حصل الكاتب النيكاراغوي سيرخيو راميريث على جائزة سيرفانتيس الإسبانية في الآداب التي تعتبر بمثابة نوبل في العالم الناطق بهذه اللغة واسعة الانتشار، إلى جانب جائزتيْ بلانيتا وأميرة أستورياس. وتبلغ قيمة جائزة سيرفانتيس مادياً 125000 يورو، وسوف تجري مراسيم تسليم هذه الجائزة في العشرين من شهر أبريل القادم (2018) بجامعة مدينة ألكالا دي إناريس(قلعة النهر) التي تبعد عن مدريد بحوالي 30 كيلومترا، حيث سينتقل سيرخيو راميريث إلى إسبانيا لاستلام هذه الجائزة من يديّ العاهل الإسباني فليبّي دي بوربون، ويلقي كلمة بهذه المناسبة أمام الملك وعقيلته الملكة ليتيثيا والحاضرين من الأوساط الأدبية والأكاديمية والعلمية في إسبانيا. من السياسة إلى الأدب الكاتب الفائز بهذا التكريم يتميّز بميزة خاصّة هذا العام؛ إذ كان من قدماء السياسيّين، والمناضلين الثوريين السّندينييّن البارزين في بلاده، وكانت تربطه بالتالي علاقات صداقة وعمل مع زعماء كبار في أمريكا الوسطى من أمثال فيديل كاسترو، ورئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا وسواهما، وهذه أوّل مرة تُمنح فيها هذه الجائزة الكبرى لكاتب من نيكاراغوا، بل ومن بلدان أمريكا الوسطى على وجه العموم. قال رئيس الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية "داريو فييّانويبا" الذي ترأّس لجنة تحكيم هذه الجائزة الهامة: "لقد قرّرت اللجنة منح هذه الجائزة للكاتب سيرخيو راميريث لكونه جمع في أعماله الإبداعية بعض الخصائص اللغوية، وتتميّز هذه الأعمال بقوّة الملاحظة التي تعكس حرارة وحيوية الحياة اليومية محوّلاً الواقع المعاش إلى عملٍ فنيّ بلغة أدبية استثنائية راقية، مع تعدّد أغراض الكتابة عنده مثل القصّة، والرّواية، والشّعر، والصّحافة". ولد سيرخيو رامريث ميركادو بنيكارغوا عام 1942، وتقلّد منصب نائب رئيس أوّل حكومة سندينية على عهد رئيس نيكاراغوا دانييل أورتيغا؛ وذلك في الفترة المتراوحة ما بين 1985 و1990. وبعد سنة 1996، قرّر هجر السياسة ليتفرّغ للكتابة والتأليف. عاش سيرخيو راميريث متأجحاً بين السياسة والأدب؛ إذ على الرّغم من مسؤولياته السياسية الجسيمة المتواترة في الحزب السنديني ذي الاتجاه اليساري التقدّمي الشّهير، كان الإبداع الأدبي يجلبه، وتنازعه نفسه إليه بسحر مغناطيسي، وهذه الرّغبة في الكتابة ظهرت عنده منذ نعومة أظفاره، حيث نشر باكورة أعماله وهو لم يتجاوز التاسع عشرة من عمره. قال راميريث مداعباً إن هذه الجائزة ترغمه على أن يكتب بطريقة أكثر جودة من السّابق، وهكذا أصبح هذا الكاتب الذي لم يكن معروفاً بين مشاهير الكتّاب منذ اليوم يحتلّ مكانه المرموق إلى جانب أعلام الأدب الناطق باللغة الإسبانية ممّن حصلوا على هذا التكريم أمثال خورخي لويس بورخيس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وأليخو كاربنتيير، وماريو بارغاس يوسا، وبيو كاساريس، وخوان كارلوس أونيتّي، وآخرين. المعلّمان ساراماغو وفوينتيس سيرخيو راميريث عاش حياة متقلبة حافلة بالمفاجآت، كان معارضاً صنديداً لدكتاتورية رئيس نيكاراغوا الأسبق "أنستاسيو ساموثا" الذي حكم هذا البلد في أمريكا الوسطى بيد من حديد. وهكذا انخرط في سلك الثورة السندينية وتقلّد منصب نائب رئيس الجمهورية في هذا البد في الفترة المتراوحة ما بين 1985-1999. قال مازحاً بهذه المناسبة: عندما يشعر الإنسان بأنه أصبح حاملاً أو حاصلاً على هذا التكريم يشعر وكأنّه تحوّل إلى البطل الهزلي لسيرفانتيس "سانشو"، وهو دور لم يرق له كثيراً، فحياته أقرب وأنسب - كما يقول- لمغامرات "دون كيخوته" وليس محاربة طواحين الهواء، بل إنه يصرّح بصوت جهوري بأنه في كتاباته يدافع عن العدالة، والديمقراطية، والحريات، وحقوق الإنسان، واحترام البيئة، ويرجو أن تتغلّب بلدان أمريكا اللاتينية- التي ينتمي إليها-على آفة الفقر، والبطالة، والعوز، والخصاصة، وقال إنه مدين في عالم الكتابة للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو، والمكسيكي كارلوس فوينتيس. يصف هذا الكاتب في رواياته الحياة اليومية في العاصمة النيكاراغوية ماناغوا وما يعتري المدينة من تناقضات مريعة حيث نجد فيها مظاهر الثراء الفاحش ممثلة في البنايات الفخمة العائدة لأصحاب الملايين، وفي المقابل نجد الأزقة والدروب التي يستشري فيها البؤس، ويعشعش فيها العوز، وتعلوها الفوضى التي عمّت المراكز التجارية الضخمة والأحياء المحيطة "بالسوق الشرقي"؛ حيث نجد أشخاصاً غارقين في الفقر المدقع، وراميريث مولع بوصف اللغة التي يستعملها هؤلاء وما بها من أنماط الكلام السّوقي المبتذل، والتعابير الشعبية المتوارثة، والمغلفة بمسحة من الدعابة والمزاح والسخرية، التي تميّز بعض المواطنين الماناغويين الذين ما زال بعضهم يتغنّى بالتحوّلات النموذجية، وبمنجزات الثورة السندينية التي عفا عنها الزّمن، والتي عاش هو نفسه أوجها وانهيارها، ومع ذلك ما زال البعض يمجّد أبطالها، ويتبجّح بمُثلها العليا النظرية، التي تركت لهم فقط مجتمعاً معقداً من الخاسرين. من وحي روبين دارييّو يستحضر الكاتب سيرخيو راميريث قولة شاعر نيكاراغوا الكبير الذي يعتبر أبأ روحياً للموجة التجديدية في الشعر الإسباني المعاصر روبين داريّو وقولته عن بلاده التي عانت الكثير من الثورات، والتمرّدات، والفتن، والقلاقل، والمحن، على صغرها، حيث كان يقول: "إذا كان الوطن صغيراً فإننا في الأحلام نراه كبيراً". وبناءً على هذه الفكرة، بنى سيرخيو راميريث أسس وقواعد رواياته، فضلاً عن الطموح الذي كان يعتمل بداخله. قال سيرخيو راميريث إنه جاء إلى عالم الأدب بعد "البُوم الأمريكي اللاتيني"، أو الطفرة التي عرفها الإبداع الأدبي في الخمسين سنة الماضية. هؤلاء الكتّاب والروائيون الكبار علّموه كيف يغيّر نظرته إلى الأدب؛ ذلك أنهم أدخلوا في بوتقة الأدب الأمريكي اللاتيني عناصرَ وأساليبَ وأشكالاً تعبيرية جديدة مبتكرة، وكان حينئذ ما زال في ريعان الشباب وشرخه. كل تلك الأنماط الإبداعية الجديدة فتحت له الأبواب وهكذا استفاد من "حرية كورتاثار، والرياضي برغاس يوسا، ومن روعة وسمّ غارسيا ماركيز، ومن تاريخ كارلوس فوينتيس. لذا، فإن امتنانه وعرفانه لهؤلاء الكتّاب الكبار لا حدود لهما؛ إذ لا بدّ أنهم هم الذين أوصلوه إلى "سيرفانتيس" الذي ننحدر منه جميعنا، والذي كان روبين داريو يقول عنه: "إنه أبونا". "وداعاً أيها السلاح" وقال راميريث إنه هجر السياسة منذ 21 سنة، أي منذ عام 1996، ولم يعد له منذ ذلك الأوان أيّ انتماء لأيّ حزب سياسي. قال إنه في قرارة نفسه لم يكن يشعر بأنه رجل سياسة على الرّغم من مشاركته فيها بشكل فعلي منذ سنوات بعيدة خلت، حيث كان نائب رئيس جمهورية نيكاراغوا مع دانييل أورتيغا، ويبدو له في آخر المطاف أنه كان كاتباً مُعاراً للسياسة عاد أخيراً إلى مكانه الطبيعي، أيّ إلى ما يعجبه ويروقه، هو الكتابة والتأليف. ويعترف سيرخيو راميريث لنا في بعض أعماله بفشل الثورة السندينية التي كان أحد أعضائها البارزين، خاصة في روايته "وداعاً أيها الأولاد"، أو ما جاء على لسان الكاتب الأمريكي ارنست همنغواي "وداعاً أيها السلاح"! لذا، فإنه يقول ليس من الغرابة بمكان أن يصبح دارييّو رمزاً حيّاً للأدب في نيكارغوا وفى العالم الناطق باللغة الإسبانية، وليس غريباً كذلك أن نجده يواجهنا حتى في أوراق البنكوت، لحضوره القويّ في حياتنا وثقافتنا، وبالتالي فهو موجود لا محالة في أعمال سيرخيو راميريث أيضاً. وعليه، فإنّه يؤكّد لنا أن كلاً من سيرفانتيس وداريّيو سيكونان موضوع كلمته خلال مراسيم حفل تسلّمه لهذه الجائزة؛ فكلاهما مُجدّدان في اللغة والإبداع حتى وأن كان بينهما برزخ واسع يمتدّ على بعد ثلاثة قرون من الزّمان. يعتبر سيرخيو راميريث اليوم من كتاب أمريكا الوسطى الذي يحظى بتقدير الدارسين والنقاد نظراً لكونه يشرّح لنا في كتاباته حقيقة المجتمع الذي يعيش فيه لمعايشته عن كثب لمختلف مراحل تطوّر الحياة في بلده وفى سائر بلدان أمريكا اللاتينية، من أعماله القصصية "العالم الحيواني" و"كاتالينا وكاتالينا" و"الزهور الباهتة"، و"الأرملة كارلوتا". ومن رواياته: "زمن الإشعاع" و"مارغاريتا ما أجمل البحر" و"إنها ظلال ليس إلاّ" و"ألف ميتة وميتة" و"الهاربة" و"رقصة الأقنعة"، و"عقاب إلهي"، و"سارة"، و"البحر يبكي من أجلي"، و"الأسماء ليست بريئة دائماً"، و"وداعاً أيها الأولاد"، و"الصّفح والنسيان"، و"لا أحد يبكي من أجلي" (وهي آخر رواياته). ومن كتبه كذلك: "أعمال مهنية منسية"، و"الطبل المنسيّ"، و"تفاحة الذهب"، و"إلى المائدة مع روبين داريّيو". وقد فاز بهذا التكريم في العام المنصرم 2016 الكاتب والروائي الكتلاني-الإسباني إدواردو ميندوسا، (أنظر مقالي عنه في "القدس العربي" في حينه)، وفاز بالجائزة نفسها عام 2015 الكاتب المكسيكي "فرناندو ديلباسو"، كما فاز بها الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو 2014، والكاتبة المكسيكية إلينا بونياتوسكا، 2013. وجرت العادة أن تنمح هذه الجائزة الادبية المرموقة بالتناوب بين كتّاب ومبدعي شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وأمريكا اللاتينية. وقد أنشئت هذه الجائزة عام 1975 من طرف وزارة الثقافة الإسبانية، وهي لا تمنح عن عمل واحد بل عن مجموع الأعمال الإبداعية التي تميّز بها كاتب ما من العالم الناطق بلغة سيرفانتيس. وتجدر الإشارة في هذا القبيل إلى أن إسبانيا تحظى بنصيب الأسد في عدد المرّات التي فاز فيها كتّابها بهذه الجائزة (22 فائزاً)، يليها مباشرةً ومرتبةً المكسيك، (6) الأرجنتين (4)، ثم شيلي وكوبا (3)، كولومبيا (1)، أوروغواي (1) البيرو (1)، الباراغواي (1). وأوّل فائز بهذه الجائزة هو الشاعر الإسباني الاندلس خورخي غييّن (1976)، وهو حاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب كذلك، وآخر الحاصلين عليها الروائي النيكاراغوي سيرخيو راميريث 2017. ومن الأسماء المعروفة في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية الحاصلين على هذه الجائزة الكبرى كذلك: خوان غويتيسولو، وكذلك نيكانولر بارّا، وأنا ماريا ماتوتي، وخوسّيه إميليو باشيكو، وخوان مارسّيه وألفارو موتيس، وخورخي إدواردز، وخوسيه ييرّو، وكاميلوخوسيه ثيلا، وماريو فرغاس يوسا، ودولسي ماريا لويناس، وأوغوستو روّا باستوس، وكارلوس فوينتيس، وماريا ثامبرانو، وأنطونيو بويرو باييخو، وإيرنستو ساباتو، ورفائيل ألبرتي، وأوكتافيو باث، وخوان كارلوس أونيتّي، وخورخي لويس بورخيس، وخيراردو دييغو، ودامسو ألونسو، وأليخو كاربنيير، وسواهم. *عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا