة الله تعالى أن هيّأ لي الصلاة بهذا المسجد المقدس مع سكان بيت المقدس الطيبين، ومع رفقة من الوفد الذي انتسبت إليه. وكانت دعوات الإمام بعد انتهاء الصلاة تبعث في النفس الطمأنينة، على الرغم من كل المثبطات وكل الأوضاع المؤلمة التي يعيشها الشعب المقدسي والشعب الفلسطيني، فيشعر المرء براحة نفسية ممزوجة بأمل تحرير الأرض وتحرير المدينة المقدسة من براثن الشرذمة المستعمرة لأرض الأنبياء ومسرى الرسول عليه السلام. تفرقت جموع المصلين، لكن الرغبة في البقاء برحاب هذا المسجد والتجول في أركانه كانت مفيدة لأنني وغيري شهدنا حلقات ذكر منتظمة في أركان المسجد، ينشدون أشعار البوصيري وغيره من الشعراء الذين مدحوا الرسول في تطريب وتنغيم وأحيانا في جذب يشعرنا وكأننا في رحاب زوايا المغرب. رحبوا بنا فجلسنا نستلذ لسماع هذه الأشعار المطربة، ونرددُّ معهم ما نحفظه من بردة البوصيري. كانت لحظات منعشة للروح، ملبية للإحساس بروعة الإيمان، فلا أملك غير حمد الله وشكره على نعمة الإسلام. حلقات عديدة بأركان بيت المقدس لعلماء ومنشدين وطلاب وتلاميذ، كلهم مستغرقون في الذكر، بأصوات رخيمة تبعث الطمأنينة في النفس. وبشروق الشمس انفضت جموع الحلقات، فسعينا إلى الطواف بأركان المسجد، متأملين ما نقش على جدرانه من آيات قرآنية، ولاحظنا أشغال البناء والترميم قبالة المحراب وأمام منبر الإمام المهيأ لخطبة الجمعة، مما يبعث في النفس حسرة على هذا الوضع، وقيل لنا إن الأعمال تسير ببطء شديد للظروف الاقتصادية التي تعيشها بلاد الأردن، التي تتكفل بالصيانة والترميم، فملك الأردن هو المسؤول عن هذه الأماكن المقدسة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. غادرنا المسجد وقمنا بجولة استطلاعية في ساحته، وبعد ذلك زرنا مسجد قبة الصخرة، وهو آية في الجمال، على الرغم من صغر مساحته. صلينا ركعات، ثم انصرفنا للعودة إلى الفندق لتناول طعام الفطور، والاستراحة قليلا، ثم الاستعداد للذهاب إلى المسجد الأقصى لصلاة الجمعة، وقد أخبرنا صاحب الفندق بوجوب الذهاب باكرا تجنبا للاكتظاظ، فسكان مدن فلسطينية كثيرة ممن يرخص لهم بأداء الصلاة في هذا المسجد يفدون بكثرة تيمنا بصلاة الجمعة. وفعلا هيأنا أنفسنا سريعا، وقادتنا الخطوات إلى المسجد باكرا، مما سمح لنا بزيارة مسجد البراق؛ وهو مسجد صغير ومرتب بعناية، حيث قيل لنا إنه كان منطلق رحلة سيدنا محمد السماوية، وحائط البراق الذي يمثل الجزء الجنوبي من السور الغربي للمسجد الأقصى، وهو مرتبط بحادثة الإسراء والمعراج، والبراق اسم الدابة التي أسرى بها الرسول عليه السلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فربط الرسول دابته إلى هذا الحائط، ثم أدينا تحية المسجد، وعدنا أدراجنا إلى المسجد الأقصى استعدادا لصلاة الجمعة، لكن المشرف على المسجد منعنا من الدخول، منبها إلى أن مسجد قبة الصخرة مخصص لصلاة الجمعة بالنسبة إلى النساء فقط. تشعر أيضا، وأنت بهذا المسجد، بنسمات ربانية تملأ الجيوب الأنفية، فتستريح النفس وتطمئن إلى أن للبيت ربا يحميه، والواقع أننا في تنقلنا من الفندق إلى المسجد الأقصى، لم نشعر بخوف أو رهبة من الجنود المنتشرين في الشوارع المؤدية إلى المسجد، مما جعلنا نشعر بتلكم الطمأنينة وذلك الهدوء النفسي في ذلك اليوم. التقينا في مسجد قبة الصخرة بمواطنات فلسطينيات آية في اللطف والظرف، وأغلبهن قادمات من مدن الخليل وأريحا وبيت لحم ورام الله، بإذن خاص من السلطة الإسرائيلية، فرحبن بنا وتحدثن عن المغرب بكثير من التقدير وما يبذله ملك البلاد من الجهد للتخفيف عن الشعب الفلسطيني والدفاع عن أرضه وكرامته. هن واعيات وعلى درجة كبيرة من التعليم، منهن مدرسات أو عاملات في مصالح البلاد الاجتماعية وغيرها، وقد امتلأ المسجد بالوافدات الفلسطينيات وبساكنات مدينة القدس. وبعد التعارف استغرقت كل واحدة في تلاوة القرآن انتظارا لأداء صلاة الجمعة. وكان للبنات الصغيرات دور في توزيع التمور على المصليات، إذ كان أهل الفضل يرون ما لمثل هذا العمل من حسنات، فشكر الله سعيهن. وبهدوء وخشوع تستغرق المصليات في تلاوة آيات من الذكر الحكيم إلى أن يحين موعد أذان الظهر، والملاحظ أن جماعة المصلين في المسجد الأقصى أو في المسجد النبوي أو الحرم الشريف لا يصنعون صنيعنا في التلاوة الجماعية للقرآن، بل هي تلاوة فردية. وقبل موعد الصلاة أنصتنا إلى درس ديني لأحد علماء بيت المقدس حول البر بالوالدين وما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي تلحُّ على ذلك، داعيا إلى التمسك بالأخلاق الإسلامية في سموها وطهرها، لافتا الانتباه إلى التردي الذي تعرفه البلاد الإسلامية، وواقعها السياسي ومشاكل سكانها وغيرها مما يعرفه الجميع، آملا أن تنتفض الحكومات لتغيير الواقع الأليم بالعمل الجاد وليس بفقاقيع الكلام. درس ديني متميز بلغة صافية وفصاحة تبعث على الارتياح، ويؤكد ما للمقدسيين من شجاعة في النصح والتوجيه، في عصر نضبت فيه كلمة الحق على الأفواه تقية وخوفا. وبالإعلان عن أذان صلاة الظهر بصوت مطرب رخيم، عم المكان هدوء رهيب، يبعث في النفس سموا روحيا يرحل بالمرء إلى عالم مشرق في سماء التوحيد، فلا شيء يشغله غير ترديد ما يقوله المؤذن، والدعاء بعد ذلك لسيد الخلق كما تعلمنا، ثم الدعاء للوالدين ولما يشغل البال من الموضوعات التي يتمنى المرء تحقيقها بإذن الواحد الأحد. وعلى الرغم من المسافة التي تفصل بين المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة كان صوت الخطيب يملأ الأجواء، فحديث الجمعة يصبُّ في موضوع البر بالوالدين، والحرص على ذلك. ومما جاء في قول الخطيب موجها الخطاب إلى المسلم أينما كان: "إذا أردت أن تكون مستجاب الدعاء فكن برّا بأبويك، قال تعالى على لسان المسيح: "وبرا بوالدتي" أول كلمات نطقها المسيح في سورة مريم. لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم". ويضيف قائلا: "إني عبد الله، آتاني الكتاب، وجعلني نبيا...وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا". وكانت الخطبة الثانية دعوة صريحة إلى التمسك بطهارة النفس وطهارة الجسد، وغضّ البصر، ونبه إلى أن الإنسان خلق ضعيفا، لكن عليه أن يتزود بشحنة الإيمان كي ينجح في التغلب على ضعفه وشهواته. كان خطيبا متميزا وموفقا في طريقة التبليغ والإقناع. وبأداء ركعتي صلاة الجمعة دعا الإمام إلى صلاة العصر جمعا وقصرا تخفيفا على الفلسطينيين الوافدين من مدن أخرى والعائدين إلى مدنهم بعد الصلاة مباشرة، تكريما وتقديرا لهم على مشقة السفر، بما فيها الترخيص لهم من طرف السلطة الإسرائيلية لأداء صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى، مبارِكا خطواتهم، شاكِرا حرصهم على الصلاة بالمسجد الأقصى على الرغم من متاعب ذلك. وبعد تناول طعام الغداء بمطعم فلسطيني، قمنا رفقة الدليل بزيارة كنيسة القيامة داخل أسوار المدينة العتيقة، وهي تعتبر أقدس الكنائس المسيحية، وقيل إنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى قيامة يسوع من بين الأموات في اليوم الثالث من الأحداث التي أدت إلى موته على الصليب، حسب العقيدة المسيحية. كما زرنا حائط المبكى، ودخول مبناه يقتضي المرور بنقطة تفتيش إسرائيلية. ويقع هذا الحائط في آخر ساحة كبيرة يؤمها كثير من الإسرائيليين. ويعتبر اليهود هذا الحائط الأثر الوحيد المتبقّي من هيكل النبي سليمان، ويعتبرونه قبلة صلاتهم. وأمام الحائط، الذي ينقسم إلى قسمين، قسم خاص بالنساء وآخر بالرجال، اصطفت النساء كما الرجال أمامه يصلون واقفين ويبكون ويضعون ورقات مكتوبة بين شقوق الحائط، ولعلها اعترافات أو صكوك غفران. وهناك من تقوم بهذا العمل وتنصرف، وهناك من تقتعد كرسيا وتقرأ في كتابها المقدس. وبعد انصراف أي امرأة لاحظت أنها تقصد حوضا رصعت على جنباته الدائرية حنفيات عديدة للشرب تبركا بزيارة هذا الحائط. وكي لا تضيع فرصة صلاة العصر قصدنا الفندق لأدائها، إذ لن تقام بالمسجد الأقصى تبعا لما سبقت الإشارة إليه. بعد ذلك زرنا قبر رابعة العدوية والجامع العمري، وهو مسجد أثري يقع في حارة المغاربة داخل أسوار المدينة، وقد سمي بذلك نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، وقيل جددت معالمه في عهد الأمويين. كما قمنا بجولة استطلاعية للمدينة بالحافلة إلى موعد أذان صلاة المغرب، لأداء صلاتي المغرب والعشاء بالمسجد الأقصى، وكذلك كان. وقد قضينا ليلتنا بالفندق الهادئ، لنستقبل فجر الغد ونؤدي صلاة الصبح بالمسجد الأقصى، ونودع هذه المدينة المقدسة على الساعة التاسعة صباحا، إذ لم يسمح لنا بالبقاء كما هو مقرر وقتا أطول بها. وبطبيعة الحال، كانت المغادرة وفي النفس حزن دفين على ما آلت إليه أوضاع هذه المدينة المقدسة وسكانها وشعب فلسطين بصفة عامة. أخذنا الحافلة رفقة السيد موسى، مندوب الشركة المسؤول عنا في هذه الرحلة المكوكية، لنصل إلى مدينة أريحا، ومنها إلى الشريط الحدودي. كان الانتظار في صفوف متراصة للعودة إلى مدينة عمان عن طريق جسر الملك حسين في نظام، على الرغم من الوقت الطويل الذي قضيناه ساعتها مع جماعات كثيرة من الفلسطينيينوالأردنيين الذين سيلتحقون مثلنا بعمان. ودعنا المرافق السيد موسى وهو يتحسر على وضع بلاده وعلى قصر الزيارة، آملا العودة في ظروف أحسن وقد نالت القدس استقلالها وحقق الفلسطينيون أملهم العاثر في دولة حرة مستقلة بعيدا عن جرائم صهيون وأتباعه. مباشرة أقمنا بفندق "رمادا" على شاطئ البحر الميت بالأردن، وقضينا به ليلة واحدة لنستعد للرحيل إلى الديار المقدسة وأداء مناسك العمرة. وبما أن موعد الطائرة كان ليلا، فقد قمنا بزيارة قبور بعض الصحابة، ومنهم مقام النبي شعيب الذي عاش أكثر من 246 سنة وقيل 882 سنة يدعو قومه بمدين إلى عبادة الله، فآمنت طائفة وكفرت أخرى، كما يذكر الدليل، ثم قبر يوشع بن نون الذي عاش 137 سنة، وهو فتى موسى عليه السلام. ثم زرنا قبر الخضر الذي التقى به موسى كما هو وارد في القرآن. وعلى كل، كانت هذه الزيارة للأردن ملزمة كي نعبر الجسر الحسيني إلى القدس، ومنها إلى المدينةالمنورة التي وصلنا مطارها صبيحة يوم الاثنين 21 مارس 2015 لنقضي أياما طيبة بفندق "موفنبيك" الجميل ونحظى بزيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام وأداء الصلوات بمسجده الرحب بفرحة تغمر القلوب أن أتاح الله لنا هذه الزيارة المباركة. لا تزال المسلمات مع الأسف الشديد لا يشعرن بأخطائهن وهن في رحاب الروضة الشريفة، فالتدافع والازدحام في الأوقات المخصصة لزيارة الروضة الشريفة، وإن كانت من وراء ستار خشبي، الوسيلة للاقتراب من الستار، والأعداد الكبيرة للنساء من مختلف الأقطار الإسلامية تدعو إلى شكر الله أن أنعم علينا نحن المسلمات بنعمة الإيمان واللقاء في الأرض الطاهرة، لكن الجهل يحول بيننا وبين الواجب علينا من الانتظام والنظام لتستطيع كل امرأة أداء ركعتين أمام الروضة. ولعل الفوضى والازدحام والتدافع من أسباب منع السلطات السعودية المرأة من الدخول إلى الروضة الشريفة، فهمشت بالوقوف أمام الروضة من وراء حجاب. ويحل يوم الجمعة حيث تتسابق أفواج المعتمرين لأداء الصلاة في المسجد النبوي، وكان يوما عظيما لشدة الازدحام، فلم أتمكن من دخول المسجد، وأديت الصلاة بالساحة العامة كغيري، وكانت خطبة الجمعة محطة أخرى من محطات التذكير بمساوئ العجلة. فالقرآن الكريم يشير إلى ما للعجلة من مخاطر، وينبه إلى أن الله تعالى ذكر العجلة في أكثر من سبعة وثلاثين موضعا، منها "خلق الإنسان من عجل، وكان الإنسان عجولا، ولا تعجل بالقرآن قبل أن يقضى إليك وحيه، بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم.." إلى غيرها من الآيات، وفي الحديث النبوي "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل". ويتابع الخطيب قائلا: "فاتقوا الله معاشر المؤمنين، وعليكم بالتؤدة والتأني تفلحوا، وإياكم والعجلة، فالتسرع يؤدي إلى الهلكة، والمسلم بطبعه يستعجل كل شيء". أما الخطبة الثانية فقد وظفها الخطيب للحديث عن القيم الخلقية بصفة عامة، والدعوة إلى توحيد كلمة المسلمين وهدايتهم، وأن ينصر الله عباده ويخزي الوشاة الذين يوقعون بين المسلمين، فالوشاية تفضي إلى النزاع والصراع وتخلق المشاكل بين الشعوب والأجناس، ولأول مرة أسمع الخطيب يدعو لخادم الحرمين الشريفين بالحفظ والنصر". وبأداء صلاة الجمعة ختمنا إقامتنا بالمدينةالمنورة، وحزمنا حقائبنا للتوجه إلى مكةالمكرمة بواسطة حافلة مكيفة، فوقفنا عند أبيار عليّ لأداء ركعتي العمرة، وكان عدد الحافلات كبيرا، وكأن المشرفين على تنظيم هذه الرحلات يحرصون على مواعيد واحدة للانطلاق. حطت الحافلة بمكة ليلا على الساعة الواحدة صباحا، فأقمنا في فندق جديد اسمه فندق "أنجم"، وهو فندق فخم وراق، يضم مئات الغرف ومطاعم متنوعة وشاسعة الأطراف، حيث يتضح أن العناية بالحجيج والمعتمرين وتوفير السكن اللائق لهم أصبح باديا للعيان. وهنا لا بد من فتح قوس يتعلق بالمبررات التي تقدمها الشركات لارتفاع الأثمان، إذ كانت الشركة قد أكدت، نظرا للثمن الباهظ الذي أديناه، على وجود الفندق بالقرب من الحرم الشريف، وأن بالإمكان العبور إليه بخطوة واحدة، لكن الواقع أن هذا الأمر قد يحصل عندما تتم أشغال البناء والتوسعة بالحرم الشريف، لذا كان علينا قطع مسافة كبيرة للوصول إلى الحرم، لكن بالنظر إلى أشغال التوسعة التي هي في طور الإنجاز، بالإمكان أن نصدق القول، وهنا أقفل القوس. بعد ذلك مباشرة، قصدت وغيري ممن سكنوا بهذا الفندق، وكنا مجموعة قليلة، لأن بقية الوفد اختارت فنادق أخرى أقل كلفة، الحرم لأداء مناسك العمرة على الساعة الثانية والنصف صباحا، وأحمد الله أنها تمت في ظروف حسنة، على الرغم من الازدحام، سواء في الطواف أو في السعي بين الصفا والمروة. ويظهر، وقد سبق لي أن أديت العمرة قبل سنتين، أن منافذ الدخول والخروج إلى الحرم أصبحت متعبة وصعبة، فكل المعالم تغيرت، وأغلقت الكثير من الأبواب، وتعددت مسالك الولوج إلى باب السلام منطلق الطواف أمام الحجر الأسود، فقد يضيع المعتمر وهو يبحث عن هذا الباب لأسباب كثيرة. المهم أننا، والحمد لله، أدينا شعائر العمرة في ظروف حسنة، ثم أدينا صلاة الصبح مع الجماعة، وعدنا أدراجنا إلى الفندق للاستراحة قليلا من تعب الطريق. كانت الإقامة بالفندق جيدة، وكانت الحرارة مفرطة مع رياح الشركي التي تزعج، لكن ما يبدد كل ذلك هو نفحة الإيمان بالزيارة والاستمتاع بالنظر إلى الكعبة، لكن ما يثير الدهشة والعجب هو حرمان النساء من الجلوس أمام الكعبة بعد أداء الصلوات، غبنٌ كبير تعيشه المرأة وهي بهذا المقام. وكم كان يحلو لي أداء صلاتي المغرب والصبح بالسطح، ثم صلاة العشاء بالطابق الثاني، حيث الإطلالة على صحن المسجد والنظر إلى الكعبة وأصحاب النظافة يهيئون مكان الإمام للصلاة، فترى الجموع تتدافع بالقوة إلى جهات أخرى حتى يُهيَّأ مكان الإمام للصلاة. ولشدة الاكتظاظ بالحرم المكي تغلق الأبواب قبل ساعة من الأذان، وما على المصلي إن تأخر إلاّ أن يصلي في الساحة العامة التي تغلق كذلك بسياجات حديدية إن امتلأت بالمصلين. ما يزعج وفي حاجة إلى صرامة من طرف سلطة المشرف على الحرم هو منع الأطفال والرضع من ولوج الحرم، فالمرأة لا تصلي ولا تعبد ربها وهي منشغلة برضيعها وبتغيير ملابسه، كما أن الأطفال يزعجون المصليات باللعب والجري من ركن إلى آخر، وكأنهم في ساحات عمومية للعب، خاصة في المباني الجديدة للحرم التي لا تزال في طور التشييد، ناهيك عن بدع أخرى أكثرها الأحاديث الفارغة بدل قراءة القرآن والصلاة على النبي المختار. وحل يوم الجمعة فأسرعنا الخطى إلى الحرم حتى نضمن مكانا للصلاة. كانت القاعات على امتدادها تعج بالمصلين والمصليات، وكثيرا ما يقع الاختلاط بين الجنسين، مما يصعب معه التنبيه أو التحذير، فالازدحام شديد والناس يسعون إلى الصلاة أينما وجدوا مكانا. الاستغراق في التأمل والإنصات إلى خطيب الجمعة يبعثان في النفس دفئا، فأنصتُ إليه بجوارحي وذاكرتي، ولا أملك إلا أن أتحدث عن الخطبتين ووقعهما في النفس كما وعيتهما. كان موضوع الخطبة الأولى عن التقوى والأمن الاجتماعي ومسؤولية الفرد في المجتمع لبناء مجتمع متحاب متعاون، خاصة في ظل ما يعرفه العالم من تطرف وإرهاب. وأشارت الخطبة إلى دور رجال الإعلام والمفكرين والمثقفين في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وما يتعرض له من تُهّمٍ، فالمجتمع الإسلامي ليس عدائيا، فهو بعيد عن التطرف والإرهاب، والموجات السياسية اليوم تثير الرعب في النفوس، فيجب حربها والتصدي لها، "فالمسلم للمسلم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، كما جاء في الحديث النبوي الشريف. الدعوة ملحة إلى التسامح والتعاون ونبذ الحقد والضغينة، إلا أن الملاحظ أن الفقيه الخطيب لم يوفق في تفعيل الخطبتين عند الصلاة بقراءة ما يناسبهما في السورتين القرآنيتين اللتين قرأهما بعد الفاتحة، إذ قرأ سورة الفيل وسورة قريش، وفي نظري كان عليه أن يقرأ الآية "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" إلى غيرها من الآيات التي تفيد منطوق الخطبتين. وتبعا لموعد الطائرة التي ستقلنا للعودة إلى المغرب قضينا يومين آخرين بمكةالمكرمة، وكان طواف الوداع آخر عمل قمنا به، وكان حقا مؤثرا، فقد يسر الله ذلك في جو روحاني ملأ النفس طمأنينة وهدوءا، ويوم 3 أبريل كان إقلاع الطائرة، التي طافت بنا عرض سماوات، لنصل إلى بلادنا بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء، والحمد لله على نعمة الإسلام.