لا أعرف إن كان للقراء الشعور نفسه الذي ينتابني كلما حاولت الاقتراب من أفلاطون. أتردد كثيرا قبل أن أتخذ قرار قراءة أي مؤلف من مؤلفات الفيلسوف، لأني، من جهة، أكون كثير الإعجاب بقدرة الفيلسوف على الحَبْك والنظْم، وهو ينتقل من موضوع إلى آخر، ومن محاور إلى آخر، دون أن يُخلّ بنسق أفكاره ولا بمتنه الفلسفي؛ لكنني، من جهة أخرى، أُصاب بالكثير من الملل وأنا أُتابع كثرة تصنيفاته وتقسيماته لكل معضلة يثيرها على لسان محاوريه. أغلب القضايا التي يثيرها حكيمنا، سواء كانت معرفية أو سياسية أو أخلاقية، يثيرها كمفاهيم ملتبسة، لا سبيل إلى تحديدها تحديدها تحديدا دقيقا إلا بإرجاعها إلى ما به تصير جوهرا. وبمجرد ما يقف على هذا الجوهر، يشرع في تفصيل القول في أجناسه، وبعدها أنواعه، ثم خواصه وأعراضه؛ فيتبين في الأخير أن ما كان يُعتبر لدى محاور من محاوريه جوهرا هو في الحقيقة مجرد فصل أو عَرَض. لست الوحيد الذي يضجر من قراءة أفلاطون، بل حتى في زمانه كان هناك من لا يطيقه، ففي واقعة طريفة، يُروى أن الفيلسوف المتمرد Diogène le Synique (ولا زلتُ إلى الآن لا أعرف لم يسميه المسلمون بخلاف باقي الشعوب بديوجين الكلبي!؟) لم يستسغ كلام أفلاطون وهو يبحث معضلة الإنسان بطريقته المعتادة، إذْ شرع يقسم الموجودات إلى أنواع وأصناف، منها ما هو حي وما ليس بحي. والحي منه ما يتحرك وما لا يتحرك. والمتحرك منه ما يسير على أربعة قوائم quadrupèdes ومنه ما يسير على رجلين فقط bipèdes. وما يسير على رجلين منه ما له ريش ومنه ما ليس له ريش. والمراد من كل هذا التقسيم أن يخلص الفيلسوف إلى أن الإنسان ينتمي إلى النوع الأخير. وحينما بلغ هذا الكلام مسامع ديوجين، أخذ معه إلى مدرسته ديكا منزوع الريش، وألقى به بين الحاضرين، وقال لهم ساخرا: "هو ذا الإنسان حسب أفلاطون". ينطبق بشكل كبير ما قاله ديوجين في حق أفلاطون على الكثير من المثقفين المغاربة. لقد أتيحت لي الفرصة بأن أدرس بجامعة محمد الخامس بالرباط، وهي الجامعة التي كان لها الفضل في أن أكتشف ردهات دور القضاء لأول مرة في حياتي، عندما ترافعنا ضدها بعد أن حاولت إدارتها أن تمدّ يدها إلى جيوبنا خارج القانون المنظم للتعليم العالي ببلادنا السعيدة، ولا زالت متعنتة في تنفيذ الحكم الصادر ضدها وكأن القضاء موجود فقط على إجبار المواطنين البسطاء على الامتثال لقوانين الدولة أو للزّج بالصحفيين وراء القضبان حين يغردون خارج الخطوط الحمراء. أتيحت لي الفرصة بأن أدرس بهذه الجامعة وأتعرف عن كثب على الكثير من مثقفينا. وبصراحة أقول إنني تعلمت منهم الشيء الكثير، فبفضلهم صرتُ أعرف كل شيء عن "لم تقدم الغرب وتأخر الشرق؟"، والكثير أيضا عن "ماهية العقل العربي"، و"نقد العقل العربي"، و"نقد نقد العقل العربي". ولأن مثقفينا واسع الاطلاع، فإليهم يرجع الفضل في أن أعرف أكثر من أي مواطن فرنسي الظروف التي أحاطت بالثورة الفرنسية. وكنت أيضا شديد التأثر بمحضراتهم حول "الوعي الترنسندتالي" و"الأنا المتعالية"، بل أحيانا كان ينتابني الكثير من الشك الأنطولوجي حينما أقرأ لهم عن معضلة "الوعي بالذات" و"جدلية الأنا والآخر". لم يكن يسيرا علي أبدا أن أقبض على ما كان يرمي إليه مفكرونا وهم يفكون ألغاز هذه المعضلات، خاصة حينما يمسكون ب"مطرقة نيتشه" ويشرعون في صك معاني ودلالات هذه المفاهيم بالصورة التي نطق بها أصحابها لا كما نقلها إلينا المؤرخون والمترجمون. وكنت لا أتنفس الصعداء إلا متى تركوا الميتافيزيقا وانتقلوا إلى مجال السياسة، وعيا مني بأن السياسة ممارسة praxis أكثر مما هي نظر وتأمل، وكنت أرتاح كثيرا حينما أتابع معهم معضلات "المشروعية الديمقراطية" أو "العدالة الاجتماعية"، لكن بمجرد ما تبدأ أسئلتهم تتفرع وتتشعب، وتبدأ فحوصهم تغوص وتغوص حتى ينتابني القلق من جديد، وتبدأ الحدود تضيق عندي بين البراكسيس والميتافيزيقا، خاصة حينما يحول "حجاب الجهل" بيني وبين "البيوبوليتيك". لا أخفيكم سرا أصدقائي أنني حينما قررت أن أقرأ للمثقفين المغاربة وأن أستنير منهم، لم يكن طموحي أكثر من أن أعرف طبيعة النظام السياسي ببلادنا؛ كيف تتمازج فيه سلطة القانون بسلطة الأعيان؟ وكيف يتزاوج فيه التقليد مع المعاصرة للحفاظ على صورة النظام البطريركي في مخيال كل واحد منا كأب وشرطي وحاكم؟ وفي أسوأ الحالات، أن أعرف فقط حجم الضرائب المنزوعة من جيوبنا، كيف تُدبر؟ وكيف تُصرف؟ وأين تذهب عائدات مناجم الفوسفاط والذهب والفضة؟ وكيف تُستغل ثروات البحر والمحيط؟ يقينا مني أن هذا النوع من المعرفة لا يتطلب إلا الحفر في السجلات واستنطاق الأرقام. لم أعثر في أي عمل من أعمال المثقفين المغاربة على أي جواب للأسئلة التي كانت تراودني، لكن بالمقابل لم أندم على الجهد الذي بذلته في قراءة كتب مثقفينا، ولم أخرج من هذه المحاولة خاوي الوفاض، بل شعرت في الأخير أنني المعني عن حق بمضمون الحكمة المروية عن سلفنا بخصوص الأب الذي أخبر أبناءه، وهو على فراش الموت، بوجود كنز مُخبأٍ تحت الأرض. ولما قام هؤلاء الأبناء بحرث الأرض طولا وعرضا من أجل استخراج الكنز المدفون، ولم يعثروا على شيء، قرروا أن يزرعوا ما حرثوه ربحا للجهد الذي بذلوه، فكان الحصاد هو الكنز المقصود بإيماءة الأب. أنا أيضا عثرت على كنزي عندما تعرفت على مثقفينا، وصرت أعرف عن حق ما معنى "هيبة الدولة" و"قيمة الاستقرار" ودلالة "الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها". صحيح أن بعض المشاهد قد تؤلمنا وقد تحيي فينا جروح الماضي، من قبيل أن ترى مواطنا يُعصر مع سلعته المصادرة بين فكي حاوية للأزبال، أو أن ترى المئات من شباب الريف يُزَجّ بهم في سجون المملكة لأنهم تجرؤوا وطلبوا بمستشفى وجامعة، أو ترى خمسة عشر روح امرأة، أغلبهن مطلقات أو أرامل، تُزهق مقابل كيلوغرامات من الدقيق؛ فهي من عوارض الأمور وليس من جواهرها، ولا تُنقص شيئا من صورة المغرب كبلد النماء والرخاء. لقد أخطأ ديوجين في حق المعلم الأول حينما سخر منه، ولم يفه ما يستحق من احترام وتقدير، لأن الفكر الحق لا يرتبط دائما بما يحيط بك من وقائع وأحداث، بل أن تتعالى عن كل ما يمكن أن يشوش على صفاء الذهن، وأن تنظر إلى الحقائق كما هي لا كما تتبدى لك. وإنصافا للمثقفين المغاربة أقول: #عاش_المثقف_المغربي_ولا_عاش_من_خانه