تُشيرُ العديد من المصادر التاريخية، إلى أن السلطان المولى إسماعيل (1645-1727) الذي حكم المغرب من1672إلى1727م، حين كوَّن جيشا من العبيد، أحضر كتاب "صحيح البخاري" وخاطبَ العبيدَ قائلا: "أنا وأنتم عبيدٌ لسُنَّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وشرْعِه المجموع في هذا الكتاب، فكلُّ ما أمر به نفعله، وكل ما نهى عنه نتركه، وعليه نُقاتِل" فعاهدوه على السمع والطاعة، وأدَّوا القسم على صحيح البخاري، ولهذا أطلق عليهم جيش عبيد بخاري. قد يبدو الخطاب السلطاني الموجه لجيش العبيد مختصرا مهذّباً وبرئيا، بيْدَ أنّه يحمِل فائض المعنى، ويسْتبطِنُ الكثير من الرسائل الملغومة الموجهة لخصومه من العلماء الكبار المعارضين لمشروعه السياسي، الذي كان حينها يحتاج إلى الشرعية والمشروعية لإقامة دولة الاستبداد والعبودية، وتغليفها بالمقدس الديني. بعدما أخفق السلطان المولى إسماعيل في استمالة أشهر علماء الدين، والحصول على موافقتهم باستعباد السود الأحرار، لتكوين جيش العبيد، سيُنْزلُ بهم غضبة سلطانية، وسيهاجمهم بخطابات نارية تهكمية، تُجرِّدهم من قيمتهم وتشكّكُ في كفاءتهم العلمية، وسيصفهم بطلبة العلم الفاشلين، العاجزين عن المساهمة العلمية الجادة في الشؤون المصيرية للدولة، وأولها وأهمها مسألة الوحدة والسيادة الترابية، التي تعني ضرورة وجود جيش قوي، جيشٌ يدين بالولاء للدولة فقط، وليس للقبيلة أو الزاوية أو الأعيان. هكذا انقلب السلطان المولى إسماعيل على العلماء، السلطان الذي كان بالأمس يطلب وُدَّهم ويستضيفهم في بلاطه، ويحضر دروسهم العلمية، مُعبرا عن إعجابه بكفاءتهم وأخلاقهم، ويُعاملهم على أساس أنهم أهل الحل والعقد...، هاهو يُسفّهُهم ويستصغرهم، لقد انقطع حبل الصداقة والتفاهم بين السلطان وزُبدة علماء المغرب، وشرع في حملة شرسة تستهدف تشويه صورتهم الاجتماعية، ولم يتورع في نعتهم بأسوأ النعوت، علما أنهم كانوا قامات فكرية كبيرة، أمثال العالم أبو علي الحسن اليوسي، ومحمد العربي بن أحمد بُرْدُلَّة، وأبو عبد الله محمد بن عبد القادر الفاسي، والشهيد أبو محمد عبد السلام جسوس الذي سيأمر السلطان المولى إسماعيل بقتله خنقا، بعدما وصل النقاش بينهما إلى الباب المسدود. اللحظة التاريخية للسلطان المولى إسماعيل (1645- 1727)هي القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، وهي لحظة الحداثة الفكرية وبداية عصر الأنوار في أوربا، لحظة ديكارت وجون لوك وفولتير وميلاد كانط، وتدفق موجات الثورات الفكرية والدينية والعلمية والفنية والسياسية والحقوقية...، التي ستتوّجُ بتحقق المشروع الديمقراطي، الذي كان مخاضه عسيرا ودمويا، وأزهر في النهاية منظومة الحريات وحقوق الإنسان. بهذا المعنى فإن نخبة العلماء وعلى رأسهم الشهيد أبو محمد عبد السلام جسوس شكَّلوا لحظة الحداثة والتنوير المُجهض في المغرب، سيما حين نعرف جرأتهم في مخاطبة "السلطة الحاكمة" آنذاك بقوتها وبطشها حتى مع فلذات كبدها (الأقارب والإخوة والأبناء). داخل محفل سلطاني يحضره السلطان وحاشيته من القواد والجنود، لا يتردد العلماء في تحذير السلطان من مغبة الاستبداد والطغيان، وينصحونه بضرورة اعتماد العدل والرحمة في تدبير شؤون العباد والبلاد، والتراجع عن فكرة تكوين جيش من العبيد الأحرار، لأن الإسلام في نظرهم جاء لتحرير العبيد لا استعباد الأحرار. العالم عبدالسلام جسوس في هذا المحفل السلطاني خاطب المولى إسماعيل بجرأة نادرة الحدوث: "أنا بالله واشْرَع معك آمولاي" ونهاية القصة مؤلمة هي سجن العالم جسوس والتنكيل به وتجريده من ممتلكاته وجعله عبرة في الساحات العمومية ومطالبة ذويه بفدية ثقيلة، ورغم دفعها للسلطان سيأمر بقتله. لقد رفض شرفاء علماء الدين منح السلطان الشرعية لتكريس العبودية، مؤكدين أن جميع الناس سواسية، مُطالبينه برفع ظلم رجال المخزن من عمال وقواد وجباة الضرائب، يقول العالم اليوسي الذي فضَّل قول الحقيقة على علاقته بالبلاط " فلينظر سيدنا، إن جباة مملكته قد جروا ذيول الظلم على الرعية، فأكلوا اللحم وشربوا الدم وامتشوا العظم، وامتصوا المخ، ولم يتركوا للناس دينا ولا دنيا الدنيا، فأما الدنيا فقد أخذوها، وأما الدين فقد فتنوه"، وأما فكرة تأسيس جيش من العبيد الأحرار، فسيكون جيشا ضعيفا مادامت معركة العبيد الأولى هي الحرية، لذلك ينصح الفقيه اليوسي السلطان ببناء جيش يضم القبائل المؤيدة والمحايدة وأن يتولى الجيش قادة يحبون البلاد، ويُسرعون في نجدتها عند الشدائد، ولهم غيرة على الإسلام وأهله، لا قادة همهم الوحيد ملء البطون والاتكاء على الأرائك الناعمة وتكديس الأموال والجواري.. والجور والطغيان. لقد أفضى موقف الفقهاء الأحرار الرافض والمناهض لاستعباد الأحرار، والتطبيع مع العبودية والاستبداد داخل المجتمع المغربي، إلى تهميشهم، أمام نسق مخزني كان يواجه انتفاضات كثير ومتنوعة تقودها القبائل والزوايا، وفي مدينة فاس "المدينة العلمية" كان الوضع أكثر إحراجا وغليانا، وسيزيد من تأجيجه تقزيم السلطان لأدوار النخب الدينية، واتخاذ مكناس عاصمة للحكم، وهي رسالة واضحة، على الغضبة السلطانية والزلزال السياسي، الذي سيصل درجته القصوى في استبدال "السلطة الدينية الواقعية" لعلماء الدين ب"السلطة الدينية الافتراضية" عبر التوظيف السياسي لكتاب"صحيح البخاري". أن يُحضر السلطان كتاب "صحيح البخاري" ويُخاطب عبيد البخاري قائلا: "أنا وأنتم عبيدٌ لسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرْعِه المجموع في هذا الكتاب، فكل ما أمر به نفعله وكل ما نهى عنه نتركه وعليه نُقاتِل"، وهذا يدفعنا إلى تفكيك البنية الدلالية والتداولية لهذا الخطاب الصغير الخطير: "أنا وأنتم عبيدٌ لسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم" ضدّا على المعارضة الفقهية التي ترى أن المولى إسماعيل يستعبد الأحرار وهو ما قد يدفعهم لشق عصا الطاعة، يخاطب السلطان العبيد الجدد، العبيد الذين انتزعت منهم حريتهم، كرها وغصبا "أنا وأنتم عبيد" بذكاء ومكر يطمئنهم السلطان أنه يشاركهم العبودية الرائعة نحن "عبيدٌ لسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ليعزف على مسامعهم أن العبودية هي الأصل وليس الحرية. والعبودية التي يدين بها السلطان وجيشه لِ "شرْعِه (الرسول) المجموع في هذا الكتاب" وبما أن العبودية تستلزم "الطاعة" فإن طاعة وولاء جيش العبيد للشرع، هو في عمقه طاعة لولي الأمر، لا الشرع الذي يُفتي به المعارضون من العلماء، بل ما يراه السلطان. "فكل ما أمر به نفعله وكل ما نهى عنه نتركه" ولأن جيش عبيد البخاري أقسم على الطاعة والولاء للسلطان، فتنفيذ الأوامر هو أمِرٌ موْلوي سام لا رجعة فيه بموجب القسم. " وعليه نُقاتِل" وهذا المؤشر اللغوي هو جوهر خطاب السلطان المولى إسماعيل لجيشه الجديد (الحرس السلطاني) الذي هو جيش هويته الأساسية في الجندية هي القتال والولاء فقط للدولة، والدولة من منظور المخزن الحاكم هي السلطان المولى إسماعيل. إن مسألة أسطورة "صحيح البخاري" من هذا المنظور أكبر من وجود أحاديث نبوية ضعيفة أو موضوعة، خصوصا وأن الكثير من الجهات التي تُشعِل ُ هذا النقاش مؤخرا من باحثين عرب وأجانب، تحكمها خلفية إيديولوجية ومذهبية مفضوحة، هي إلصاق العنف بالإسلام، ومغازلة الغرب باعتباره حَمَام السلم وغصن السلام. لعبة إلصاق العنف بالإسلام وغض الطرف عن مسؤولية الغرب في الحروب العالمية وإبادة الهنود الحمر والحملات الاستعمارية، وسرقة ثروات الدول الفقيرة، وتدمير الصومال وسوريا وليبيا والعراق واليمن، وصناعة العنف والنزاعات الإقليمية والعرقية وتغذيتها لبيع المزيد من أسلحة التخريب والدمار والقتل، وتخويف الحكام من بُعبع الشعب لعقد صفقات شراء الأسلحة والاستراتيجيات الأمنية، ومساعدة الحكام في اضطهاد الشعوب، والصمت عن عنف الحركة الصهيونية ضد الفلسطينيين وإبادة البوذيين بدعم من الصين لمسلمي الروهينجا، ثم يفتعل نقاش سقيم البخاري وأسطورة البخاري وغيرها من النقاشات المزيفة، التي تزيد من تكريس صفة الإسلاموفوبيا بالمسلمين وتقديم الغطاء القانوني لملاحقتهم بدعوى الإرهاب والتطرف. طبعا لا أحد يمكنه ممارسة الوصاية على النقاش العلمي الهادئ والهادف والمثمر، والبعيد عن الفرقعات الإعلامية، والمضْمرات الإيديولوجية والتضخيم الذي يشبه الحمل الكاذب، النقاش العلمي بما هو نقد بناء لا تحامل فيه ولا تساهل، يبدأ بذكر قيمة العمل المعرفي مهما كنا نختلف معه، ونريد هدمه واقتلاعه من جذوره، لذلك لا بد من الاعتراف بالمجهود الجبار الذي بذله العالم البخاري، وعدم تبخيس عمله، ومن جهة أخرى إذا قارنا بين تاريخ وفاة الإمام البخاري ( 256 هجرية) وتواريخ أقدم مخطوطة لمؤلفه الجامع الصحيح سنجد أنها كُتبت في 407 هجرية ، أي بعد رحيله زهاء 151 سنة، بعد قرن ونصف من وفاته، إضافة إلى غياب النسخة الأصلية، وعدم وجود اسم الناسخ، وهذا لا ينفي أنه صاحب المؤلف، وإلا سنسقط كل المعارف التاريخية خصوصا الموغِلة في التاريخ، من فلسفة ومنطق وفلك وطب وكل ما يشكل امتدادا للمعرفة الإنسانية. نعم تقادم زمن كتابة ونسخ كتاب "صحيح البخاري" بعد مدة طويلة 151 سنة على رحيل صاحبه، سيفسح المجال للتزييف وسيفضي إلى إمكانية التدليس، وتسلل أحاديث موضوعة تتناقض مع المضمون القرآني، ولغتها مختلفة عن لغة الأحاديث النبوية، وبالتالي ضرورة الإقرار والاعتراف بوجود بعض الأحاديث الملفقة، من طرف السلطة تارة والإيديولوجيات المعادية للإسلام تارة أخرى ومن طرف فقهاء مزيفين ألفوا أحاديث لخدمة مصالحهم...، ثم نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون الإنكار الكلي لوجود أحاديث نبوية صحيحة، مع أولوية إشراك علماء الدين وخبراء علم الحديث مع فريق البحث العلمي الفيلولوجي أو الأنثربولوجي أو التاريخي.. وممارسة النقد والفحص والتمحيص، والتخلص من الأحاديث المفبركة، والمتعارضة مع مقاصد الشريعة دون تشنج.. لأن البحث العلمي بمنهجه العلمي وأدواته وعدته المفاهيمية يهدف إلى كشف الحقيقة الخفية والممكنة، لا توجيه البحث نحو الحقيقة المطبوخة والجاهزة والمأجورة سلفا. ختاما خطورة الأسطورة Mythos لا تكمن فقط في النسج الخيالي للخطاب، ولكن في التوظيف الميتولوجي للخطاب كبنية ثقافية وبراديغم Paradigme نظام فكري للضبط الاجتماعي والنفسي، وتحويل البشر الأحرار إلى "عبيد" وجعل العبودية "مقدسة" وشعورالعبيد بالافتخار لكونهم عبيد السلطان، ودفع جماهير المواطنين الأحرار إلى تمني لحظة اختيار السلطان لهم والإنعام عليهم بالعبودية.