تأخذك الشفقة بالمنهزم حين تتفرج على مباراة يحاول فيها الفريق الخاسر الرجوع في نتيجة المباراة، ويكدّ في الحصول ولو على نتيجة التعادل بعيدِ المنال؛ وتزيد شفقتك حين تعلم أن المباراة في وقتها بدل الضائع وهي تسير إلى نهايتها في شوطها الثاني. أما إن كنت من مشجعي الفريق الفائز؛ فإنها تخالجك نشوة عارمة بالانتصار، خاصة إن كنت تتابع المباراة من منصة شرفية وليس في قبو تغيير الملابس؛ حيث قد يتوارى الكثير من الخصوم في مثل هذه الحالات، دون أن تنقطع لهم عربدة في ادعاء المظلومية والتهجم على الظروف والملابسات، ولو أن تنسب الهزيمة لعشب الملعب! لكن والمباراة مستمرة، ومادامت النتيجة النهائية لم تعلن بعد، لا ينقطع أمل الخاسر في حصول معجزة تحفظ له ماء الوجه، حتى وإن استدعت توريط الحكام في قلب النتيجة بشكل مكشوف، ولو بإعلان الصّافرة عن ضربات جزاء مجانية، أو إخراج أوراق الإنذار والطرد، أو حتى التلاعب بموعد الحسم في ترجيح كفة الفائز الحقيقي. المباراة التي نتحدث عنها ليست مباراة عادية في كرة القدم، لكنها مباراة حزبية استثنائية بمعيار اللحظة السياسية، وهي اللحظة التي تستوجب استحضار الأبعاد الإقليمية وتفاعل الشارع المحلي معها، قبل الإقدام على أي تعليق غير محسوب، أو اتخاذ مواقف شاردة على حالة شرود متوهمة. وذات اللحظة السياسية تستدعي تبيان جوانب التهافت في خطاب الاستئصال الذي يعمل بعض أعلام المرتزقة الجدد[1] على ترويجه مرة أخرى، لكن في قالب نظري ركيك لا ينهض بحجة ولا ينتصب بدليل. قسمات السامري وهو يتحدث عن حزب "العدالة والتنمية" بدت منهكة بين السطور، ويبدو أن الأساليب الميدانية لم تؤت أكلها منذ أن نفث الجرار أولى انبعاثاته على الحقل السياسي[2]، ليلجأ خطاب الاستئصال إلى استعداء الأحزاب وتأليبها على حزب المصباح وشيطنة أفكاره وقياداته بالادعاء أن "العدالة والتنمية يعادي كل الأحزاب السياسية... وينفث سمومه ويصوبها في كل الاتجاهات دون أن يستثني منها أي طرف في المعادلة السياسية المغربية". وماذا يُنتظر من سامري نُسفت أفكاره الحزبية في يمّ السياسة نسفا غير هذا الكلام المجانب للواقع، وهو ذات الواقع الذي حدثتنا حقائقه بطغيان الوافد الجديد وتحكمه المقيت في المشهد السياسي وتطويع الإدارة لحصد "الناتج السياسي الخام" وفرض أغلبيات بأجندة أحادية خلال الاستحقاقات الانتخابية؛ وحتى حين حاولت بعض الأحزاب التبرؤ من "العدالة والتنمية" في فترة معينة[3]؛ فإن ذلك لم يقها شر "البام" الذي أعمى قيادته -وقتها- الطمع في حصد ثلث مقاعد مجلس النواب. ولمّا لم يتأتَّ لبعض الهيئات الأمان من الحزب السلطوي، تحررت مواقفها بعد شكاوى متكررة والتحقت بركب الممانعة والمقاومة السياسية الذي بدأه حزب المصباح، وأضحت تعي خطورة الوافد الجديد ليس فقط على الواقع السياسي والمكتسبات الهشة في هذا المجال، وإنما أيضا على الواقع الحقوقي والاقتصادي وغيرهما من مجالات الحياة التي تمس كرامة المواطن وسلامته. وإذا كان السامريون -اليوم- يركزون جهود النقد المجاني على "العدالة والتنمية"؛ فلأنه القوة السياسية المعتبرة التي تصدت للعبث السياسي منذ الوهلة الأولى، وقاومت معاول الهدم التي باشرها أصحاب الجرار في حق التعددية والديموقراطية، قبل أن تلتحق بها كوكبة من الأحزاب بزخم متفاوت في التعبير عن الامتعاظ من سياسة الحزب الوحيد، وفي طليعة هذه الكوكبة حزب "التقدم والاشتراكية" الذي يستأهل التنويه. كما كانت "العدالة والتنمية" الجهة السياسية الوحيدة التي حافظت على نفس الوتيرة من مبدئية الخطاب السياسي تجاه كافة مظاهر الفساد لقناعة واضحة ترتكز على استيعاب معطيات الواقع، وفي صدارتها الوعي بأن مخططات "البام" مازالت قيد التنفيذ ولو توارت إلى حين بفعل الانهزامات المتوالية لقوى الاستبداد السياسي في العالم العربي، وبفعل الحراك الشعبي والشبابي الذي فضح أئمة المفسدين في عرض البلاد وطولها. ثم بعد كل المجازر في حق الديمقراطية والمكتسبات الحقوقية التي شهدتها فترة تغوّل الوافد الجديد، لا يستحي السامري أن يحدث الجمهور بما يسميه "أدبيات وأخلاقيات التنافس الديموقراطي" و"مناهضة الفساد والمفسدين" ومحاربة "الانتهازية السياسية"! وبعد كل العطب والهوان الذي أصاب قطع غيار الجرار، مازال هناك -على ما يبدو- من يحلم بمواجهة "القوى الأصولية" و"الحزب الديني" عبر مفرقعات متشبعة برطوبة الخطابات السياسية البالية التي أطلقها المد الاستئصالي المتهالك إبان سبعينات القرن الماضي. لقد كان أولى بذوي السوابق اللاديمقراطية ممن لا يحسنون قراءة الأحداث الكبرى في العالم ولا يتقنون تحليل الأوضاع الداخلية أن يندحروا ذاتيا قبل أن تخرصهم الوقائع والحقائق الواضحة للمتابعين، ولقد كان حريا بهم أن يحافظوا على صمتهم -على الأقل- إلى حين، حتى لا يكون كلامهم كمن يرش الملح على الجرح الطري؛ فحين يقول السامري: ".. الاحتماء مرة أخرى بمقولة عدم امتلاك هذه الأحزاب لقرارها، وهي لمن لا يعلم سُبَّة تودي بصاحبها إلى السجن لو كانت الظروف تسمح الآن بجرجرته في المحاكم"(اه)؛ فإنه يؤكد أن مجرد التعبير وإبداء الرأي في مسألة بعينها غير مسموح به، وكأن الأحزاب الإدارية مقدس من مقدسات المملكة، خاصة إذا أشاحت عن وجهها الحقيقي ودخلت في تنسيقي رباعي لتصبح مجرد عجلات لنفس الجرار، وتتنازل بذلك عن رموزها البدوية التي تتقاسم الكثير من التاريخ السياسي المغربي، وهو نفس التاريخ الذي طالما ردد السامري عبارات الشجب والتنديد والاستهجان في حقه حين كان تحت لواء اليسار يا حسراه!! فسبحان مبدل الألوان والأشكال!! ألا قبح الله النسيان!! ويبدو أن السامريين يتقنون "فن جرجرة الناس في المحاكم" كما جرجروا من قبل المئات من الأبرياء ظلما وعدوانا تحت طائلة الإرهاب، وكما جرجروا قيادات حزبية ذات مرجعية إسلامية قطعا للطريق على أي تحالف مبني على أساس فكري متين، وكما جرجروا -ولازالوا يجرجرون- صحفيين وحقوقيين ومفكرين؛ وعبارة "لو كانت الظروف تسمح" كأنها تشد صاحبها إلى حنين عارم من ظروف الاستبداد والتغوّل والتحكم الضائع مع نسمات التغيير الإقليمي والمحلي. وهذه "الأنا" المتضخمة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تجعل من نفسها مثار "غيرة" حتى وهي في موقف لا تحسد عليه! فأي غيرة يولدها "البام" حين يشهد قياديوه وفي مقدمتهم مؤسسوه بأن مشروع الحزب انحرف عن مساره[4]، لتتوالى بذلك الاستقالات والانشقاقات والانسحابات؟! وأي مواجهة للتيار الأصولي بقي للسامري أن يتحدث عنها أمام هذا الانحراف الذي شهد به شهود من أهلها، وليس شاهدا واحدا أو اثنين؟! وماذا بقي من "البام" ك"حزب" يدعي سامريوه توفره على مرجعية وفكر يلقى الاحترام والقبول في الأوساط السياسية، حين يعلن أمينه العام عن تفضيل قيادته لطريقة الاقتراع الفردي التي تكرس القبَلية الانتخابية والتخلف السياسي على حساب الاختيار اللائحي الذي يضع البرنامج الحزبي موضوع اختبار واختيار شعبي (ولو نظريا)؟! إنه من الأجدى والأوْلى في من لا تتوفر لديه القدرات الذاتية لمجاراة المباراة حتى الدقيقة الأخيرة أن يعتذر عن خوضها من البداية حتى لا يشوه نفسه، وحتى لا يتورط في تشويه اللعبة برمتها؛ لأن هذه المرة سيحضر المباراة جمهور غفير ونخبة واعية، ولن يكون بمقدور الحكام (الخمسة وليس الثلاثة) وحدهم قلب النتيجة بسهولة. وهي النتيجة التي لم تعد خافية على السامري حين يعبر عنها -سهوا- بقوله: "..عبد الإله بنكيران، الذي يرى فيه الناس قائدا وزعيما سياسيا.."؛ فهذا الكلام قد يكون له منطق واقعي، وسيكون أكثر واقعية إذا احترم السامريون رأي الناس ولم يمارسوا الحجر السلطوي عليهم؛ أما محاولة تأليب الفرقاء السياسيين على "العدالة والتنمية" فهذا لا يجدي نفعا؛ لأن قناعتنا مسطرة منذ أمد بعيد بأنه خير لأي حزب سياسي أن تكون تهمته في زمن الشذوذ السياسي الموسوم بأبشع صور الاشمئزاز الحسي، وحيث يروج زواج المتعة والمصلحة بين أحزاب سياسية تعفن المشهد السياسي المغربي.. خير لهذا الحزب أن ينسب ل"الفطرة" التي تعكس النزاهة والشفافية والكفاءة والمسؤولية، في زمن تتعالى فيه بعض الأصوات أن أخرجوا آل "العدالة والتنمية" من سياستكم إنهم أناس يتطهرون[2] ! ******************* [1] انظر مقال: المرتزقة الجدد! عبدالكريم كعداوي، هسبريس: 19/01/2011. [2] انظر مقال قصة حقل سياسي! عبدالكريم كعداوي، هسبريس: 29/01/2011 [3] وهو ما كان موضوع مقال: عقدة المبادئ السياسية، عبدالكريم كعداوي، هسبريس: 25/02/2010. وانظر أيضا: برقية مفتوحة إلى أحزاب...! عبدالكريم كعداوي، هسبريس: 04/02/2011. ومقال: وزارة عالي بابا! هسبريس: 04/10/2010. [4] راجع رسائل الاستقالة المقدمة ل"بيد الله"، وفي مقدمتها كتاب استقالة "فؤاد عالي الهمة" المؤرخة في 14 مايو 2011.