الشّاعرة والكاتبة والمترجمة الأورغوائية "إيدا فيتالي" حصلت مؤخّراً على جائزة سيرفانطيس في الآداب في نسختها الأخيرة التي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب المكتوبة باللغة الإسبانية، وهي من أرقىَ الجوائز التي تنظم في العالم الناطق بلغة سيرفانتيس، وتبلغ القيمة المادية لهذه الجائزة 125.000 يورو، وهي تفوق بكثير جائزة "أميرة أستورياس" (التي تبلغ قيمتها المالية 50.000 يورو) وتقترب من جائزة "بلانيتا" الإسبانية للرّواية التي تبلغ قيمتها 601.000 يورو، وهي أعلىَ قيمة مادية تُخصّص لجائزة أدبية في العالم بعد جائزة نوبل العالمية في الآداب. والشاعرة إيدا فيتالي هي المرأة الخامسة التي تحظي بهذا التكريم في تاريخ هذه الجائزة المرموقة بعد الشاعرة الإسبانية المعروفة ماريا ثامبرانو 1988، والشاعرة الكوبية ودولسي ماريا لويناس 1992، والكاتبة الإسبانية كذلك أنا ماريا ماتوتي عام 2010، والشاعرة والروائية المكسيكية إلينا بونياتوسكا عام 2013. الشّفافية والعُمق وقد أشارت لجنة التحكيم التي منحتها هذه الجائزة أنّ شِعرَها يعتمد على لغة شعرية خاصة هي مزيج بين الثقافة الأصلية في بلدها والتراث الشعبي العالمي المتوارث، ويتميّز شعرها بطابع الخصوصية والشفافية والعمق الجوهري والفني. وتعتبر إيدا فيتالي من الشاعرات المرموقات في اللغة الإسبانية في الوقت الراهن، ولقد وهبت حياتها للشعر، كما أنها عملت صحافية، ومترجمة، وناقدة أدبية، وأستاذة جامعية، وهي تنتمي للجيل الأدبي العائد إلى عام 1945، وعندما تسلّمت الدكتاتورية العسكرية مقاليد الحكم عام 1974 في بلدها، هاجرت مثل العديد من المثقفين الآخرين إلى المكسيك، ثمّ بعد ذلك إلى فرنسا. ومن المنتظر أن تجري مراسيم تسليم هذه الجائزة للشاعرة إيدا فيتالي من يدي العاهل الإسباني فليبي السادس دي بوربون وزوجته الملكة ليتيسيا في جامعة مدينة ألكالا دي إناريس (قلعة النهر)، التي تبعد عن مدريد بحوالي 30 كيلومتراً، وذلك يوم 23 أبريل (نيسان) القادم، وهو التاريخ الذي يتصادف مع تاريخ رحيل شيخ الرّوائييّن الإسبان ميغيل دي سير فانطيس صاحب "دون كيخوته دي لا مانشا" التي ضربت شهرتها الأطناب. نور هذه الذاكرة منذ كتابها الأول الذي يحمل عنوان "نور هذه الذاكرة" (1949)، اتسمت لغة إيدا فيتالي بالنقاء، والشفافية، والوضوح، وبعد أن تعرّفت على الشاعر المكسيكي ذائع الصّيت أوكتافيو باث جعلها تعمل ضمن لجنة التحرير بمجلته الأدبية "العودة"، كما جعلها تشارك في مختلف الأنشطة والتظاهرات الثقافية والأدبية والشعرية التي كانت تقام في المكسيك وما أكثرها، ثم انخرطت في سلك التدريس في المعاهد العليا، والجامعات المكسيكية، وتألقت في قرض الشعر، والدراسات اللغوية، والنقد الأدبي. كما عملت الشاعرة إيدا فيتالي في مجال الترجمة الأدبية، حيث نقلت إلى لغة سيرفانتيس العديد من الإبداعات الروائية والقصصية من الإيطالية والفرنسية لكتاب كبار أمثال: رفيقة الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان بول سارتر سيمون دي بوفوار، وبينجامين بيريت، وغاستون باشيلار، وجاك لا فاي، وجان لاكوتور، والقاص الإيطالي الشهير لويجي بيرانديلّو وآخرين. "الكنوز الأدبية تحت أرضية" في الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الفارط (2018)، بلغت الشاعرة إيدا فيتالي الخامسة والتسعين من عمرها، وهي تعيش اليوم في مسقط رأسها بعاصمة الأورغواي مونتيفيديو، ويكاد يمرّ قرن من الزمان ولم ينل الدهرُ من ذاكرتها حبّة خردل، إذ ما زالت تتمتّع بذاكرة يُحسد عليها حسب شهادة أصدقائها ومعارفها، وما فتئت ذاكرتها تعود بها إلى طفولتها البعيدة عندما اكتشفت في أسفل منزل والدها قبوا ًمليئاً بالكتب، والروايات، ودواوين الأشعار التي أطلقت عليها "الكنوز الأدبية تحت أرضية"، حيث صارت تغوص وتبحر في هذه الكنوز وطفقت تدخل في عالم الإبداعات الأدبية والتاريخية بدءاً بإلياذة هوميروس التي كانت تعود لجدها. وأمرت الشاعرة بعد ذلك بأن يُنقل ذلك الصندوق الكبير الذي كان يغصّ بالكتب إلى سطح المنزل وصارت تلتهم الكتاب تلو الآخر، وكانت هناك موسيقى وصفتها في كتاباتها ب "الفظيعة" تقطع عليها حبل متعة القراءة، كانت تلك الموسيقى الصاخبة تنطلق من مذياع ترازيستور محمول يعود لخادمة المنزل، إلاّ أن تلك الموسيقى سرعان ما فتحت أمامها من جهة أخرى عالماً فسيحاً لا عهد لها به من قبل، فقد كانت موسيقى التانغو" الشهيرة التي تنتشر في بلدها والأرجنتين تدغدغ قريحتها، وتجنح بخيالها. وهكذا عاشت إيدا فيتالي بين الكبار حتى أصبحت واحدة منهم، وهي لم تكن تدري أن الزمن كان يعدّها لكي تصبح في منطقتها إحدى أكبر الشاعرات الشّهيرات في لغة سيرفانتيس في هذا العصر إلى جانب الشاعرة التشيلية غابرييلاّ ميسترال، وهي المرأة الوحيدة التي حصلت حتى اليوم عام 1945على جائزة نوبل في الآداب في أمريكا اللاتينية. الشّعرُ لا جنسَ له إنها تقول: "الشعر لا جنس له سواء نظمه رجل أو امرأة، المهم أن يجد من يقرأه ويفهمه ويتذوّقه ويعيه"، وقالت إن وسائل الاتصال الاجتماعي والحاسوب والتلفزيون كلها جنت على "الكتاب" جناية لا تغتفر، وقالت إنها وصلت إلى الشعر عن طريق الصدفة بعد أن قرأت واستمتعت بقصيدة رائعة للشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال ولفرط إعجابها بهذه القصيدة فقد حفظتها عن ظهر قلب، فمسّها هوس الشعر وسحره، وأبرزت أنها عندما قرأت شعر ميسترال لم تفهم شيئاً وراعها ذلك، ومن ثمّ تولّد لديها فضول الدخول والغوص أكثر في عمق الشعر وجماليته، والشعر عندها هو نوع من عزف الموسيقى بالكلمات. ومن الشعراء الذين أعجبت بهم كذلك، بالإضافة إلى أوكتافيو باث، النيكاراغوي روبين دارييّو، والإسبانيْين خوان رامون خيمينيث (نوبل في الآداب) والأخوين انطونيو ومانويل ماتشادو، وآخرون. وجرت العادة أن تمنح هذه الجائزة الأدبية المرموقة بالتناوب بين كتاب ومبدعي شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال) وأمريكا اللاتينية. وقد أنشئت هذه الجائزة عام 1975 من طرف وزارة الثقافة الإسبانية، وهي لا تمنح عن عمل واحد، بل عن مجموع الأعمال الإبداعية التي تميز بها كاتب مّا من العالم الناطق بلغة سيرفانتيس. تجدر الإشارة في هذا القبيل إلى أن إسبانيا تحظى بنصيب الأسد في عدد المرّات التي فاز كتابها بهذه الجائزة (22 فائزاً)، تليها مباشرةً ومرتبةً المكسيك (6)، والأرجنتين (4)، ثم تشيلي وكوبا (3)، وكولومبيا (9)، وأوروغواي (9) والبيرو (1)، والباراغواي (2). وأوّل فائز بهذه الجائزة هو الشاعر الإسباني الأندلسي خورخي غيّين (1976)، وهو حاصل على جائزة نوبل العالمية في الآداب كذلك، وآخر الحاصلين عليها الشاعرة الأوروغوائية إيدا فيتالي. ومن الأسماء المعروفة في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية الحاصلة على هذه الجائزة الكبرى كذلك: خوان غويتيسولو، ونيكانور بارا، وأنا ماريا ماتوتي، وخوسّيه إميليو باشيكو، وخوان مارسّيه، وألفارو موتيس، وخورخي إدواردز، وخوسّيه ييرّو، وكاميلو خوسّيه ثيلا، وماريو فرغاس يوسا، ودولسي ماريا لويناس، وأوغوستو رُوَا باستوس، وكارلوس فوينتيس، وماريا ثامبرانو، وأنطوني وبوير وباييخو، وإيرنيستو ساباتو، ورفائيل ألبرتي، وأوكتافيو باث، وخوان كارلوس أونيتّي، وخورخي لويس بورخيس، وخيراردُو دييغو، ودامسُو ألونسُو، وأليخو كاربنتيير، وسواهم. وظفر في العام الفارط بهذا التكريم النيكاراغوي سيرخيو راميريث (أنظر مقالي في "القدس العربي" عنه تحت عنوان: "حياته متأرجحة بين السياسة والأدب: سِيرْخيُو رَامِيرِيثْ يحصد جائزة سيرفانتيس في الآداب للعام الفارط 2017، عدد 9012 بتاريخ -20 نوفمبر (تشرين الثاني) – 2017. حياة حافلة بالعطاء وُلدت الشاعرة إيدا فيتالي بعاصمة الأوروغواي مونتيفيديو عام 1923 واشتغلت لسنوات طويلة أستاذة "النقد الأدبي" بجامعات بلدها الأوروغواي، وكذا في الجامعات المكسيكيةوالأمريكية، من أهمّ الجوائز الأخرى التي حصلت عليها: جائزة أوكتافيو باث للإبداع الشعري 2009، وجائزة الملكة صوفيا للشعر الإيبيرو أمريكي 2015، والجائزة الدولية فيديريكو غارسيا لوركا للشعر كذلك عام 2017، وجائزتي ألفونسو ريجيس، و"وادي الحجارة" المكسيكية للشّعر، وسواها من الجوائز الأخرى. من أعمالها كذلك، بالإضافة إلى "نور هذه الذاكرة"، "البحث عن المستحيل"، و"معجم التقارب"، و"أحلام الثبات"، و"كلٌّ في ليله"، وسواها من الأعمال الإبداعية والدراسية والنقدية الأخرى. وننقل إلى لغة الضّاد إحدى قصائد الشّاعرة إيدا فيتالي بعنوان: "أغسطس سانتا روسا" تقول فيها: مطر يوم واحد يمكن ألاّ ينقطع أبداً يمكن أن يتحوّل إلى قطرات إلى أوراق مكسوّة بحزن أصفر فلنذهب لتغيير كلّ شيء في السّماء والهواء في طوفان فيضان الضّوء حزين، صامت وأسود كطائر الشّحرور المبلّل يتخلّص من جلده، أتخلّص من جسم من ماء يدمّر نفسَه في البرج وفى عمود الصّواعق يتعلق بي، بي يتعلق يتشبّث بطولي مرّاتٍ ومرّات يبلّلني، يئنّ، وينساب على ملابسي وحذائي وكذلك على دمعتي الوحيدة المنحدرة على خد أمّي أمعن النظر في المساء من ساعة إلى أخرى أحدّق بحثاً عن وجهه بلغة البّوْح الرطيب، أنظر لأفقد رُعبَه، لكنه يدير لي ظهرَه عند سدول الليل أرى كلَّ شيء سيئاً مرًاً ومتجهمًا ما أسهل أن تتخلص من روحك، لتتحوّل إلى شكل من أشكال الحَجر، وأظلّ وحيدةً، أصرخ مثل الشّجرة، من كلِّ فرعٍ مؤقت من فروعها! وتقول في ومضة شعرية بعنوان: "قطرات": تُجرَحُ وتذوب لتوّها لم تعد مطراً شقيّاتٍ مُسرعاتٍ في الترفيه كقطط تنحدر من مملكةٍ شفّافة تتسابقُ في حريةٍ على الزّجاج والشّرفات أو على عتبات النّسيان تلاحقُ بعضها بعضاً، تضطهد بعضها بعضاً، ذاهباتٍ من عزلة إلى أعراس، تذوبُ وتهيم حبّاً وأخيراُ تلجُ في موتٍ جديد (**) *عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم-بوغوطا-كولومبيا (**) القصيدتان أعلاه للشّاعرة الأوروغوائيّة إيدا فيتالي من ترجمة صاحب المقال عن اللغة الإسبانية