من وجهة نظر علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي لا يمكن لأزمة حراك الريف من حيث الأسباب والعوامل المحركة لها في الاجتماع والاقتصاد والسياسية والتاريخ والثقافة أن تكون أزمة عابرة وعرضية، خاصة باستحضار سياقاتها الراهنة الداخلية والخارجية وخلفياتها السياسية والهوياتية وعقدها التاريخية؛ حراك عمق أزمة مزمنة كانت موجودة بين الريف والمركز وفتحها على تداعيات وتطورات نجزم باليقين المطلق أن المقاربة الأمنية والقضائية لم ولن تفلح في حلها، وإن كانت ستنجح مؤقتا في احتوائها. فعندما أسست الدولة المغربية انتقالها السياسي والمجتمعي ضمن شروط واشتراطات الفلسفة السياسية للعهد الجديد على مجموعة من المؤسسات والمفاهيم، من قبيل المفهوم الجديد للسلطة، الإنصاف والمصالحة...وتم إحداث مؤسسات حقوقية وإنجاز كثير من المصالحات والتأسيس لها بمجموعة من الهيئات الدستورية لطي صفحة الماضي، في ما أصبح يعرف في المخيال السياسي والحقوقي المغربي بسنوات الجمر والرصاص، مفاهيم ومؤسسات اعتبرت في حينها أنها أحد مقومات التي أسست لتعاقدات مرحلة حكم محمد السادس وفلسفته السياسية والدينية في إطار مرجعية الملكية وإمارة المؤمنين، وجددت في حمولتها السياسية وتمثلاتها الاجتماعية في الشارع السياسي المغربي شرعية الحكم في المغرب، في عهد الملك الجديد. وقد كان ملف الريف يمثل بالنسبة لكل هذه التحولات أحد التجليات والاختبارات والامتحانات الحقيقية التي أظهرت قدرة نظام الحكم في المغرب على بلورة نموذج ناجح من المصالحات والتعاقدات السياسية والمجتمعية، بأفق إصلاحي يؤسس لدولة الحق والقانون. وقد عول (بكسر الواو) كثيرا على نخب ريفية بعينها لإنجاح هذا الاستحقاق، وظهر ذلك بشكل واضح في تركيبة حزب الأصالة المعاصرة الذي تشكلت أبرز قياداته من منطقة الريف، بخلفية المساهمة في إنجاز مشروع المصالحة مع الريف وإدماجه في النسيج المجتمعي والثقافي والاقتصادي الوطني. من منطلق هذا الاستهلال تجدني أقرأ مطبات وتعقيدات أزمة حراك الريف في علاقته بأفق البناء الديمقراطي بالبلاد وراهنية التحولات العميقة لمغرب اليوم سياسيا واجتماعيا وثقافيا، والتي تضعه أمام استحقاقات مصيرية في علاقته بمحيطه الإقليمي والدولي، وما يتسم به هذا المحيط من تغيرات تكاد تكون جذرية في بعض مستوياته. فلا يمكن أن نتصور على سبيل الافتراض أن منطق الدولة ومؤسساتها العقلانية وعقلائها من رجال الدولة تتهور وتشطب بجرة قلم على كل مكتسباتها الإصلاحية والحقوقية في سبيل محاكمة نشطاء حراك من إفراز عوامل وأسباب لا يمكن اختزالها وشخصنتها كما نردد دائما في فرد أو أفراد معينين؛ لأن مكامن الأزمة أكبر وأعمق بكثير، وأقرت بها حتى الخطب الملكية، مهما توسلت وشرعنت تلك المحاكمات بقوانين ومساطر قد تبدو عادلة ومشروعة في ظاهرها .. لأن نتائجها حتما ستكون عكسية ولن تحل لنا الأزمة، بل ستزيدها تعقيدا؛ فيما لازال يعقد أمل كبير على مطلب العفو العام من طرف المؤسسة الملكية، عفو سيرسخ ويثبت فلسفة العهد الجديد في الحكم ويقطع الطريق على كثير من المشاريع الهدامة. ونحن نعني هنا موجات الحقد والكراهية التي يتم إذكاؤها في ملايين الجالية الريفية بالخارج؛ وهو الحقد الذي سيستثمر سياسيا وإيديولوجيا لإنتاج تنظيمات إثنية وأصولية معادية للمغرب، وستبتلع إن تركت لحالها حتى الأصوات الديمقراطية والحقوقية المعتدلة. إن كلامنا ليس للتهويل وتركيب خطابات إنشائية، ولكن تحليلنا لطبيعة المرحلة يستحضر السياق الدولي وانفلات كثير من الكيانات والتنظيمات من الضبط السياسي والأمني وتحولها إلى أدوات فتاكة ضد الأمن القومي للدول، خاصة مع حالة الانتقال التي يعرفها النظام الإقليمي والدولي ضمن توازنات جيوساسية جديدة ليست في صالح المغرب ومصالحه الإستراتيجية. إن أي فشل في مقاربة استيعابية لأزمة حراك الريف داخل أسس مشروعية نظام حكم العهد الجديد ستعني تقويضا خطيرا لكل ما تم بناؤه، ولن يبقى لمفاهيم الإنصاف والمصالحة والمفهوم الجديد للسلطة والمشروع الحداثي الديمقراطي المجتمعي ولمؤسسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان وهيئة الإنصاف والمصالحة والنخب السياسية الريفية التي تتواجد في هرم مؤسسات الدولة، وما تم إنجازه في عهد محمد السادس من مصالحة مع الريف... أي معنى، وستغدو مقولة الزفزافي: "نحن منتصرون سواء اعتقلونا أو أعدمونا أو سجنونا" هي المؤثثة للمشهد الريفي وللوعي واللاوعي الجمعي بالريف لعقود من الزمن داخل الوطن وخارجه، وستتقاطع مع عدمية جمهوريي أوروبا، وستخلق جبهة من العداء والتطرف ضد الدولة والنظام، الله يعلم وحده يعلم ما هي مآلاتها ومخارجها. في الجبهة المقابلة لأزمة حراك الريف، والذي يهم نخب الريف السياسية والفكرية، يمكن القول إن الظرفية تستدعي تعبئة شاملة لبناء تصور واضح ورؤية إستراتيجية للتعامل مع الوضع بغرض فرض موازين قوى سياسية ومجتمعية معينة تؤهل الطبقة السياسية والمثقفة في الريف للعب دورها كأنتلجنسيا مؤثرة وموجهة للمجتمع، وتتحمل مسؤوليتها في بناء وعي سياسي مسؤول في تكامل مع كل نخب الوطن، بهدف بلورة مشروع مجمعي حقيقي بنفس إصلاحي ينتج تعاقد سياسي جديد بين ملكية العهد الجديد والقوى الديمقراطية الوطنية. التعاقد الذي يبقى وحده الإطار لتجاوز الأزمات، لأنه يجد في الفلسفة السياسية للعهد الجديد المنطلق والأرضية لإنجاحه، وإلا فإن البديل هو النكوص إلى الوراء وتبعاته الكارثية على الوطن. * رئيس مركز الريف للدراسات والأبحاث