بعد أن كتبت مقالا حول رعب الاسلامويين من قيام الدولة المدنية ، كانت العديد من التعليقات ، أثارني فيها سؤال مشروع يستحق الإجابة عليه،هو سؤال:" وماذا يرعب العلمانيين من قيام الدولة الإسلامية ؟" فقررت أن أساهم في تتميم النقاش، بعكس السؤال، من ماذا يرعب الاسلامويين من قيام الدولة المدنية؟ إلى ماذا يرعب العلمانيين من قيام دولة اسلاموية؟ والله أسأل أن يوفقني للإجابة عنه، لما فيه من منزلقات سياسية، واجتماعية بالخصوص. لماذا قلت دولة اسلاموية ولم أقل دولة إسلامية؟ كل الساسة والمتعاطين لها،احترافا وهواية ،يعلمون أن قيام الدولة يحتاج إلى إيديولوجيات،وخطوط سياسية خضراء وحمراء،ويخضع لسلوكيات المحاجة والمقارعة،وتفنيد الرأي بالرأي،وهذا ما يسميه الفرقاء السياسيين باللعبة،التي تقوم على مجموعة من القوانين التي تنظمها داخل المحيط الذي تمارس فيه اللعبة، فالدولة تقوم على نظام سياسي قائم وأنظمة إيديولوجية مضمرة،يحاول المساهمون في اللعبة السياسية مجاراتها تارة،والتحامل عليها تارة أخرى، وهكذا يمكن للاسلامويين أن يكونوا من بين مكونات الممارسين للعبة في كل محطاتها وبنهج كل سلوكياتها. ففرسان السياسة يربطونها بمنطق الربح والخسارة، ومنطق السجال اليومي.أما الدولة الإسلامية، فما أضن أن تاريخ الأمم سجل قيام دولة إسلامية صرفة دستورها القرآن فقط ، وتشريعها القرآن والسنة لوحدهما ، فكلام الأئمة والفقهاء والمجتهدين كان من بين دساتير هذه الأنظمة الاسلاموية ، وعندما ندخل التأويل وكلام الفقهاء و(العلماء )كإباحة الزواج من بنت التاسعة ، وممارسة الجنس على جسد الميتة،وغير ذلك من الفتاوى التي تصبح تشريعات،من هنا لا يصبح هناك دستور واحد موحد ، وهذا ما يفسر انقسام الدول التي تعتنق الإسلام ، وتناطحها في مجمل المراحل التاريخية ، فما الفرق يا ترى بين منهج علي بن أبي طالب ،ونهج معاوية وهما من الصحابة ، وما الفرق بين دولة بني العباس لتثور على الأمويين ،من الناحية الدينية طبعا ، وكيف هرب إدريس العلوي من العباسيين إلى المغرب الأقصى ؟ لأن كل تسييس للدين لا يفضي إلا إلى التطاحن ، والتفرقة ، ومن هنا نعتبر الدين أكبر من أن يسوس دولة ، أو جهة أو إقليما أو فئة بشرية ، لأنه دين كوني ، يعتنقه كل من يؤمن به ولو كان في دولة الاسكيمو ، أو في أدغال استراليا،أو تحت نير النظام الصهيوني العنصري ،وله الحق في دفاع كل المنظمات الإنسانية عن حقوقه في الممارسة الدينية بكل حرية ، شريطة أن يكون الاحترام متبادلا مع المواطنين الدين لا يعتنقون نفس العقيدة . واحترام القوانين التي تسوس تلك الدولة عوض فرض سلوكيات مستفزة تجاه مواطنيها. الديمقراطية ليست بالضرورة حكم الأغلبية . لا يمكن للشعب أن يحكم الدولة طبعا،فمن يحكمها هم النخب التي يصادق على برامجها المقترحة والتي يراها تخدم مصالحه،ويضع الخطوط التي يجب إتباعها لتطبيق هذه البرامج المقترحة من النخب والتي يجب عليها أن تصدقه القول فيما تقترحه عليه،وهنا لا يجب على هذه النخب ركوب معتقداته أو عرقه أو ميولاته السلطوية للعائلة أو القبيلة أو الحاكم،فالديمقراطية هي الحكم بالمنطق ألمصلحي للشعب والوطن وتغليب مصلحتهما على كل المصالح،وإقرار القوانين التي تتحكم في السير العام للمصلحة العليا، وسيادة المنطق التطوري والتحديثي على منطق المصلحة الشخصية التي تدور في فلك الركود الانتهازي. الديمقراطية هي الحكم بالكيف وليس بالكم،يقول المثل المغربي:" كمشة نحل حسن من شواري دبان" وهنا أدحض منطق الداعين لحكم الأغلبية المجيشة عواطفها بالقول الديني،أو الممتلئة بطونها من المال الفاسد،أو الموعودة بالمصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة لكل الشعب،فهذا الفساد والإفساد قد يفرز لنا حكاما اسلامويين بمنطق الأغلبية العددية،فيصبح نقمة على الوطن والشعب قاطبة بما فيه من صوتوا على هذا الحاكم،وهذا ما سينتج عنه ما يرعب العلمانيين والشعب ككل. ماذا يرعب الحداثيين من دولة الاسلامويين؟ 1- من الناحية السياسية قيام نموذج الفكر الوحيد والأوحد ، وإخضاع كل الممارسات السياسية إلى التقليص بل الحد من الحريات،في التعبير والممارسة والاعتقاد، والحكم بمنطق الاجتهاد الفقهي وليس الاجتهاد العلمي الحق (كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) فحتى قياس الاجتهاد قد ينهار أمام هذا الحديث. انخراط الشعب المغلوب على أمره في دوامة النفاق السياسي لحفظ روحه وماله وأسرته من ديكتاتورية الفكر الوحيد،ما يسمح له بإضعاف عزائمه وبيع ذمته للجهة الغالبة، والزج به في التعاطي للعمالة السياسية سواء داخل أو خارج الوطن مما يضعف البلاد. خلق ظروف الغلو السياسي تجاه الدول التي لا تشاطرنا الدين،ونبذ كل ما يمكنه أن يفيد شعوبنا كما كان الوضع عليه مع قيام نظام طالبان . وغير ذلك كثير . 2- من الناحية الاقتصادية الاقتصاد يقوم على مجموعة من المعطيات الموضوعية والذاتية لكل بلد،ويخضع لمجموعة من التعقيدات، الميكرو والميكرو اقتصادية، المحلية والإقليمية والعالمية،والبلد الواحد لا يمكنه فك رموز هذه التعقيدات لوحده دون الانخراط في محيطه الجيواقتصادي، فقيام الدولة اقتصاديا على الفقه التجاري الذي تفنن فيه الإسلام،بحكم تعاطي المجتمعات العربية في ذلك العصر للتجارة كعماد للاقتصاد القبلي،وبجكم أن نبي الأمة كان تاجرا يتقن لغة الصاع والمكيال والموازين،ولغة المقايضة ونوع السلع الزراعية والمصنوعة والأثواب وكل السلع المتعلقة بالتجارة ومهاراتها،وهي ما يركز عليه المجتمع الإسلامي لحد الآن وهو سبب تخلفه عن الركب الصناعي وتقليله من أهميته فهو يبيع البترول ويشتري به كل ما يلزمه،حتى العقول واليد العاملة،وتعامله بمنطق السخرة عوض منطق العمالة،وتأجيره للخادمة والعبد بعد عتقه،وانكبابه على تقنين العلاقة بين الأجير ورب العمل من وجهة الأجر فقط وليس من وجهة الحقوق الكاملة،فرب العمل ليس ملزما لدفع حقوق خارج نظام السخرة فهو غير مطالب بصناديق الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية وغيرها لأنه يشتغل بنظام التعاقد والعقدة لا تلزمه في أغلب تعاقداته بما هو حق خارج العمل.الاسلامويون يحرمون الربا ، ويقننون الأجرة للأجير عوض الحق العملي كاملا، ويخضعون المعاملات لمنطق الربح فقط ، ولا يركبون المغامرة لأن بها هوامش كبيرة للخسارة ، بل منهم من يقتصر على السلع التي تمكن من العيش الزهيد فقط ، ولا علاقة لهم بالرخاء الفكري والاقتصادي ، فنحن لسنا بحاجة إلى التلفاز ولا إلى أدوات الحلاقة ، أو التزيين مثلا . ولسنا في حاجة إلى لباس أنيق فالدنيا فانية بالنسبة لهؤلاء المغالين ، والعيش فيها عبادة وجهاد وتربية على الآخرة . 3- من الناحية الاجتماعية المجتمع دائما منشطر إلى أهواء كثيرة،ومتعارضة،ومختلفة اختلاف المكونات التي تؤثث فضاء المجتمع فكريا وثقافيا،ولا يمكن الجزم بانحصاره في أهواء دون أخرى وفي أذواق وميولات دون غيرها،فالمجتمع مجتمعات مصغرة،تنشط بتفاوت وتعمل بوتيرة تتغير من فئة إلى أخرى ومن طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى،علما أن الطبقة تتأسس على مرتكزات فكرية ومعرفية محددة المعالم،لكن الأهمية يوليها الجميع للجميع أذا كان المجتمع سليما،ويقصيها إذا كان مريضا عليلا،ومن هنا نحدد موقع الدولة الاسلاموية التي يمكنها أن تسوس هذا الاختلاف وهذه الفسيفساء البشرية.الفرد له حقوق وعليه واجبات،وحقوقه تخصه لذاته أما واجباته فتجاه الجماعة، في حدود القوانين التي تلزم الفرد تجاه الجماعة والجماعة تجاه الفرد،حسب التزاماته الدينية أو القانونية العامة والخاصة،فله الحق في ممارسة شعائره وأهوائه ونشاطاته الاجتماعية بما تخوله له التشريعات القانونية،المتفق عليها في تشريعات الدولة، فهل يسمح التنظيم الاسلاموي بعدم إقامة الحدود الدينية في حق كل مخالف للشعائر الإسلامية؟،والتي تطالب بإقامة الحدود على كل مخالف للممنوعات الاسلاموية التي اجتهد فيها الفقهاء والأئمة وأحلوا ما أحلوه منها وحرموا ما حرموه حسب أهوائهم الاجتهادية،وباعتبارهم سلفا صالحا ينطق بالحقيقة المطلقة،وعلينا السير وراءه دون نقاش،فالمجتمع ليس في حاجة لأيادي مقطوعة،وأجساد مشوهة وأفكار مقبرة،وأعناق مضروبة،ونساء منبوذات،ورجال منافقين مكبوتين في حياتهم وأفكارهم،فهذا المجتمع المشوه نحن في غنى عنه. لقد قرأت العديد من التعليقات الجاهلة والبلهاء والتي تتكرر ألقاب أصحابها،وكانت تتحدث عن الأنظمة العلمانية،وتعتبر نظام بنعلي كان علمانيا،ونظام مبارك ونظام عبد الله صالح ونظام القدافي بل نظام ستالين وكاسترو في بعض الأحيان،دون التفريق بين الدولة العلمانية التي ما هي إلا دولة سيادة القانون،والدولة الاستبدادية التي تستخدم الدين والعلمانية والشيوعية والليبرالية في خلطة واحدة.من أجل تغليف الأمور السياسية وخلطها على الشعب وتفريقه باسم الدين والعلمانية والشيوعية للسيطرة عليه وسحقه،والمطبلون لهذا يعلمون أن بنعلي كان يميل إلى الاسلاموية ومبارك وعبد الله صالح من حيث خطاباتهم الشعبوية وإقامتهم للصلاة وذهابهم للحج وغيرها من ممارسات دكتاتورات العرب،كما كان عليه شأن صدام وكما هي عليه كل الأنظمة الخليجية التي أظهرت حقدها وتعاليها على الشعوب المأزومة،وتحية للحكومة المغربية على رفضها الانضمام لصف الاهانة والخذلان،فهذا موقف يشرف المغاربة والمغرب ملكا وشعبا وهنيئا لتيارات السويدان بسويدانهم، وأرجو من الله المغفرة،والسداد،وعيدكم مبارك سعيد.